سادت مصر المنطقه بأكملها أكثر من مرة خلال اربعة ألاف سنة قبل الميلاد وكانت جيوشها عابره للمنطقه للدفاع عن مصالحها وفرض هيبتها ، فاكتسحت كل الامبراطوريات القديمة في فترات مختلفة . وعقدت مع الحثيين اول معاهدة سياسية في التاريخ اثر معركة قادش . وكان حكامها يدركون مسئولية الإبقاء على مصر دولة عظيمة مهابة الجانب . ومع مرور الزمن وتغير خارطة المنطقة كما نراها اليوم اصبحت زعيمة اسلامية وزعيمة في بلدان عدم الانحياز وتربعت على عرش العروبة وفرضت نفسها رائدة في الفكر والثقافة والفن والتنوع وسميت بأم الدنيا . وعندما احتلت فلسطين واصبح للعرب قضية أساسية كانت هي القوة العربية التي يحسب لها الحساب
لعل من غرائب ما يلاحظه الإنسان العربي في هذه الأيام وفي المحنه التي يعيشها الوطن العربي هو غياب مصر عن دورها التاريخي وعن موقعها التقليدي على رأس الهرم العربي ، تقود العرب لتقوى بهم ويقوون بها . فنحن اليوم لا نشهد حضورا ولا دورا لمصر ولا موقفا حاسما مما يجري وكأنها قي حالة فك ارتباط مع العرب ومع مصالحها الوطنية . والمثقف يعلم خطورة هذا كما علم بفداحة خطر عدم توازن القوة بينها وبين اسرائيل كجاره عدوه ونووية .
تواجه مصر اليوم تحديات وطنية ثم قومية وإقليمية تفرض عليها مسئوليات جسام لا يمكن التعامل معها من خلال سياسة الانعزال التي تتراءى لنا . فليست هي أمريكا التي تقوم على قارة غنيه ولا هي بلا طامعين في إخضاعها ، ولا بلا جار سيبقى يهدد أمنها القومي ما دام موجودا وما دامت ضعيفة وبلا عمق استراتيجي هو العربي ، وإن موقعها الجيو السياسي يشكل خطرا كبيرا عليها إن لم تكن قادرة عل حمايته بفرض وجودها الإقليمي والدولي. لقد حكم مصر فراعنه أقوياء في العصرين القديم والحديث استطاعوا أن يبقوا على مصر دولة لا تقايض على مصالحها ولا على مركزها الإقليمي ولا عمقها العربي . إلا أن ذلك نراه اليوم ضبابيا ولا نعرف على أية أرضية يقوم ذلك ، ولا على أية استراتيجية .
إن ما ألت اليه السياسة المصرية اليوم داخليا وخارجيا يشكل لغزا أكثر مما يشكله من علامات استفهام ، ويشكل مثلها في طبيعة الاحزاب المصرية من وطنية وقومية ويسارية ومثلها في طبيعة الشخصيات السياسية والحراكية والمثقفة والمفكرة . فهؤلاء قد اعتدنا على حضورهم القوي وصوتهم العالي والجريء في وسائل الاعلام وفي الشارع في كل الازمات والحراكات التي تمر على مصر والمنطقه وأخرها في عهد مبارك ثم بالثورة على الرئيس مرسي واستقدام الرئيس السيسي بإسناد منهم ومن مختلف التيارات السياسية التي وقفت لجانبه كمصحح للمسار الديمقراطي وليد ثورة يناير. وتفاءلنا بموقفه وتصريحاته وبما خص به العرب وقضاياهم من اهتمام .
