تأخرت المقاومة الفلسطينية بعد قيام الكيان الصهيوني إلى أن شبع الفلسطينيون يأسا من الفشل العربي في التحرير. فتكرست هذه المقاومة بعد سقوط النظام العربي اثر حرب حزيران في القرن الفائت . ولاقت سيلا جارفا من تأييد الشعب العربي بكل فئاته العمرية والاجتماعية والسياسية . حتى أصبح العربي يرى نفسه في تلك المقاومة ويصنع مشهدا ذليلا لحكام العربـ وحساً شعبيا رافضا لهم ولأنظمتهم.
فرض الفلسطينيون عندها هويتهم السياسية الوطنية من جديد بعد أن ضيعها الشتات والنظام العربي تحت وابل الوعود . حيث استطاعت المقاومة الفلسطينية على تعدد تشكيلاتها الأيدولوجية أن تتوحد على هدف التحرير وتُشكل القيادة الفلسطينية، وهنا توحد الشعب الفلسطيني في الداخل والشتات خلفها لتعبيرها عن ضمير الشعب الفلسطينيـ وبهذا فرض قضيته وحقوقه غير القابلة للتصرف على الأنظمة العربية والأجندة الدولية، وكان هذا الوضع الفلسطيني يشكل درع حماية للقضية وعامل ضبط على الأنظمة العربية كلها، فالعميلة منها التي تكشر اليوم عن انيابها كنظام يهواش في الجزيرة ما كان لها الإفصاح عن خياناتها، وتعاملها مع العدو كان في منتهى السريةـ وحدوده في أضيقها، والأنظمة الوطنية كانت تحسب حسابا لشعوبها المتعاطفة مع المقاومة والقضية الفلسطينية.
لم تكن معاهدة كامب ديفيد بتأثيرها السلبي الرهيب على القضية الفلسطينية حاسمة في صنع الحاضر الفلسطيني والعربي كاتفاقية أوسلو، لأنها كانت تمثل موقفا من نظام عربي بمعزل عن الفلسطينيين أصحاب القضية المباشرين والكلمة والقرار حتى لو كانوا حينها في وضع سيء، لقد كانت أوسلو ومضامينها هي الطامة الكبرى على القضية الفلسطينية والشعب الفلسطيني والعربي عموما، لأنها مثلت ولأول مرة اعترافا فلسطينيا رسميا من القيادة الفلسطينية بإسرائيل، وكان هذا حدثا جللاً أضفى قبولا من أصحاب القضية المباشرين بدولة الكيان الصهيوني ومنح مصداقية للإدعاء الصهيوني في فلسطين ولوعد بلفورـ وجعل من بقاء الفلسطينيين على ارض فلسطين منةً صهيونية وليس حقا مشروعا . وصوَّر هذا الاعتراف كفاح الشعب الفلسطيني ودماء الشهداء العرب والفلسطينيين التي ساحت في عشرينيات وثلاثينيات القرن الفائت وما بعد ذلك على ثرى فلسطين لعبة ونكراناً لمفهوم الشهادة.
وعلى الصعيد العربي والدولي فقد طبع هذا الاعتراف الفلسطيني باسرائيل في أذهان شعوب دول الأنظمة العربية العميلة منطقا ومصداقية لخيانة أنظمتها ولسلوكها التحتانيـ وتشجعت تلك الأنظمة حتى جاهرت بخيانتها وتعميقهاـ بينما زَرع ذلك إحباطاً في الأنظمة الوطنية ووضع عليها قيودا وغير من أولوياتها، وعلى الصعيد الدولي جعل هذا الاعتراف الفلسطيني بالكيان من المقاومة الفلسطينية وخاصة بنظر الأوروبيين مقاومة غير مشروعة وبلا أساس ومسوغ، وبالتالي اعتبارها أرهابا يرتب على العرب وسلطة أوسلو مسئولية مقاومتهـ كما جعل من التهجير واللجوء الفلسطيني قضية إنسانية لا سياسيةـ وبلا حق في العودة.
النقطة الأهم هنا أن ما تقدم من نتائج ومستحقات أوسلو كان على خطورته في كفة واحده وتفتيت وحدة الشعب الفلسطيني وغياب وزنه في الكفة الأخرى والراجحة، فقد أصبح هذا الشعب منقسماً على نفسه وفي رؤاه وعاجزا عن حماية قضيته مما أدى الى الحط من مبررات ومسوغات الأنظمة الحرة في العالم في اتخاذ مواقف داعمة سياسيا وعسكريا للقضية الفلسطينية وهو يرى شعبها مغيب وتارك الأمر لقيادة حليفة ومتعاونة مع الاحتلال، كما انعكس وضع الشعب الفلسطيني هذا على الشعوب العربية التي أصابها اليأس وطأطأت رأسها لأكبر خيانة رسمية عربية تمثلت في شعاري “القطر أولا” و”الحرب على الإرهاب” المصنوع صنعا، وكلاهما شعاران صهيونيانـ والمقصود منهما انفصال الدول والشعوب العربية عن القضية الفلسطينية وتراجُع أولوية الشعوب العربية من القضية الفلسطينية الى أولويات دفاعها عن نفسها من أخطار مصنوعة وواهمة جوعا وأمناً، وتراجعت سياسيا وقيميا.
