إن ما يميز التراجع الاردني وخطورته، عن التراجع في أي دولة عربية أخرى عوامل كثيرة تبرر حراك الشعب واهتمام النظام على السواء. فمسار التراجع في الحالة الاردنية يعتلي منحنى هابطاً باتجاه التلاعب بمصير الدولة والشعب وجودياً لصالح تصفية القضية الفلسطينية والصفقة. وإذا كان الاردن هو الدولة العربية الوحيدة التي تنعم بالاستقرار من بين الدول المجاورة حتى لو كان هشا ومحسوبا، إلا أنها الدولة الوحيدة في العالم المستهدف كيانها السياسي.. كما أنها الوحيدة التي فيها الفساد نهج حكم برضى وشراكة دولية. والدولة الوحيدة العصية على صنع أية أسباب تدعو شعبها للتفاؤل بفرج أو بحل لمشكلة واحده رغم تحالفها وخدماتها الاستراتيجية للغرب الصهيوني والكيان المحتل، بل تسهم بأسباب التراجع على كل صعيد.
ليس النظام الاردني شاذا بشموليته واستبداده بصفته جزءا من النظام العربي الرسمي. لكن الغريب أن يصبح شعب هذه الوطن أشبه ما يكون بشعب بلا دوله، وأنه يعيش في مساحة ملعب كبير يتفرج على مدار الساعة على لعبة “عسكر وحراميه “. نعم هناك سلطه في الأردن نشعر بها كشعور أبائنا وأجدادنا وهم تحت الحكم العثماني، فقر وضرائب وجندرمة وسجون، شعب هو للسلطة ليس معنيا بحاضره او مستقبله أو بوطن.
لا نعلم ما هو المطلوب من هذا الشعب هل هو السكوت والموت الصامت على مذبح المشروع الصهيوني. إن شعبا يعيش أوضاعه لا يُهدد ولا يواجه بالقمع والسجون ولا يُمتحن. فلا يستطيع الاستسلام للموت ولا لقدر أحد سوى قدر الله وسيبقى يفر منه إليه. شعب لم يتوحد يوما كما هو اليوم على رفض الواقع وظلم السياسات. ومع كل خطاب للملك أو رساله ومع كل تغيير في الاشخاص ينتابه أمل بالتغيير والفرج، وما يلبث وينام ليلته ليصحو على بطش ومحاولات تركيع. لكن التصعيد ضد الجياع والعاطلين عن العمل والمهمشين والمنتظرين للأسوأ لا يُنتج الا تصعيد، والرؤوس باتت تضيق على الطواقي.
التكليف والمطلوب في الأردن لا تُفصح عن طبيعته وسببه الرسائل المعلنة إعلاميا. بل يُفصح عنه اللقاء الثنائي الذي يسبق التكليف بين الملك وصاحب العلاقة، وإلى حد كبير النتائج. ألم يكرر الملك على الهواء طالبا عدم التهاون مع الفساد وشخوصه حتى لو كان ابنه. وهل رأينا بعد ذلك ولليوم غير تعميق الفساد وحمايته.
مصطلحات الولاية العامة والدولة الحديثة وركائز الدستور تُفَعل مع الشعب ولها طريقها، وليس مع مدير المخابرات ولا مع رئيس حكومة لا علاقة له بالشعب أو بمنصبه الدستوري. وذلك بعد ازالة كل التناقضات الدستورية وما ينقلب منها على النظام النيابي الملكي. المعنى الرئيسي الملتَقط من الحركة الادارية الأخيرة ورسالتيها المتبادلتين هي أن لا نية بالتغيير بل التصميم على نفس النهج. وكل ما كُتب عنها حمولات صحفية زائده. بل ومن التلاعب بعقول الناس إقحام رئيس الحكومة بها والذي ادعى على الهواء بأنه يملك الولاية العامة، بالقوي، ولا نعرف ما هي طبيعة هذه القوة عنده وعند من سبقوه وهو لا يمتلك ولاية عامة ولا قاعدة شعبية وطنية constituency تؤهله لمركزه او لغير yes man.
