كثر الحديث في السنتين الاخيرتين عن موات الاردنيين واستكانتهم أمام إصرار الحكومات على عدم الاصلاح ،وعدم جديتها في معاجة الفساد والتهميش السياسي وانحدار مستوى معيشتهم واستيعابهم اللكمات . حتى بتنا نعيش حالة يأس من أنفسنا نترجمها في جلد الذات .وهناك من قال بأن هذه هي طبيعتنا المورثة . فهل فعلا يعزى سلوكنا وردة فعلنا الى طبيعة موروثة أم الى ثقافة مكتسبة أم الى نقص في ولادة رجال بنفس موروثات أجدادهم . أم الى ظروف أقوى في استثنائيتها
ان مسألة انتباه الاردنيين الى حقوقهم الوطنية والدفاع عنها في قطرهم دون التفريط بدورهم القومي في قضايا الأمة هو شأن ممارس، قبل وبعد إنشاء الاردن كدوله حديثه وقبل أن تنفصل الاردن قانونيا عن الدولة العثمانية في عام 1923 . وكان هذا في إطار تلاقي الاردنيين على المحبة والتعاون والمصلحة العامة ، وهذه كانت علامة من علامات الوعي الوطني لحاله وطنيه . وإن ذكر الباحث لرواد اردنيين في هذا السياق لن يكمل القائمة بسهولة ولن ينصف أصحاب الفضل جميعهم .ولا يكون بالتالي ذكر الأسماء في هذه الحالة منصفا إلا لغايات الاستشهاد في حادثة من حديث وفقط .
إن المجتمع الاردني وخاصة في بدايته المعاصره تنوع بين فلاحين مزارعين في الشمال وتجار في الوسط وبدو في الجنوب وهذا يولد اختلافا طبيعيا في السلوك وفي الدور .وبناء عليه وعلى معطيات أخرى كان سكان الشمال والمناطق المطرية في الوسط أكثر ميلا للاستقرار، وأصحاب المال والعمل التجاري في عمان أكثر ميلا للقرب من السلطة ، وكان الجنوب هو مركز الحدث وصنعه في الاماره في كثير من الأحيان . فقد كان المدخل والحاضن للأمير عبدالله ، والقبائل فيه غير مستقرة والعسكرية من تقاليدها وجاهزة دائما . والطبيعة قاسيه وشحيحه . فكان النظام القبلي صارما وضرورة أساسية وكينونة سياسية جاهزة لا تقبل التطنيش . والقليل يعرف منا أن بدو الجنوب كانوا هم الأكثرية السكانية الساحقه .
قراءتي أن سلوك قبائل وعشائر ومشايخ وموظفي الاردن كان وطنيا اصلاحيا على المستويات السياسية والادارية والاقتصادية ومدافعا عن أمن الاردن ووحدة اراضيه . فالحكومات لم تكن تملك المال اللازم ولا القوه العسكرية الكافية للحفاظ على الامن الاجتماعي والغذائي ولا لصد الغزو الخارجي ولا نظام تحصيل راسخ للضرائب. والنظام مشغول في حوار مع المستعمرين .فالظروف الاقتصادية كانت حرجه ومسألة الضرائب حساسه .وكانت الهجمات المسلحة الخارجية على قبائل الاردن عنيفه ومستمرة لسنوات وتستهدف استقرار الدوله الجديدة ، والثارات الداخلية مستشريه والحل لم تكن تمتلكه الدولة فكان طبيعيا أن ينتزع مشايخ المناطق ولا أقول العشائر دورا مسئولا لحماية ارضهم ومالهم واستقرارهم . والقليل منا يتذكر استهداف الوهابيين لجنوب الاردن ولقبيلة الحويطات التي فقدت في احدى الغزوات الاف الابل قبل أن تصدهم لخارج الحدود . والقليل يتذكر وصول الوهابيين الى الطنيب والمشتى والقسطل وأم العمد وسط قبيلة بني صخر وتحالف القبائل الوطني هو من دحرهم بالتعاون مع بني صخر ، والقليل يسمع عن الشراقا والغرابا في الكرك والثارات الداميه التي كان حلها عند دليوان المجالي لا عند الحكومه . والقليل يتذكر توسع الهجومات لتتلقاها قبائلنا من سوريا والعراق أيضا ولتشمل العصابات التي دخلت الشمال ووصلت الجنوب . فسيادة اراضي الاردن وشعبه في فترة ما حمتها القبائل الاردنية بدماء ابنائها وانتصرت . والايقاع العشائري وطنيا بامتياز.
