عندما أخص الأردن بالنقد فلا يعني أن غيره من أقطارنا أقل سوءاً، ولكنه الوحيد المستهدف مباشرة بنفس طبيعة استهداف فلسطين، إضافة لواجبي الوطني كمواطن أردني. فحالة الأقطار العربية كلها نسخة واحدة في فشلها. لا يعنيني منها واحدة أو اثنتين تعرجان، كلها عاجزة عن القيام بوظائفها، وليس منها من تمتلك سيادتها أو تملك معياراً واحد من معايير الدول الحديثة، ولا منها مِن يحسب من المنظومة الدولية. كلها تحكمها العصابات التي تستجير بالعدو لحمايتها ومشاركتها، فلا دولة عميقة ولا بطيخ أصفر في عواصم لا عصمة بيدها وكلها مزروعة بقنابل موقوتة. وما حالة العراق وليبيا ولبنان وسوريا واليمن والصومال إلّا أرحم مما تنتظره الأخرى كمصر والأردن والسعودية ومحميات الفسق والردة والذل.
في الأردن، العلاقة بين الشعب والدولة باتت علاقة خصمين في صراع تعتريه إشكاليتان تعمقانه:
ـ الأولى: أن مركز السلطة في الدولة ملتبس على الشعب، فتارة يَفترض بأنها الملك وغالباً يفترضها الحكومات. فخطاب هذا الشعب مُعوَّم ووجهته تائهة، ومسئولية تنفيذه (حزيّره).
ـ الثانية: أن طبيعة الخصومة والصراع الحقيقيين بين الطرفين، وللطرفين مركونة في الظل وهي سياسية، ويستبدلانها بمظهر من مظاهرها بتوافق ضمني. وبنوع من تقاطع المصلحة الفاسدة. فصراع الشعب ومطالباته منصب على ضِيقه المالي والمعيشي والبطالة والفساد، بمعزل عن السبب ومواجهته، بينما السلطة الملتبسة هويتها تتجاوب مع هذا السلوك الشعبي وتعمقه باجراءاتها الاقتصادية الأقسى، وتجهد في الإبقاء على الحراكات بعيداً عن الشأن السياسي محل الصراع الحقيقي والمتسبب بموضوع الشكوى وكل شكوى تسجل ضد مجهول، وعلى إبقاء السيطرة محكمة على الحراكات المطلبية هذه كي لا تتسع ويصعب السيطرة عليها من ناحية وحتى لا تتحول لحراك سياسي. لا شك بأن الشعب يستخدم الهتافات والتعليقات السياسية ولكن كوسيلة ضاغطة على السلطة عندما يتعمق تجاهل الدولة لمطالبه أو عند المبالغة بالقمع الأمني.
فلا الشعب وصل لمرحلة من الوعي أو القرار لمواجهة طبيعة المشكلة الحقيقية التي تحدد طبيعة الصراع وهي النهج السياسي المدير لكل النهوج الفاشلة ومنها الإقتصادي، ولا السلطة تجرأ على الاعتراف بهذه الحقيقة. فالشعب بحراكاته المطلبية يتجنب الانطلاق من الواقع الحقيقي للدولة وسببه، حيث إن فعل هذا مع عدم اختمار قرار التغيير والمواجهة السياسية في عقله، سيفقد منطقية حراكه وقضيته المُلحة بأولويتها وهي الحصول على شيء من المال أو الوظيفة ويفقد ذريعة المطالبة بها مباشرة. بينما السلطة لو اعترفت بأن نهجها الاقتصادي وضغوطاتها المعيشية على الشعب خلفيتها ضغوطات سياسية، فإنها ستعري نفسها وتكشف عن زيف في وطنيتها وتفقدها شرعيتها بالبنط العريض. وبالتالي سيبقى الطرفان يدوران في حلقة مفرغة لا تنتج حلا ولا صلحاً بل تنتج تراكمات من الفشل وتعميقاً للحالة يدفع ثمنها الشعب والوطن في دولة فاشله. ولا مناص من وضوح الرؤيا للتعامل مع الرؤية المنتجة. ولا يكون هذا إلّا بفك وتفكيك الإشكاليتين أولاً للتعامل مع الواقع المر والمستقبل الأمر وقهرهما.