يا صاحب القرار إن الاردن ضاق بشعبه كثيرا ويتوق لفعل سياسي وتغيير حقيقي، ولا يجد سوى عكسه. حتى أصبح يصوغ خطابه السياسي بنفسه في الساحات العامة. ولا شك بأنكم تسمعون شعاراته اليائسة التي يُفترض أن تكون مرعبة لكم. وهي تزداد وتتعمق ويتسع مجالها للقرى والبوادي. فهلَّا تعتبرونها طلقات تنويرية وتستجيبون لمعانيها، أم ستفتحون جبهة ضد شعب بأكمله. هذا الشعب نام على غش دام قرنا ليستيقظ على قرن ثور أمامه. إن تحدي حراك الرابع السلمي المناشد للتغيير بتلقيط الأحرار سيكون مسئولا عن فتح الاردن كله ساحة حراك. ومسؤولا عن حرفه لما هو أعمق وأخطر. فالأحداث الدولية تزداد سخونة وتتبلور، ولا يمكن السكوت على ركل الأردن بين ارجل الصراع.
عندما لا يكون النظام الاردني راغباً أو قادراً على الانتقال لنهج جديد تستطيع به الدولة فعل شيئ منتج لمواجهة التحدي او التحديات، لا يجد أمامه وهو بنفس النهج لمواجهة الغضب الشعبي سوى التغيير والتبديل في الوجوه الذي يكون فشل الخلف فيه أكبر من فشل السلف. وعندما يطال هذا التغيير في الوجوه الدوائر الأمنية فلا معنى لذلك سوى النية في الاصرار على عدم التغيير بالمواجهة مع الشعب. ولكن الأجهزة الأمنية وعلى رأسها المخابرات ستبقى كما هي وستبقى تتراجع ايضا كجهاز، لأن المطلوب الجديد منها إن مارسته أو تمكنت منه سيزيد الطين بلة ويوسع تراجع الدولة ورقعة الغضب الشعبي عموديا وأفقيا. فتبديل الأشخاص وحده هي السياسة التي ما انفكت تُمارس عندنا، وحليفها الفشل والتراجع دائما.
لا جدال بأن الأنظمة الدكتاتورية المستبدة كلها تستخدم القمع والذبح والسلخ حين تشعر بخطر حقيقي على سلطتها التي تفتديها بالدولة وبكل ما هو أمامها. والملكية المطلقة السلطة هي أكثرها كرما في الظروف العادية بهوامش الحرية كون حكمها الدائم المدستر يجعلها أكثر ثقة، ولا تتوانى هذه الملكيات في نقد حكام اخرين حين يصبحوا في مواجهة مع شعوبهم، وتتمنى عليهم التنحي. ولسنا بعيدين عن هذا المثال ونتذكر بهذا سوريا. وهذا ليس موضوعنا هنا.
بل موضوعنا هو التساؤل هل قيادتنا الهاشمية ممثلة بشخص الملك أصبحت تشعر اليوم بخطر حقيقي على حكمها كي تتخذ اسلوب المواجهة العنيفة مع شعبها وتستعين بحث الأجهزة الأمنية على تشديد القبضة وبالعين الحمراء ؟.
وإن كان الملك يشعر بخطر من هذا القبيل، ننتقل للسؤال الأهم وهو من الذي يتحدى حكمه ؟ هل هو الشعب أم أمريكا أم من داخل العائلة المالكة. وأستثني الأخير لأنه كلام هراء، ولا هو شأن شعبي، فالنظام ملكي وراثي والدستور ينظمه. والحديث عن هذا التحدي إن وجد فهو إسقاط أجنبي لا يراد منه الا شر بهذا البلد. أما إن كان الشعب هو المتحدي فهذه مشكله كبيرة ولا تواجه الملك وحده بل تواجه مصبر الدولة التي ليس فيها بديلا وطنياً جاهزا للحكم. فهذا الافتراض ساقط وليس هناك مكون اردني مهما صغر حجمه أو كبر يفكر أو فكر لحظة في الانقلاب على وجود الملك كرأس للنظام. والكل يعلم أن البديل هو الفوضى العارمة والدم والتدخل الأجنبي المباشر. فالشعب يطالب ويطمح ويصر على تغيير نهج الملك السياسي المسئول عن تراجع الدولة بكافة قطاعتها وعن معانات الشعب المتصاعدة وتهديد الوطن والقضية. وبالتالي فإن اتهام الشعب هو أيضا إسقاط خارجي يودي الاعتقاد به والممارسات على خلفيته بالملك والدولة والمجمل.
