الأردن.. إلى أي مُستقر يسير؟ إنهاء شراكة القبائل في الحكم شرط لإخضاع مؤسساته لهيكله جديده تجري.. عنوانها “أردن جديد قادم” فما هو؟

إنهاء دور وثقل القبائل الأردنية مؤشر له خصوصية هامة بما يجري بهذا البلد وما يخطط له، لقد درجت الدوائر السياسة في بريطانيا ثم أمريكا لدى حديثها عن الشأن الأردني الداخلي، أن يضعوا خصوصية سياسية للقبائل الأردنية يدخلونها في حساباتهم، وكان لا يحركهم من الأحداث الداخلية في هذا البلد سوى ما يتصل بالقبائل، وكذلك كان الملكان عبدالله الأول والحسين بن طلال، وكان الملك حسين عندما يكون بزيارة في أمريكا ويحدث أي تذمر أو تململ شعبي في منطقة قبائل على خلفية ما ، يقطع زيارته بتوافق مع مضيفيه ويعود فورا للأردن لإعادة الأمور لنصابها، بمعنى أن القصر والادارات الأمريكية كخليفة لبريطانيا كانوا حريصين على إرضاء القبائل أكثر من غيرهم بكثير، وعلى استقرار العلاقة بين القبائل والقصر أيضا، وهذا لم يكن من فراغ، وأقصد بالقبائل، القبائل الأردنية من جنوب عمان الى معان.
وقد كانت هذه القبائل في عهدي الملكين السابقين مستقرة في معاشها وبنيتها الاجتماعية والهيكلية، واستمر نظام المشيخة فيها سليما ومتوارثا ، واستمر تلاحمها وتماسكها مع نفسها ومع شيوخها، واستمر القصر وحكوماته في المحافظة على سلامة وخصوصية القبائل كما هي وعدم التدخل في شئونها أو القفز عن شيوخها التقليديين أو التلاعب ببنيتها أو خلق توازنات جديدة داخلها.
إن الخلفية التي كانت وراء تلك العلاقة بين القبائل والقصر كما وضحتها في أعلاه، كانت قائمة على تحالف ومشاركة في الحكم بين القصر ممثلا بالملك، والقبائل، خَططت لها بريطانيا وفرضتها عندما أنشات الدولة كدولة دور لخدمة المشروع الصهيوني في فلسطين ولمصالح غربية أخرى، فهي كما استخدمت الملك عبدالله الأول او العائلة الهاشمية في حينه استخدمت بنفس الوقت القبائل لخدمة الأمير أو الملك من اجل استقرار الدولة لتنفيذ المطلوب منها، واستمرت هذه الحالة في الأردن حين استلمت امريكا العهدة من بريطانيا.
المهم هنا أن مستحقات هذا التحالف جاءت على شكل مشاركة القصر للقبائل في الحكم وتشكيل الجيش منها وبقيادات منها، وكذلك في تشكيل جهاز الديوان الملكي اداريا من القبائل، وتوسع الأمر ليشمل وزارة الداخلية وأجهزة الأمن، وهم في كل ذلك كانوا شركاء تنفيذيين لرغبات الملك، كما أن الملك تنفيذي لرغبات الدولة المستعمرة التي استقرت لاحقا بالرعاية الأمريكية، رغم ما في ذلك من تمييز بين مواطني البلد الواحد امتد طويلا، وما أدى اليه من قضم في الولاء للنظام . ونحن هنا لا نفترض ارضاء الملك لجميع القبائل بالشراكة لضيق الكعكة، ولذلك كان يُسْتخدم الكل لقمع الجزء المتمرد واخضاعه.
أما الأهم هنا، هو أن استحقاقات القبائل هذه، تَرَتب عليها محاذير جدية على القصر ممثلا بالملك والنظام، من ناحية، وعلى الدولة المستعمرة بنفس الوقت من ناحية ثانية، وتتمثل هذه المحاذير في أن مؤسسة الجيش وأجهزة الأمن وقياداتها كانت موحدة بوحدة القبائل التي تنتمي اليها وجزءا منها، بمعنى أن القبائل التي كانت ملتفة حول نفسها وشيوخها لم يكن الجيش معزولا عنها وعن الإنتماء اليها، وأن أي انتقاص من مستحقات القبائل أو تمرد لها سيتجاوز أثره صعوبة استخدام الملك للجيش والأمن في تسوية الأمر كما يريد، الى إمكانية حدوث تمرد مماثل في الجيش وتهديد النظام، ولذلك كان لغضب القبائل حسابات مختلفه.
وقد كانت هذه الخطورة في مسألة تحالف الملك مع القبائل ومشاركتهم بالحكم وامتلاكهم مكون الجيش والأمن معروفة لدى القصر ولدى المستعمرين، لكنها كانت ضرورية لتلك المرحلة، والقرار بانهاء هذا التحالف او المشاركة في الحكم كان مرتبطا بزمن الانتقال لمرحلة اخرى من مراحل الدولة وهو زمن مرتبط بتطور المشروع الصهيوني واحتياجاته.
