لعل ما تعانيه الدول العربية وشعوبها من الفشل ومخاطر التشظي والانحلال يعود الى أنها لم تُمكَن ولم تتمكن أي منها من اقامة الدولة الوطنية المعاصره القابلة للصمود والتقدم . حيث حرص الاستعمار لدى تشكيلها في القرن العشرين على استهداف شعوبها من خلال استهداف مفهوم العدالة الاجتماعية .مستعينا بتحريم الديمقراطية وتشجيع الدكتاتورية والفساد بأنواعه ، وبتكريس سياسة الهويات الفرعية بعيدا عن الوطنية ، وسياسة الافقار والخلط ما بين مفهومي العدالة والمساواة على حساب العدالة وتحويل شعوب دولنا الى طبقتين ثرية وفقيرة بعلاقة استغلالية واستعبادية قوامها تحالف رأس المال والسلطة .
إن من أهم دعائم الدولة الوطنيه الحديثة National State هو مفهوم العداله الاجتماعيه . حيث أن مثل هذه الدوله تقوم على مفهوم الأمه الذي يجعل من كل مواطن فيها يشعر بأن هذه الدولة هي دولته ويستطيع تحقيق ذاته بها وفيها . وبأنها هي التي تحقق مصالحه وحقوقه ومتطلباته الى جانب حمايته وحماية كرامته الانسانية على الوجه الأكمل. وتصبح هذه الدولة هي هويته التي يتمسك دون غيرها من هويات فرعية يلتجئ اليها بمعزل عن الدولة والقانون . ومن هنا يتشكل انتماء الفرد الحقيقي الى هذه الدولة.
فالعدالة الاجتماعيه هي الهدف الأسمى الذي سعت اليه الرسالات السماوية والوضعية والمصلحين ، كما أنها سيرة كفاح الشعوب عبر التاريخ .إنه مفهوم مرتبط بأهم مكونات الدوله وهو ،،الشعب ،، حيث إننا عندما نتكلم عن عدم تحقق العدالة الاجتماعية فإنما نتكلم عن تمييز وفوارق اقتصادية وادارية واجتماعية وقانونيه وعن فساد وهضم حقوق وما لذلك من انعكاسات مدمره . فالدولة التي تفتقد الى العدالة الاجتماعيه لا يمكن أن يشكل شعبها أمة واحدة أو شعبا واحدا .فهي الى فشل وسقوط باركانها الثلاثه .لأن هذا الفشل ينعكس على علاقة وارتباط ركني الشعب والسلطة بالركن الثالث سلبا وهو الارض او الوطن.
ولو تابع الواحد منا سيرة العرب في العهد الجاهلي والانحطاط الذي كانوا يعيشونه ، لعرف بأن الاسلام نهض بالعرب من خلال مفهوم العدالة الاجتماعية الذي لم يكن جزءا من الثقافة العربية ، ولذلك أسبابه الاقتصادية والثقافية والبيئية ، بل جزءا من الثقافة الاسلامية التي مثلت حربا على التفرقه بكل أشكالها ومحلاتها ، ووسعت هذا المفهوم ليشمل كل النوع البشري . في حين كان مفهوم العدالة الاجتماعية جزءا من ثقافة الشعوب الاوروبية لذات الأسباب وشكل المقوم الاساسي لنجاح المصلحين في مهمتهم والتطور نحو الديمقراطية والعداله الاجتماعية ، والمساواة المحققة لمفهومها المرتبط بالعداله.