لكن المدهش أن ما تلى هذه النقطة المفصلية على الصعيد الرسمي هو توقف الحياة السياسية وتحولها إلى ما يشبه سياسة تصريف أعمال . أما على الصعيد الشعبي والحزبي فلم نعد نسمع صوتا لحزب او شخصية حراكية ولا نرى صوره لهم وكأن الزمن قد توقف . وكل هذا يطرح تساؤلات سيكيولوجية وسياسية . لقد لا حظنا غياب الاحزاب المصرية والشخصيات المستقلة مرتين في العصر الحديث هما في عهدي عبد الناصر والسيسي . ومن يبحث عن قاسم مشترك للحالتين لا يجد سوى فتح النظامين حرب تصفية لحزب الاخوان المسلمين ، فهل يكون استهداف الحزب الأقوى وكسر عظمه رسالة ترهيب وإسكات للأحزاب الأخرى التي نراها اليوم في حالة العدم كما كانت في عهد ناصر ؟ .
يلاحظ المراقب أن سياسة مصر اليوم في علاقاتها الدوليه هي خطوة للأمام تليها خطوتان للخلف لتفقدها الثقة والجدية . شهدنا تقاربا كبيرا مع روسيا وتوقيع اتفاقيات علمية وصناعية واقتصادية وعسكرية ، ثم دفنت سريعا في الأدراج . ويبدو أن التراجع كان مصريا ، بدليل استغلال الروس لحادث الطائرة وتضخيمه عقابا لمصر . وشهدنا تقاربا مصريا كبيرا مع السعودية وعندما رحل الملك رحلت معه العلاقة الحميمة . ثم شهدنا سوريا تتمزق وتستباح كعنوان يدرك السياسيون بأنه يشمل المنطقة كلها ، لكن موقف مصر منها هو اقرب للحياد في محصلته . ثم شهدنا عدم اكتراث كاف ازاء ما يحدث في اليمن وكأن الامر لا يؤثر على المصالح المصرية والعربية معا . والأعمق من هذا شهدنا كيف أن مصر التي كانت تمثل دور الوسيط بين اسرائيل وحماس تتحول الى طرف ، وتعلن حماس منظمة ارهابية . ثم رأينا الموافقه على سد النهضة الاثيوبي بشروط لم يقبلها مبارك ومع هذا التهاوي تهاوت قيمة الجنيه الى النصف
إن توقيت الغفوة المصرية لغز ليس في صالح العرب ولا مصر . فاستهداف الصهيونية لمصر لم ولن يقف عند عروبتها ، بل سيلاحقها في ذاتها كدولة . ومهما انعزلت عن العرب وعن السياسة الدولية فلن تنجو من ملاحقة الصهيونيه التي يفترض بها أن تعلم بأن مهمتها هذه صعبة. فمصر تاريخيا سيدة ورقما صعبا ، وتعلم بأن من دخلها من غزاة قد أصبحوا منها ولم تصبح هي منهم. وشعبها لا ينزع جلده ، لقد تمصر الهيكسوس وتمصر اليونانيون واعتنقوا الثقافة المصرية تماما كما تمصر الألبانيون .
تشهد الساحة الاقليمة خلطا لأوراق مكشوفة شجعت أصغر الدول العربية على دخول البازار . لكن الشعب العربي ما فتئ يضع آمالا كبيرة في مصر فهي بدره في الليلة الظلماء . فما الذي يحدث فيها وعلى أية خلفية ، إن السؤال يحتاج الى جواب مقنع ، فهل تخلي مصر عن دورها العربي وانعزالها غير الآمن هو بضغوطات خارجيه ؟ ام يأس من العروبة ومن تمرد صغار الأشقاء على القياد المصرية باستخدام المال ؟ ، أم أن اسرائيل نجحت بهدفها من خلق ارهاب سيناء ؟. والبعض يقول بأن السبب يكمن في خلفية تنصيب الرئيس السيسي بدعم من قبل قادة عرب . كل هذا او بعضه قد يكون موجودا لكنه غير كاف ،
إني كاره لقول ما أعتقده , وهو أن ما كان يجمع العرب بقيادة مصر هي فقط القضية الفلسطينية ، وبأنهم معا قد دفنوها …….. فماذا جنينا من دكتاتورية البسطار في عهد الديمقراطيات وسطوة الصهيونية ؟، دولنا كلها تمارس ولاية الفقيه بدون عمامه .فيا ليتها كانت فإن لها بعض الضوابط