منذ اللحظة التي خُطط فيها لاقامة هذه الدولة، خُطِّط لها أن تبقى محتاجة اقتصاديا وأمنيا بافقارها وإفسادها وافتعال الازمات المالية والأمنية لإحكام ربط مصير وهوية قيادتها بالمستعمر لضمان سلامة الدور المطلوب منها، وعُمِد إلى ربط مصير هوية سكان الدولة بتلك القيادة حتى لا يتشكل شعب ولا تترسخ دوله. فلم يكن وارد لدى التحالف الغربي الصهيوني، أن تبقى قياده ولا دولة ولا شعب منتمي إليها، ولذلك لم يكن واردا أن يُسمح بهوية اردنية ولا فلسطينية، وأن يبقى الأمن والاستقرار والنظام في هذه الدولة هشا بانتظار يوم النحر والابتلاع.
فبينما كانت فلسطين مستهدفة بالاحتلال، كان شرق الأردن مستهدفا بالاستخدام والاحتلال، فنشأت لعبة الدولة. وكانت طبيعة العلاقة الحقيقية بين القيادة الهاشمية المختارة لهذه الدولة وبين التحالف البريطاني – الصهيوني الذي اختارها تقوم على تقاطع المصالح المرحلي لهدفين مختلفين. ولم يكن ممكنا لتلك العلاقة أن ترقى لتحالف استراتيجي، فهدف القيادة الهاشمية بدأ بالحصول على المُلك في دولة شرق الأردن وتطور فيما بعد الى مد هذا المُلك لفلسطين وتقاسمها مع اليهود. حيث لهذا الغرض وتحقيقه اعترفت هذه القيادة بدولة يهودية في فلسطين وتقديم الدعم لعبور المهاجرين إليها والتنسيق المطلوب سياسيا وعسكريا لاقامة الكيان الصهيوني، وكبح المشاعر الوطنية الى الحد الممكن. بينما الهدف الصهيو- بريطاني الاستراتيجي يرمي إلى احتلال فلسطين وشرق الأردن كوحدة واحدة، وهو الهدف المتناقض مع هدف القيادة الهاشمية. ولم يعتبر التحالف البريطاني الصهيوني الاردن يوما إلا وديعة محمية عند القيادة الهاشمية التي يمثلها دائما شخص واحد يجري التفاهم معه، لا إثنين.
استطاع الملك حسين أن ينجح في بناء دولة مستقرة على الخارطة الدولية بعلاقته الوطيدة الإيجابية مع الشعب والجيش والمعارضة. ولكنه أبقى على سياسة إدماج هوية السكان بهويته الشخصية لا بالوطن…. وامتد الزمن عقودا بكل انتكاساته لتنجح الانتفاضة الفلسطينية وتعيد للقضية الفلسطينية مكانتها الدولية، ثم يصار لاستخدامها بولادة أوسلو من رحمها ويتم الاعتراف بالكيان الصهيوني فلسطينيا وتتوقف المقاومة الداخلية لجيل فلسطيني خال من دنس السياسة، وتتسابق الدول للاعتراف بالكيان المحتل، وينهار الوضع السياسي العربي، ويسارع الملك حسين لتوقيع معاهدة عربة لهدف أساسي هو “بقاء الاردن والمُلك الهاشمي”. وهذا ما يؤكده أفي شلايم الموصوف بصديق العائلة ومؤرخها في كتابه أسد الاردن. إذ يذكر في الصفحة 546 ما نصه ( لقد خدمت معاهدة السلام مصالح عائلة الملك وأعادت التحالف مع القوة العظمى ونشطت التحالف الاستراتيجي مع الاسرائيليين…. لقد وقَّع الملك المعاهدة لا لكي يعيد الأرض ومصادر المياه بل لحماية مملكته من الفلسطينيين……وأكد موقف العائلة الهاشمية كحليف طبيعي لاسرائيل في المنطقة) انتهى الاقتباس……. قُتل رابين، ورحل الملك وانتهت محاولة اختراق الرجلين للمشروع الصهيوني.