ومن هنا غُيب وغاب عن بلادنا مفهوم الدولة الحديثة وفلسفة وجودها لا سيما في الاردن كدولة مستهدفة مباشرة بكيانها السياسي ، وبهوية سكانها الوطنية سواء كانوا من غرب النهر او شرقه أومن أصول ومنابت أخرى . وأصبح المواطنون عاجزين عن الاندماج في الدولة لافتقادهم للمواطنية واعتباراتهم القانونية ، أما بطاقاتهم الشخصية فليست اكثر من بطاقة احصائية وأمنيه ، فلجأ وا الى تعريف أنفسهم بقبائلهم أومناطقهم او بأية هوية فرعية أخرى تؤمن لهم الحماية وتحقيق مصالحهم . وأصبحوا كمحميين بهوياتهم الفرعية مضطرين إذا انتفضوا على فقرهم وتعاستهم ، أن ينتفضوا على الحكومات ويتناسوا المعنيين من ابناء منطقتهم أو قبيلتهم الذين يشكلون جزءا أساسيا من الحكومات والبطانات وفسادها على حساب مكتسبات مناطقهم وحقوق مواطنيها.
يواجه الاردنيون مشهدين ضاغطين هما في الواقع تراكميين من واقع سياسة الدوله ، الاول سياسي والاخر اقتصادي . اما المشهد السياسي والقائم على نتائج متوقعه على مستقبل هوية الوطن والمواطن نتيجة دخولنا في مرحلة فرض الحلول على صعيد القضية الفلسطينية والمنطقة ، فلا يتعامل معه الشارع الاردني بنفس حدية تعامله مع المشهد الاقتصادي ، كما لا تتعامل معه التجمعات العشائرية في مدنها او بلداتها . بل تضطلع به بعض النخب السياسية والنقابية دون تأثير اوتجاوب من الدولة ومؤسساتها المختصة .إذ ليس لهذه النخب آلية سياسية ضاغطه ، ولذلك فهي لا تغير خطابها او تطوره.
في حين أن المشهد الاقتصادي الضاغط على معيشة المواطنين من خلال تزايد البطالة وضعف القطاع الخاص والهجمات الضريبية غير الراشده واخرها رفع الدعم المزعوم عن الخبز ، فالطبقة الشعبية الأوسع هي الأكثر اهتماما واستعدادا للاضطلاع بمواجهته والمُعَول عليها . وهذه الطبقة الشعبية يتركزثقلها السكاني وتنوعها في عمان واربد والزرقاء كمدن توسعت وتنوع سكانها واصبحت العشائر فيها تشكل مجرد جيوب. ولمتعد تشكل مجمعات عشائريه محمية كما في المدن الأردنية الأخرى التي حافظت على خصوصيتها العشائرية .الا أن هذه الطبقه الشعبيه الكبيره في تلك المدن تشترك مع المدن الاخرى ذات التجمعات العشائرية في فقدانها الى التعبئه السياسية والتنظيم السياسي الذي يحركها . ولم يحركها يوما الا تنظيم الاخوان المسلمين الذي أحجم عن هذه المهمه في هذه المرحلة تحت وطأة الخوف من شيطنته كما في الدول الأخرى.
ومن هنا يبدو الطريق مسدود أما الشعب الاردني للتعبير عن نفسه بطريقة شعبيه اردنية شاملة ضاغطه تمكنه من مواجهة المشهدين السياسي والاقتصادي ، وتحقيق مطالبه . فتنتهي محصلة رفضه لمايُفرض عليه الى مجرد التنفيس في وسائل التواصل الاجتماعي وبضعة اعتصامات في مدن التجمعات العشائرية المحمية من خلال هتافات ساخنه ضد المسئولين يخالطها الحس المناطقي من واقع الرغبة غي تعزيز التضامن والحماية لأنفسهم من بطش الدوله.
وبالملخص ، فإن الدولة الوطنية والتي هي دولة المواطنه التي يشكل شعبها أمة واحدة كصمام أمان لحماية مكونات الدولة وإدامتها وتعزيزها غير موجودة فيبلادنا لتاريخه .وبقدر ما يتعلق الأمر بالاردن ، فإن على شعبه مسئولية تشكيل هوية وطنية اردنية جامعة اولا ،تغيب معها المناطقية وكل الهويات الفرعية ويتشكل الحس الوطني الاردني .وهذا لا يتأتى الا بانعتاق الاردنيين من عقال العشائرية والمناطقية بانخراطهم بالعمل السياسي الوطني المنظم لهذه الغاية.
كاتب وباحث عربي