ليس من شك بأن هناك تناقضا حادا بين مقومات و أدوات العمل السياسي والدبلوماسي المعاصر من مبادئ وأخلاقيات وسلوك ، وبين مبادئ الأديان الأخلاقية وقيمها المستقرة والقائمة على معتقدات وتعليمات ربانية لا تقبل التفاوض والمساومه إلا في تقية سياسيه. فهناك تلاقي بين الدول والشعوب على قواعد اللعبة السياسية ولا تلاقي بينها في المعتقدات الدينية وتعليماتها . وإذا تذكرنا أمام هذا التناقض بأن العمل السياسي والدبلوماسي للدول المعاصرة هي أداتها وأليتها المستقرة في الدفاع عن قضاياها ومصالحها وبناء قوتها واقتصادها واستقرارها ، فإننا نصبح أمام مسألة حساسة جدا لا تقبل المغامره ولا الخروج عن قواعد اللعبه ،
`إن قدر الدول الدينية أن تكون دائما في حالة قتال وصدام كونها لا تتحمل ولا تقبل مواجهة قضاياها وخلافاتها مع الدول الأخرى بمنطق القانون الدولي أو التفاوض السياسي والتنازلات إلا بقدر ما يتفق مع معتقداتها المستندة الى مرجعية دينية منزله . وعلينا أن نعترف هنا بأن اسرائيل وإن قامت على فكرة استعماريه إلا أنها باتت دولة دينية بحكم أنها قد استجلبت سكانها الى فلسطين على الفكرة التوراتية وهم اليوم الذين يشكلون الكيان الصهيوني ويؤثرون في القرار ،. وعليه فإن أي تفاوض مع اسرائيل على قواعد اللعبة السياسية هو تفاوض عقيم لا يولد سوى ترسيخ الاحتلال ما لم ترضخ اسرائيل للقواعد المدنية . وعلينا أن نعترف أن ما سبب الانتفاضات الشعبية الفلسطينية كلها على الاحتلال هو العامل الديني من جراء الاعتداء على الأقصى أو المقدسات . وتلك من أدوات المواجهه المنتجه مع اسرائيل توراتية . فبها لا بالتفاوض اعترفت اسرائل بالشعب الفلسطيني وتركت غزة وقد تترك الأقصى .
عاشت أوروبا مخاضا لقرون على وقع صراعات بين السلطتين الزمنية والدينية أدخلتها في حقبة طويلة من عدم الاستقرار والاستبداد و التخلف الحضاري والعلمي وقمع الحريات والطاقات الفكرية والابداعية، . الى ان انتفضت الشعوب على كلا الدكتاتوريتين وعلى تدخل رجال الدين بالسياسة . فأعطت االدين ورجاله الحرية والجلالة والاستقلاليه وأبعدتهم عن القرار السياسي . وفرضت الديمقراطية على السلطة الزمنية . وبدأ عهد الاستقرار والحريات العامة والتطور في كل المجالات . وانحسرت جيوب التطرف المسيحي واليهودي اليوم خارج اوروبا تسفك الدماء وحقوق الأخر حيثما تغيب الديمقراطيه أو الحمايه وبورما واسرائيل مثالا من عشرات الأمثله ..