وقد بدأ التمهيد لهذه المرحلة منذ أكثر من عقد، من خلال سياسة تفتيت وحدة القبائل تدريجيا وإدخالها في انقسامات داخلية وتفكيك بنيتها بوسائل مختلفة ومتدرجة، منها قوانين الانتخاب المعروفة وتنصيب شيوخ جدد بواسطة منحهم المراكز وعزل اخرين وتلميع مغمورين من خلال زيارات ملكية منتقاة ومحاباة البعض على حساب البعض، ومن خلال سياسة الإغراق في الفساد.
لقد قطع النظام مرحلة من التغييرات تتوازى مع تقدم المشروع الصهيوني في الأردن، أصبحت فيها القبائل والعشائر في الأردن مفككة ومتنافسة في مجموعات بلا روابط ولا مصالح مشتركه، بلا ثقل ولا مراكز قوة ولا مرجعيات عشائرية مما جعل من مصالح الجيش وأجهزة الأمن اليوم مرتبطة بالنظام وحده، وجعل من انتمائها حكرا عليه وله، بعيدا عن اي ارتباط قبائلي أو عشائري، وأصبحنا اليوم في مواجهة مع الواقع ومع الحقائق السكانية والوطنية الموجودة على الأرض، وأمام انتهاء شراكة القبائل في الحكم، فالنظام اليوم يثابر على إعادة هيكلة مؤسسات الدولة الرئيسية اداريا وهو ما يجري حاليا.
القبائل والعشائر لم تستوعب كل هذا ولا عمق المرحلة التي تمر بها الدولة، وتصرخ على حقوق تعتبرها مكتسبة ونزعت منها، وتُرجع الأسباب ببساطة الى تأثيرات داخلية أو عائلية على الملك بعيدا عن الحقيقة، وعادت تتكلم عن دورها الواهم في اقامة الدولة بينما المسألة ما كانت أكثر من استخدام لها وللأمير الهاشمي لاحتلال هذه الدولة في سياق تنفيذ المشروع الصهيوني.
أما مستقر الأردن كما تراه أمريكا والصهيونية وتبلغه لحلفائها، فهو دولة يُخطَط لها أن تكون أمنة ومستقرة محلولة المشاكل الاقتصادية والمالية والمائية والطاقه ومحل استثمارات، منزوعة السلاح ومحمية أمريكية تستوعب المكونات السكانية والسياسية والوطنية للملف الفلسطيني، بما فيه ادماج الملايين من اللاجئين سياسيا واقتصاديا وجغرافيا، وتسودها ديمقراطية خاصة ومتدرجة لا تهمل صناديق الاقتراع ولا تعتمد عليها كليا، وتتقبلها قبائل وعشائر الأردن تدريجيا، وملك بصلاحيات منقوصة لحساب الوضع الجديد من خلال اعادة صياغة الدستور بالتعاون مع خبراء أمريكيين،
الا أن السؤال الهام الذي طرحته أكثر من مرة هو، هل يُخطَط لهذا الإنتقال لتلك المرحلة أن يتم بسلمية وسلاسة، أم من خلال ما شهدته الدول المجاوره من عنف؟ (ومن هنا كان قلقي من ادخال الخوذ السوداء). وفي حالة التخطيط لإتمامه المخطط بسلمية، فهل سيواجه بمقاومة شعبية مع العلم بأن المؤشر لبداية الانتقال سيكون بتنازل الأردن عن أحد من الثوابت، هذا ما لا نستطيع تحديده الا بمرور الأيام، وأنا أفترض في كل ما أقوله في هذا المقال غياب الهويتين السياسيتين الفلسطينية والأردنية على الأرض الأردنية، وبالتالي غياب العمل الوطني الصادق والمنظم والناجح.
ولقد خاض الأردنيون على مدى عامين كاملين محاولات لعقد مؤتمر وطني بتمثيل من كل المكونات الوطنية السكانية في الأردن، وتأطيره لغرضين.
ـ الأول، ليفرض الشعب فيه وجوده كصاحب الوطن والقضية والقرار في مصيره ، ويواجه به امريكا والصهيونية.
ـ الثاني، ليكون ترجمة على الأرض لإخاء المكونات السكانية للأردن وتعزيز الجبهة الداخلية وسلامتها. وكلها محاولات باءت في الفشل، وأحمل المسئولية الرئيسية في هذا الى تراجع أو تلكؤ الرجال من بعض رموز الوطن من المكونين الرئيسيين، والذين يعرفون منزلتهم العالية عند الشعب وثقته بهم وما يضفونه من مصداقية وعزيمة على العمل، إلا أن النداءات ستبقى مستمرة والأمل لا ينقطع الا مع انقطاع النفَس، فلا قوة قاهرة على الأرض قادرة على قهر شعب حين يُفعّل ارادته.
كاتب وباحث عربي

Leave a Reply