وأشير هنا الى حراك القبائل والعشائر والشخصيات الأردنية ونضالها السياسي والاصلاحي واعتراضها الجريء على السياسات الضريبية والادارية وعلى تركيبة وسلوك الوزارات الاولى في الاردن وعزل سكان البلاد عن الوظائف العامة والتي شملت حكومات رشيد طليع ومظهر ارسلان ورضا الركابي وهو ما كان يشكل فسادا اداريا . وأنا هنا لا أحكم على سلوك هذه الوزارات وما تبعها من حكومات على موقفها الوطني والقومي من المؤامرة الانجلو صهيونية على فلسطين وعلى الاردن ، بل اتلمس سلوك وموقف الاردنيين في تلك الحراكات وتشويه بعض الكتاب عن تلك الفترة لأسبابها وأهدافها . ولمواقف بعض الشخصيات الاردنية . حيث اعتمدت كتابات هؤلاء على ما تناقلته صحف غير حرة وعلى أقوال وتحليلات من جهات غير محايده أو للحصول على مكاسب مقابل مواقف . فهذه الحراكات لم تكن إلا مرحبة بالهاشميين وبالدولة الجديدة ولكنها كانت في مواجهة مسائل تحررية وإصلاحية وطنية بالدرجة الأولى ولم يكن الحكم الهاشمي خلافيا أو جدليا. وهكذا كانت ما سميت بثورة سلطان العدوان التي شملت كل البلقاء ، وما دعي بتمرد كليب الشريده الذي شمل كل الكوره . ولم يذكر أحد بأن الأردنيين كلهم بمناطقهم وعشائرهم وشيوخهم لم يكونوا داعمين لقدوم الامير عبدالله وتأسيس الإماره عن رغبة فيها مع اقتدار على عكسها
إننا نتكلم بفكرتنا الرئيسية في هذا المقال عن حقبتين وجيلين وسلوكين مختلفين بين الأمس واليوم . فجيل الأمس أصبح اليوم غائبا لكن تجربته بالاذهان حاضرة ولم يكن عشائريا او مناطقيا معزولا عن العمل السياسي والوطني المنظم ، بل شهد أحزابا برامجية بمعناها الحديث وحراكا وحوارا سياسيا بين تكتلات اردنية شعبية وبين الحكومات قبيل واثنا وبعد إنشاء الدولة . وكان الشيوخ أو المشايخ شعبيين ووطنيين ومصلحين ولم يلمع أو يعين أي منهم من قبل الحكومات بل كانت الحكومات تلجأ اليهم وليس العكس . كانو منشئين ومنخرطين في الحياه السياسية الشعبيه المنظمة وقامت الكثير من الأحزاب في الاردن منذ بداية عشرينيات القرن الماضي كحزب الاستقلال العربي ، وأم القرى واحرار الاردن والعهد والحر المعتدل والتضامن الاردني والاخاء .
وكانت المؤتمرت الوطنية الاصلاحية الشاملة لكل المناطق موجودة وينبثق عنها أحزاب تضم شيوخ القبائل والعشائر في الشمال والوسط والجنوب وكانت برامجها سياسية اقتصادية وطنية الى حد كبير . بل أن وجهاء عجلون وجهوا رسالة لعصبة الامم عام 28 يشكون الفساد الاداري الذي كانت تقف بريطانيا وراءه ، وعقد اثرها مؤتمر عام في قهوة حمدان في عمان ضم مندوبين عن كل الزعماء والشيوخ في الاردن برئاسة حسين الطراونه ووضعوا الميثاق الوطني للعمل السياسي الوطني والاصلاحي الوطني . والمسئولين الحكوميين من ذلك الجيل كان همهم مسئوليتهم لا وظيفتهم . وكانوا يتحملون المسئولية كما لم يتصورها جيل اليوم . فهذا التاريخ يوثق أن المرحوم علي نيازي التل حاكم الكرك قد وجه بتاريخ 6 6 1926 رسالة الى الركابي رئيس الوزراء متهما إياه بأنه عين شخصا جيء به من دمشق لوظيفة كاتب رسائل في الطفيله بدل شخص من ابناء الاردن اختاره التل لتلك الوظيفه ، وبأن ذلك التعيين جاء مخالفا للقانون . أين ديوان المحاسبه من ذاك الجيل وما يجري اليوم من فساد قد استشرى واضمحل تأثير الاصلاحيين
إن المتابع يرى بأن سلوك الحكومات لم يتغير لعدم تغيير الطريقة في تعيينها أو انتقائها ، بل سلوك الشعب قد تغير والاصطفاف العشائري قد تغير فبعد أن كان مناطقيا متكاملا اضيق اليوم وأصبح عشائريا منقسما وغيرمتكامل ، وأسلوب المواجهة لقرارات الحكومات قد تغير من المواجهة الى الاذعان . والتنسيق بين العشائر والمناطق كان من أسس العمل الوطني الاردني وأصبح اليوم معدوما . وكان التلاقي الاجتماعي والسياسي على المستوى الشعبي والعشائري بين الاردنيين والفلسطينيين في فلسطين قائما وأساسيا . ولا ننفي هنىا التعقيد الجديد باحتماء الحكومات الحديثة في قراراتها وسلوكها بالملك أو الأمير بعد أن كان شبه معدوم ولا يخرج عن التنسيق ، فلم يكن للنظام بطانة ممأسسة تجعل من نفسها حليفة له من دون الشعب ، بل كان حياديا ومفتوحا على الحكومة وعلى الشعب ومرجعا للحكومات والشعب على السواء . وأنا هنا لا أشجع على العشائرية أو المناطقية اطلاقا فهي نقيض الدولة الحديثة ولكني أقول هذا في معرض التراجع الشعبي.
أعتقد أن الخلل أو التراجع الذي نشهده اليوم يكمن في سلوك عابر للأردنيين في ظروف استثنائية يواجهها هذا الجيل ، ولا يكمن في موروثه ، مواطنين ومسئولين . فالحكومات لم تستطع اسكات اسلافنا من الجيل السابق أو تحييدهم وكانوا يتحملون المسئولية كما لم يتصورها جيل اليوم .إن هموم اليوم وتحديات المرحلة قد اتسعت وتعمقت ، ومتطلبات حاضرنا اختلف ومستقبلنا مرهون بدولة عصرية متماسكة . . إن التفاؤل والأمل بالتغيير يحتاج لعمل شعبي واع وهبة نخبوية توعوية شجاعة ومتجردة ، والأمل معقود على وقفة مختلفة من رجال هذا الوطن يتغلبون فيها على قوى الشد العكسي إكراما للوطن وتلبية لندائه ، ووفاء لأرواح الأباء وإكمالا لمسيرتهم .