تلك مرحلة تاريخية انتهت بحل تاريخي في اوروبا . أما نحن ، فلو استثنينا فترة حياة الرسول (صلعم ) وما تبعها من قوة دفع او تسارع acceleration لفترة معينه ، فإننا نلحظ بعدها تشكل تدريجي لبدايات الصراع والجدلية وعدم الاستقرار نتيجة التداخل الخاطئ بين الدين كما يراه رجاله والسياسة الخاطئه ، ثم تكرست كحالة مع نتائجها . وتشكلت لأول مره طبقة من رجال الدين اتخذت أزياء خاصة وفلسفات مختلفة ، وهذا لم يكن موجودا في الاسلام ولا في عهد رسولنا الكريم . ودخل العرب فيما يشبه دوامة الاوروبيين في القرون الوسطى الى ان انتهت دولة االخلافة وانتهت معها الدول العربية لتقع تحت الاستعمار غير المباشر ثم الاحتلال . وتشكلت الأحزاب على غير الأسس الديمقراطية واستبد و فشل من استولى على الحكم منها . وانتشرت جيوب التطرف الاسلامي من هذا الواقع تسفك الدماء حيثما توفرت البيئه
عندما فشلت الاحزاب القومية والوطنية واليسارية في أن يشكل أي منها قاعدة انتخابية تؤهله لأن يكون حزب معارضه ، نحت جميعها إلى استبدال هذا الفشل بدور تؤمن من خلاله الديكور الديمقراطي للأنظه مقابل احتضانها . وتفرغت الأنظمة العربية لتعيش في حالة صراع مستمر مع أحزاب الإخوان الاسلاميه كهدف صنعته لنفسها وأصبح شغلها الشاغل الذي يطغى على غيره .وذلك في سياق عدم السماح بوجود معارضه مؤهله من أي نوع أو لون سياسي ، بمعنى أنها أنظمة حريصة على أن لا يكون على الارض بديلا جاهزا لها ليكون مفهوما للشعب والمجتمع الدولي معا أن البديل عنها هو الفراغ السياسي والفوضى والدماء كخيار يفرض نفسه . ولا شك أن هذه السياسة التي تمنع زرع بذرة مسالمة للتحول الديمقراطي ، تمنع بنفس الوقت وجود مستقبل أمن أو مقروء للدول العربية وشعوبها .
إن أحزاب الإخوان الاسلامية في الدول العربيه هي بشكل عام وحدها التي استطاعت أن تشكل قواعد انتخابية كاسحه . واستطاعت أن تتأهل إجرائيا لتكون أحزاب معارضه بما تملكه من امكانيات لتشكيل حكومة ظل ولكنها فشلت عمليا في ذلك ولا نستطيع أن نعزي هذا الفشل للأنظمه ونضع نقطه . نعم إنها أحزاب تواجه هجمة من الأنظمة لأنها البديل المؤهل لها . ولكن هذه الأحزاب تواجه أيضا تحالفا سياسيا والى حد ما شعبيا سرعان ما يتشكل ضد أي سلطة تنفيذية لها على خلفية ما هي عليه من غموض في برامجها وسياساتها كأحزاب دينية في عصر الديمقراطية والحريات الشخصية . فبذور فشل أحزاب الإخوان في جني ثمار واقعها المميز موجودة فيها ، وعليها إذا أرادت الدخول في اللعبة السياسية بنجاح أن تتدبر القول بأنها لعبة لا تزاوج ناجح فيها بين الدين والسياسة ولا تقية سياسيه ينفع مع هذه اللعبة . وأن المفهوم المعاصر لمصطلح الحزب هو الحزب السياسي على أصوله الراسخه في مفهوم الديمقراطيه التي تفترض التعددية بعيدا عن نظام الحزب الواحد وعن فرض أية أيودولوجية .
إن أحزاب الإخوان مطالبة اليوم بالتخلي عن كونها طبقه داخل المجتمع . وبأن تفصل الدعوية والعمل الديني عن عملها السياسي وأن تؤمن بأن الديمقراطية مبتغى للناس وأنها سيرورة لا تتوقف عند فرز أصوات صناديق الاقتراع ولا تحكم بأيدولوجيه دينية او غيرها ، وبأن الشعوب لا تساوم على حرياتها الشخصية وخياراتها في حياتها . وأن تكتفي هذه الأحزاب بتميزها عن غيرها ببرنامج سياسي وطني في اطار عربي يرسخ ثقافة واخلاق الاسلام لا أكثر ، وبكل شفافيه . وتبدأ بإعادة تشكيل نفسها على هذا الأساس بمسمى مدني . وبغير ذلك فإن قدرها لن يتعدى قدر غيرها من الأحزاب ، وإن تعداه فليس لأبعد من حزب معارض من الطراز الثالث بعيدا عن االحكم وتداول السلطه .