عشرون عاما انقضت بقيادتين غير مؤهلتين في رام الله وعمان تعاونتا مع قيادة صهيونية متطرفة سياسيا وأمنيا على الأرض وعلى شيطنة المقاومة واعتبارها تطرفا وارهابا. وهو الجرم الأكبر بحق القضية الفلسطينية الذي ما زال يُرتكب بتواطؤ عربي أوسع. نهض خلال هذين العقدين المشروع الصهيوني من جديد بنسخته الأولى الأصلية في الضفتين وهُدِمت البنى الوطنية السياسية والمادية فيهما وتبدلت القيم في الطرح. أترك الحديث عن الضفة الغربية وشعبها الذي تُرك وحده في أسوأ حال كمشروع معاناة واستشهاد بحِمل تنوء عن حمله الجبال، يدافعون عن شرف العرب والمسلمين والأقصى، وأتكلم عن الشرقية التي أصبحت مربط خيولهم.
كما ذكرنا، فإن استهداف الاردن ليس جديدا، لكن الجديد الصاعق هو في تناغم النظام مع هجمة الإستهداف النوعية الأخيرة التي تعيشها الدولة اليوم لهدم مكوناتها من سلطة وأرض وسكان ومقدرات، توطئة لاعلانها دولة فاشلة ومفلسة وخطرا على الاستقرار الدولي وإلقاء القبض عليها. حيث يتجاوب النظام مع هذه الهجمة ويرضخ لها ويشارك بها.
وليتذكر كل أردني بأن هذه الدولة المطلوب رأسها ورأس شعبها اليوم على نفس المقصلة الفلسطينية وهو جائع ومهمش ومذلول يستجدي القيادة، بأن قيادته هذه كانت قد قدمت من الخدمات المجانية لأمريكا والغرب ولاسرائيل ما يفوق ثمنه طاقة الأرقام، إنه يساوي ثمن إنجاح المشروع الصهيوني بكل تداعياته علينا وعلى العرب وما جره من الدم والأرواح والاوطان والكرامات المهدورة كلها تحت قدم الصهيونية. هذا الأردن نفسه بشعبه هو الذي يحارَب بالإفقار والتجويع والنهب والتشليح والفساد، حتى تطورت أزمته الى أزمة حكم وأزمة شعب ووطن عنوانها الحقيقي “وجود أو لا وجود” على الخارطة وأرضها.
إلا أن هذا العنوان ما زال يقابل بفشل أردني مفتعل يأخذ طابع الاستسلام للهدف الصهيوني وتخلي القيادة عن مشروع الدولة الأردنية. وهي النتيجة الطبيعية عندما تكون المقدمات من جنسها، فالمشروع الصهيوني لا يكتمل في فلسطين ما لم يكتمل في الاردن، وليس الأردني بغير الفلسطيني والعكس صحيح، وإذا نجح المشروع في الاردن وتقنن في فلسطين فلن تنجو عندها من تداعيات ذلك دولة عربية واحدة ولا مواطنا عربيا واحدا مها كانت درجة خيانته.
المتتبع لسلوك الملك يرى فيه الانسلاخ عن الواقع الاردني وما يجري، ويلاحظ عجزه عن تنفيذ أبسط الأشياء في الدولة، وقضماً كبيرا في علاقته بالجيش الخاضع للهيكلة البريطانية، وبتعيينات القيادات العسكرية والمدنية والحكومات التي أصبحت كلها كما يبدو لا تتم إلا بالتشاور مع جهات أجنبيه، ويلاحظ تضاءل الوسائل التي يعبر فيها عن سلطته، وتقزمها الى تعبيرية غير مقنعه بحجم الصور التذكارية والتغريدات في المناسبات التي تخلو من الحميمية التي اعتاد الاردنيون على سماعها من ملوكهم الهاشميين. ويصر على عدم توجيه أي خطاب سياسي يتناول فيه صيحات واحتجاجات ومخاوف الشعب أو يزيل بعض الغبار عن صفحة حاضره ومستقبله، إنه يتخذ بدلا من ذلك اسلوب الصمت والتواري، فجعبة الوعود والتطمينات فرغت ولم يعد لديه ما يقوله.