إما الإشكالية الأولى فتتعلق بضرورة إزالة الإلتباس الشعبي بشأن مركز السلطة والقرار النافذ، وبالذات التأكد من دور الملك في الدولة أو من صلاحياته النافذة. حيث يبدو للشعب من ناحية بأنه مالك للسلطة وأدواتها، إذ ليس هناك من قانون أو اتفاقية أو قرار إداري كبير إلّا ويصدر باسمه أو بصدور إرادته وهو من يعين الحكومات ويقيلها، ولا رؤية نسمع بها من الحكومات والأجهزة والمسؤولين إلا رؤية الملك وهو القائد العسكري والأمني الأعلى. ونراه في كل طلة له مهما كانت قصيرة وعددها قليل يُبدي تعاطفه مع الشعب وعدم الكلل من توجيه الحكومات عبر الإعلام المفتوح بعدم المساس بكرامة الأردني وحقوقه أو بحريته في التعبير عن نفسه، وبعدم مد اليد لمصالح ورزق الفقراء والطبقة الوسطى خاصة. ولكن عملياً وعلى أرض الواقع نرى الأمور تسير على عكس التوجيهات في الغالب، ويختفي الملك تماماً عن المشهد مع كل أزمة وضيق يواجهها الأردنيون. وتختفي حتى الحكومات ومعها قوانين الدوله. ويصبح جهاز الأمن والعصا الغليظة سيد الوقف مع أن الملك في عمان يرى ويسمع كل شيء.
من حق المواطن أن يتساءل، أين الملك وسلطته من كل ما يجري في الأردن في الأمس واليوم وبحق الأردنيين من ذبح ممنهج وتغريب عن الوطن، وأينه من كلامه الوردي للشعب وتوجيهاته للحكومات منذ عشرين عاماً، وأين هو من استغاثات المظلومين والمضطهدين والجائعين والعاطلين والمشردين، وأينه من القمع الأمني واستخدام أساليب فاضحة لا تتفق مع تقاليد مجتمعنا بينما ليس لدى العسكريين والأمنيين الأردنيين ثقافة التخطيط الغريب الذي نشهد تطبيقاتها، ولا من التربويين الأردنيين من يحارب عقيدتنا. فالأوطان لا تستهدف إلّا باستهداف شعوبها وهذا ما نعيشه. ومن غير المنطق أن نُجيب بأن الملك في كل هذا يضحك على شعب أو أن هناك توزيعَ أدوار، فهو ليس بحاجة لهذا ولا أن يوعد ويخذل نفسه، بل من مصلحته أن يكون الشعب مرتاحاً ومحباً له وسنداَ. ولا نستطيع القول أيضاً بأن الملك لم يعد يملك سلطة.
فمع هذه المفارقة التي نفسرها لصالح الملك وحسن نواياه ألا يصبح من حق المواطن أن يتساءل فيما إذا كان الملك في أزمة صراع مع السلطة طرفها الأخر لا يمكن أن يكون إلّا خارجياً؟ فليس في جهاز الدولة من يقول للملك لا، إلّا أن ال (لا) تمارس على الارض. ولا في الدولة من ينازعه في مُلكه. لكن الملك تكلم أكثر من مرة عن ضغوطات عليه، فهل تطورت هذه الضغوطات لتنال من سلطته أو تهددها؟ لو تأكد الشعب من هذا لهب كله في وجه أمريكا وكل أعوانها المحليين.
