لم يسبق للدول العربية التي نصفها بالمعتدله والصديقة لأمريكا وأن تمردت أو تذمرت من سياسة البيت الأبيض كما هو الحال في ادارة أوباما . كما لم يسبق وأن نأت بنفسها عن التدخل في السياسات الخارجية لهذه الدول في أي شأن دولي ، وحتى على مستوى ما نعتبره التوافه من المواضيع الدولية المطروحة في المؤتمرات . بل كان لسكرتير في سفارة أمريكية من الثقل والكلام المسموع لدى حكومات هذه الدول ما يكفي للإلتزام بطلبه الذي يطلبه من خلال عبارة نحن ننصح بكذا وكذا …ويقول المتلقي أن أمريكا طلبت كذا وكذا …,
وقد انسحب سلوك التذمر أيضا على الدول الاقليمية الصديقة لأمريكا والعدوة ، فلا الأولى راضية عن سياساتها اتجاهها ، ولا العدوة باتت تخشاها . فسادت لغة التطنيش وغياب مظاهر التحالف بينها وبين أصدقائها او حلفائها، ولغة الدبلوماسية والتفاهم بينها وبين أعدائها . كما سادت أيضا لغة الاختلاف والإنتقاد وعدم التنسيق بين هذه الادارة وبين المؤسسات الأمريكية نفسها حتى برزت علامات التمرد من أطراف ثالثة داخل امريكا تهم بمقاضاة السعودية بتهمة أحداث سبتمبر بأثر رجعي ، والسعودية أصبحت تهدد بسحب اصولها المالية من أمريكا .وهو اجراء لا تقبله السياسة الامريكية ولا سياسة اي من الحزبين .
أوباما أمريكي أسود وصاحب رؤية لكنه لا يواجه فيها الخصوم بل يحاورهم ويعطيهم دورا ، إنه يحمل في نفسه إرث السود في امريكا واستحقاقاته من محددات وعقد لا أقلها الشعور بالنقص والتخوف وفقدان ثقة الغير والشعور بالغربة عن المجتمع الأمريكي . وأوباما أيضا ليس من طبقة الحكام الأمريكيين من الانجلو سكسون ، ولا هو قريب أو مقرب من دائرة رسم السياسات المتمثلة بثالوث الصهيونية ومافيتي السلاح والنفط . اختارته الديمقراطية للرئاسة في ردة فعل للشارع الذي تتكاثر فيه الطبقات الباحثة عن الفرص في الداخل ، والاخرى الباحثة عن تغيير صورة امريكا التي شوهها بوش الإبن ،وقد نجح داخليا الى حد كبير . أما في السياسة الخارجية فمع أنه صاحب القرار إلا أن السلبية والمخاوف والحذر والتناقض انعكست عليها فبدت سياسة مترددة ومتراجعة وفاشلة . فهو يعيش هاجس انجاح تجربة حكم الأسود لأمريكا ويفضل أن لا يصيب على أن يخطئ
وابتدأت هذه السلبية في سياسته حين لم يستطع التأثير على اسرائيل في ملف القضية الفلسطينية التي قابلته بخشونة ، وكأنه لا يعرف بأن اسرائيل هي من تحدد سياسة امريكا في المسألة الفلسطينية من واقع تفاهمات التحالف الاستراتيجي الذي لها فيه اليد العليا ، وأن أمريكا لها ما تريد قوله كوسيط ولكن عليها أن تقف عمليا داعمة للموقف الاسرائيلي بما يخدم القرار الاسرائيلي . كما لم يستطع اوباما تغيير علاقة الشعوب العربية والاسلامية مع أمريكا كجزء من برنامجه . وكانت النتيجة أن استأسد عليه نتنياهو فتحجم مكتفيا بالتصريحات التقليدية في ضمان أمن اسرائيل وإدانة الفلسطينيين . تاركا الملفات السياسية ربما الى هيلاري كلنتون حصان المحافظين داخل الحزب الديمقراطي .
لقد اعتقد البعض بأننا في مرحلة تغيير في السياسة الأمريكية غافلين عن أن أمريكا ليست أوباما ، ولا هو من صانعي سياساتها التي يقررها تحالف الفكر المحافظ مع اللوبي الصهيوني وأصحاب المصالح المالية الكبرى . وعافلين عن أن دور أمريكا القيادي في السياسة الدولية غير قابل للنقاش كقوة أعظم ، ومصالحها في العالم هي الأكبر والأعرض ، وأن الدول العربية تشكل لأمريكا دورا سياسيا وموقعا جغرافيا ومنابع للطاقه وكلها مصالح استراتيجية لها ولا يعقل بأن تتنازل عن كل هذا الى روسيا أو غير روسيا .إلا أن فشل اوباما في سياسته الخارجية بسبب سوء وزنه لقدرته قد تسبب في الإيهام بتغيير صورة امريكا التقليدية واربك سياسات العرب بما لا يتفق مع المصالح الامريكية ، وهو يحاول اليوم ان يستثمر ما تبقى له من اشهر في رأب الصدع وإعادة الامور الى نصابها بالدبلوماسية فقط ، بعد أن عزا فشله في نصرة الحق العربي الى سياسات انظمة الحكم
إن المؤشر على تغيير سياسة أمريكا بالنسبة للعرب وربما لغيرهم هو موقفها من اسرائيل والقضية الفلسطينية ، وهو موقف مقاد ولا يستطيع رئيس أمريكي تجاوزه . إنه أمر مرتبط بتحرر أمريكا من الهيمنه الصهيونية وهذا بدوره مرتبط بتشكل الشعور الوطني لدى مواطني أمريكا و تغيير نظرتهم لها لتصبح دولتهم الوطنية على سبيل الحصر وليس أرض الفرص والعمل . حيث ما زالت العائلات الامريكية تسهر مع ابنائها على قصص ارثها في بلدانها الاصلية التي هاجرت منها (في اوروبا والعالم ) ويحذرون بعضهم البعض من إغضاب اليهود الماسكين بمفاصل أمريكا .وهذا يحتاج لجيلين جديدين او ثلاثة .
علينا أن ندرك بلا تردد أن أمريكا الأنجلو سكسونية الصهيونية تقيم تحالفا مع الأنظمة العربية لخدمة مصالحها الاستراتيجية مقابل حماية مصالح أو مقدرات هذه الأنظمه من سلطوية ومادية وأمنية ما لم تتعارض مع تلك المصالح الاستراتيجية . وإن حديث البعض عن تغيير في السياسة الامريكية منبثق عن سلوك اوباما لا عن سلوك امريكا . وقد كان الأجدى بالعرب أن يستغلوا هذه السياسة الراكدة للاستفادة منها كفرصة لتغيير شيء من طبيعة تحالفهم مع امريكا فلعلهم يحولونها الى شراكة تعطي فيها امريكا شيئا لبلدانهم وقضاياها . وقد رأوا كيف أن ايران قد استغلت الظرف الأمريكي العابر هذا .