فالشعب الفلسطيني اليوم يقف منتظرا صفقة القرن كغيره من الشعوب العربيةـ وأمامه الأنظمة العربية وسلطته كل منها يقوم بما يفصل له من دورـ ومع ذلك ما زال يتعاطى أو يتعايش مع سلطة أوسلوا وساكتا عليها رغم أنها حجمت دورها كقيادة فلسطينية وصاحبة المسئولية وحمْل أمانة القضية والتحرير إلى التعهد بعدم التوقيع على الصفقة؟ ما شاء اللهـ أليست الخيانة لها أصول وقواعد؟ اليست أمريكا تعلم بحدود مقدرة العملاء وتحديد المطلوب منهم في ضوء ذلك، مِن الشعب الفلسطيني لا يعلم بأن واجب زعامة السلطة الفلسطينية لو لم تكن عميلة ومأجورة وجزءا من المشروع الصهيوني هو استباق الأمور بدءا بالتحلل من التزاماتها في خدمة الاحتلال ووقف التنسيق الأمني وسحب الاعتراف بالكيان الصهيوني والعودة لمربع ما قبل أوسلو وإعادة بناء البيت الفلسطيني بالوحدة على نهج المقاومة، لماذا السكوت والطبطبة عليها.
في هذا الظرف الذي تنهمك فيه الصهيونية الأمريكية والاسرائيلية مع أنظمة عربية للإجهاز التاريخي على وطن وشعب وقضية وعلى أمة العرب بأقطارها الكرتونية بصمت دولي وبصمت الشعوب العربية المستعبدةـ نرى بأن الشعب الفلسطيني مطالب بالتقاط لحظة تاريخية في وقتهاـ ينسف فيها هذه الصفقة ويفسد حسابات كل متآمري العالم من عرب وفرنجه وذلك بالإنتفاض بكل الوسائل لتصفية سلطة أوسلو، فعندما يحضر الوطن وكرامة الإنسان لا يبقى خط أحمر، وعندها فقط يستعيد الشعب الفلسطيني وحدته ويصنع بها الكتلة الحرجة، فالعالم كله بشرفائه وخونته يعلم بعدالة القضية الفلسطينية وبطلان الادعاء الصهيوني بفلسطين ولكنه لا يمكن أن يكون بديلا عن الشعب الفلسطينيـ ولا رافضا عنه ولا مقاوماًـ. ولا يتحقق المطلوب إلا بوحدة هذا الشعب على شرعية ومشروعية الرفض والمقاومةـ وهذا لا يكون بوجود سلطة عميلة.
إن الفلسطيني أو من هو من أصول فلسطينية يتعرض للاستهداف في كل قطر لنظام عربي وخاصة في دول الطوق وما جاورهاـ ويشعروه بالإبتزاز والملاحقة والضعف، إنه الرقم الصعب والمحظور عليه العمل السياسي الا في خدمة الأنظمةـ وبغير ذلك فليس له حق التعبير عن رأيه حتى لخدمة قضيته، وعلى الشعب الفلسطيني في فلسطين أن يغير المعادلة بوحدته على ارضه، وعلى الشعب الأردني وكل من يدعي الضمير والوطنية والخلق والدين أن لا يسمح باستهداف أي مكون من مكوناته، إن ثنائية فلسطيني – اردني ما زالت معششة في العقلية الأمنية وعلى الشعب إسقاطها على الارضـ وعلى المكون الفلسطيني من هذا الشعب أن يخرج من حالة الاستهداف ولا يكون هذا إلا باندماجه في الحراك على أوسع نطاقـ فالقضية واحده والمصير واحد ونحن الباقون ليوم الدين وهم الزائلون.
نحن الشعب العربي والفلسطيني في مقدمتهـ لا صوت دولي معنا ولا محذورا اليوم للعدو أمام ما نحن فيه و أمام المؤامرة الصهيونية الا ايران وحزب الله والتحول التركي الذي يجب أن نشجعه لا نحبطه . وإن الإستهداف الصهيو أمريكي لهذه الجهات الثلاث ليست الا على خلفية استهداف قضيتنا ودولنا وشعوبها وإخضاعنا الذي سيتوج بتنفيذ صفقة القرن . فالحرب الاقتصادية الأمريكية على ايران تستهدف حشرها بخيارين إما تغيير سياستها أو جرها لحرب مدمرة لها ولبلداننا . والسيناريو واضح بدفع ايران الى اغلاق مضيق هرمز وربما باب المندب ايضا لإيجاد مبرر لتحالف غربي واسع في الحرب على ايران .
ونحن لا نرجم بالغيب فالمعادلة الايرانية صعبة والإختيار أصعب . ولا أرى مخرجا يتفق مع مصالحنا المباشرة وغير المباشرة سوى الاسراع واستباق الأمور وحماية معسكر المقاومة ليبقى رصيدا حيوياـ إلا بتعجيل الانتفاضة على السلطة واسقاطها . فذلك وحده كفيل بجعلنا نحن من يصنع الحدث الذي يجب أن تتعامل معه أمريكا أولا لا مع ايران . وهذه الخدمة السياسية التي يمكن لحماس وكل فصائل المقاومة بما فيه أحرار فتح أن تعمل عليها بتحريك الشارع الفلسطيني .