وبناء عليه، نريد تطميناً عن حالة السلطة والقرار في الأردن، نريد تفسيرا لسلوك الحكومات دون رادع ولعدم تجاوبها مع توجيهات الملك ورؤيته ولا مع الدستور، ولعدم تدخله لنصرة الشعب، نريد تفسيرأ للعنف الأمني غير المسبوق ضد حراكيين مسالمين لم يرتكبوا مخالفة قانونية أو دستورية أو سلوكية وتُقابلها أجهزة الدولة بالإيذاء الجسدي والاعتقالات والفصل من العمل وبما لا يتفق مع دولة يُخطَّط لها الاستقرار والأمن أو البقاء . ولماذا التجريم المطعون بقانونيته ودستوريته ضد ناشطين سياسيين يحظون بثقة الشعب . نريد تفسيراً لإجراء الإنتخابات بنفس القانون الذي كان محل نقد الملك نفسه ومحل رفض الشعب كله. نريد تفسيرا للحملة ضد الاخوان في هذا الظرف وهم الأكثر التزاما بتعليمات النظام وحرصاً عليه والأبعد عن الحراكات وليس فيهم فاسد واحد ويتلقون الضربة وراء الأخرى بصمت. ونريد وقوف الملك على سلوك بعض وسائل الاعلام التي بدأت تضرب بوحدتنا الوطنية، نريد سماع موقف للملك من كل ما يجري، ورؤية منه تكشف عن أفق للحالة المتدهورة في هذا البلد المستهدف بالتفكيك والإخضاع والإحتلال.
تجريم شعب بتهمة شكواه لحالته وتعبيره عن نفسه ورأيه بالكلمة أمر لا مآل له إلا الإنفجار والفوضى العارمة. فالتذمر الشعبي يعم مع كل هذا ومع تدمير قطاعه الخاص، والصبر ينفذ والحراكات السياسية تتوسع في النفوس. والمشكلة ليست مع المعلمين ولا مع معارضين إنما مع شعب. وليس من سلطة أو دولة تدخل بحرب مع شعبها.. فهل هناك جهة ما صاحبة أمر نافذ تُخطط لشر مستطير لهذا البلد وشعبه. نريد أن نسمع من الملك ونفكر معه بصوت عال بعيداً عن كل رويبضة وكل خائن أو مدسوس فُرض علينا أو عليه. هذا وطن لا يذهب بشربة ماء، وشعب لا يرضخ لكسر إرادته على أرضه، ولا أن تذهب فلسطين على يديه . والمواطن الذي يتخلى عن مسئوليته اتجاه ما يحدث فقبل أن يكون خائنا للدستور والقانون هو خائن للأمانة والواجب الوطني وللخلق.
أما الاشكالية الثانية والمتعلقة بتمنع الحراكات المطلبية عن العنوان السياسي الذي يمثل أصل كل بلاء في الأردن، فهذا يحتاج لمقال، ولكن باختصار أقول . حيث أن الضغوطات المعيشية على الشعب الأردني هي سياسة ممنهجة وهادفة لسبب سياسي وراءه قوى خارجية، فلن تفلح الحراكات المطلبية بتحقيق هدفها، وإذا تحقق شيئا فمناورة تنتهي، ولذلك ستتحول بالضرورة الى حراكات سياسية وتصبح في هذه الحالة المتحولة حراكات مُنتجة ومطلوبة. وهذه الحراكات حاضنتها هي النقابات المهنية كوحدات منظمة. والخلل الرئيسي بأنها لا تصطف مع بعضها ولا مع الحراكات المطلبية العامة للشعب. وهذا من واقع مجالسها ولا بد من التغلب على قصر نظرها وهزالة وطنيتها واختراقها بالنفعية ألا بئست من نقابات. وهذه مهمة لهيئاتها العمومية، ويكفي نقابتين أو ثلاث بصلابة نقابة المعلمين كي تحشد أضعافها من الشعب وراءها وتشكل نواة صلبة لضغط شعبي سياسي ملتزم وواع على النظام لإقناعه بالتغيير والإنقلاب على واقعنا السياسي والاقتصادي المفتعل، نحو وطن حر وحاضر آمن، ومستقبل مقروء.