يبقى الاحتمال الثالث وهو أن التحدي الذي قد يُشعِر الملك بخطر على حكمه هو امريكي- صهيوني. وإن كان الأمر كذلك فالملك بالتأكيد مصيب، والمعادلة التي تفرض ذلك لا تحتاج لتفسير لأنها الحقيقة التاريخية والأداة لتحقيق فكرة الوطن البديل القائمة على تفعيل الفلسطينيين والاردنيين لحقهم في تقرير مصيرهم في الاردن بصفته حسب مفهومهم الموثق جزءا من فلسطين التاريخية. ومع هذا الاحتمال لن تكون المسألة مجرد ضغوطات بل ضغوطات يتبعها ضغوطات وقرارات يصعب على الملك مواجهتها.
وهنا على الملك أن يستشعر الملعوب ويحسبها جيدا. فأي خطأ في طريقة مواجهته لهذا التحدي سيكون قاتلا.. وبصريح الكلام أقول إن كان الملك يعتقد من ذاته او من إيحاء من مستشارين أجانب بأن عليه خطر من شعبه يتطلب فرض سلطته وسطوته على الشارع واخضاعه وإسكاته وإلا فسيتخلون عنه أو سيكون حكمه في خطر، فهذا الهراء مقتل له وللشعب والدولة والقرار any miscalculation could be fatal.فالشعب الاردني بكل ألوانه هو صاحب المصلحة في بقاء الملك ويجب على الملك أن يحافظ على هذه الورقة المطلوب نزعها امريكيا صهيونيا.
لا نضحك على أنفسنا ولا على شعبنا، حل الدولتين لا وجود له ولا لاي تسوية تفاوضيه. صفقة القرن التي يدور حولها كل هذا الضجيج الاعلامي ليس فيها جديد سوى التوطين والوطن البديل، ومستلزمات ذلك هي على صعيدي الأردن الرسمي وفلسطين الشعبي، والأنظمة العربية نفضت يدها، وستأخذ اسلوب الطعوجة والحياد وتقديم التسهيلات صاغرة صغارة العملاء. وإن إفشال هذه الصفقة سيُفشل دوليا كل الاجراءات الصهيو – أمريكية في اطارها وعلى راسها قومية الدولة والقدس والجولان وتصبح مجرد قرارات للإحتلال معزولة.
رمضان شهر الحاجة والإنفاق قادم على الاردنيين كما الغزيين بجيوب فارغة، لا حفلات رمضانية ولا مآدبات. سيتحول فيه الجوع والضيق الى إيمان وغضب. فليكن غضبا راشدا ومنتجا , فمصلحة الملك بملكه مستهدفة وكذا الأردن من صلب المخطط الصهيوني، ومرتبطة اليوم (وأعني مصلحته ) بإسقاط صفقة القرن. وهذا مقدور عليه إذا انخرط الملك بقلبه مع رفض الشعب لها، وتشجيعه على ذلك ليكون سنده الذي لا يقاوم، وفرصة مباركة لتبني غضبه واستخدامه بوجه الضغوطات الأمريكية التي نفترضها وراء رفض الملك الخالي من أسس تفعيله. نحن ننتظر خطابا سياسيا للملك أو فعلا ينطوي على حراك شعبي لا يتوقف حت تسقط الصفقة.