الأردنيون يصرون على عزل أنفسهم عن الواقع السياسي المستجد وعن وقوعهم في قلب لمشروع الصهيوني ولا يقتنعون بأنهم فقدوا وضعهم المزيف الذي اكتسبوه بعد إنشاء الدولة وفقدوا معه إمكانية العودة الى الأيام الخوالي ما قبل الدولة ويوارون تمنعهم عن تلبية نداء الوطن خلف أسباب واهمة، بل ويرون الدولة ما زالت هي الدولة والملك ما زال هو الملك وأن الأمر لا يتعدى وقوعه تحت تأثيرات داخلية وبأنه سيعود اليهم حاملا الريش مأخوذين بصورة المرحلة السياسية المرحومة.
فما وصل اليه الأردن الأن هو حصيلة نهج سياسي ممنهج أدى لهدم الدولة وسيادتها قطعة وراء قطعه والى شيوع الفوضى واختلال الأمن وتحليل المحرمات وعدم احساس المواطن بالدولة والقانون. ولا يعقل أن يبقى الاردنيون في غيبوبة ويكون الأردن وتكون فلسطين ضحية الصمت.
وعلى المواطن الأردني أن يدرك بإنه إذا قبل لنفسه أن يصبح مقيما في وطنه اليوم، فلن تَسمح له الصهيونية ومشروعها بذلك غدا، وستجعل مشكلته البحث عن بلد أخر فيه عشب وماء وشيء من الكرامة الإنسانية. وبغير ذلك ستجعله حطبا يشتعل في آلتها.
الأردنيون بكل مكوناتهم ما زالوا يعيشون ما بين حالة الإنكار وحالة المواطن المستقر في الحظيرة والوقت يمر. السبب واضح والحل واضح، ولا تفيد الطبطبة ولا التعامي عن الحقيقة التي تمنعنا من الإنتفاض على واقعنا وتغيير مسار مصيرنا ومصير وطننا، وهي أننا ما زلنا في الاردن مجرد سكان وجهويات، ومدننا تجمعات. ولم نتمكن لتاريخه من أن نكون شعبا ليكون الأردن دولة ووطناً وتكون هناك مواطنه، ويكون النظام منتميا. عدم خروج الناس للشارع للدفاع عن الدولة والوطن ومواجهة المشروع الصهيوني ليس مرتبطا بوطنيتنا كأفراد بقدر ما هو مرتبط بكوننا لسنا شعبا يمثل الكتلة الحرجة ويفرض بها إرادته على أمريكا والصهيونية والعالم.
لنكن واضحين، فنحن الأردنيين بمكوناتنا لا نمتلك هوية وطنية اردنية، ولن نكون بدونها شعبا. ولقد تسامحنا بها طوال عمر الدولة تحت وطأة وإغراءات سياسة العزل الوطني والقومي والجهوية والاقليمية في أجهزة الدولة العسكرية والمدنية وكرسناها بأيدينا وعمقناها بعد رحيل كلوب لتصبح دستورا غير مكتوب. فألغينا مفهوم المواطنة ومفهوم الشعب ومستحقاته أولا، ثم مفهوم وحدة مكوناته في عقولنا وأنفسنا. وهو الذي جعل من عدونا ومن نظامنا يتعاملون معنا معاملة القطيع الذي يدجن بالعصا واللقمة، وحوَّل أحفاد زعماتنا الوطنية إلى مأجورين وباعة أوطان وكرامة ولشيوخ في الفساد والإفساد. ولم نعد عطفا على نفس السياسة نضع اعتبارا لهويتنا القومية.
فالهوية الوطنية المنبثقة عن هويتنا القومية هي التي تجعلنا شعبا منتميا في الأردن، لا يمنحنا إيَّاها أحد ولا يحرمنا منها أحد. نحن من يشكلها ويفرضها على الارض. وما لم نبادر لتشكيلها بنية صافية وإيمان وقناعة أولاً وقبل أي مسعى أخر وعلى سبيل الأولوية وعلى انقاض كل الثنائيات، لا سيما ثنائية فلسطيني – أردني، فلن نكون شعبا ولا بمضمون الأمة في الأردن. ولن ينجح لنا مشروع سياسي او وطني أبدا ولا حراك، ولن يبقى أردن ولا فلسطين ولا قضية، والى جحيم الشتات نلهث وراءه ويستعصي علينا ونستجديه.