بداية، فإن أي تحليل لوضع ما بعد كورونا، تعتمد مصداقيته وحجمها على المدى الزمني لبقاء الوباء. وإن حدة تداعياته على الدول وثيقة الصلة بمدخراتها الإقتصادية والمالية وبشمولية وصواب إدارتها للحرب. فمرحلة ما بعدها هي الأصعب والأخطر ومحك الفشل أو النجاح. العالم اليوم يشهد حرب الطبيعة على النظام العالمي، وهي نكشة لمنتوج الفكرين الانفصاليين عن مصالح شعوبهم وعن وحدة مصالح البشرية ومصيرها. هذا العالم يتخاطفه النظام العالمي برأسيه، الرأسمالية الفكرية والرأسمالية المادية الاحتكاريين، ومحور كلاهما اقتصادي سلطوي في المحصلة، وفئوي التوجه. فمسيرة العالم التي يقودها نظامه تصطدم اليوم بباب إن قفز عنه سيجد نفسه فوق عجلة هلاك تتدحرج. إنها قيادة غفلت عن وضع حد لغرورها وغطرستها ولم تعد ترى غير نفسها حتى وجدتها في حرب بعنوان “اللهم نفسي”. إنه النهج المغاير للناموس.
النظام الذي يحكم العالم قام على التحالف بين الأقوياء المنتصرين بالحرب الكونية. ومفهوم التحالف بحد ذاته، طبيعته عدوانية وفئوية ومتناقض مع مفهوم التعاون، فهو يعني وجود طرف أو أطراف مستهدفة لهذا التحالف، وفي حين لم يبق حينها من الدول من تقف على قدميها أو غير مستسلمة، فلِم إذاً وضِد من هذا التحالف استمر للآن؟، ألا يحق القول بأن البشرية في وحداتها السياسية كانت المستهدفة بدفع استحقاقات الهزيمة بالحرب الكونية، وأن التحالف لذلك انقلب للتنافس البيني تحت وابل جشع السطوة والاستحواذ على الحصة الأكبر من مصير مقدرات البشرية، أليس من صِدق القول أنهم تمكنوا مبكراً من جعل دَور الشعوب ودولها دور مفاضلة واصطفاف بين معسكرين وفكرين وسياستين كشهاد زور، وربط رؤوس هذه الدول وشعوبها بذيلهما وأن استخدام مصطلح “الأمم المتحدة” كان مضللاً، وعبارة “يا شعوب العالم اتحدوا” كانت أكثر تضليلاً؟. لقد تناولت ذلك بالتفصيل في كتابي المنشور “الأمم المتحدة منظمة تبقى ونظام يرحل”.
البشرية بنظامها لم تكبر في انسانيتها وقيمها واخلاقها ولا بعلمها، وكبرت في صنع الأسلحة الفتاكة بها وببنيتها الفاسدة وبالإخلال بموازين الطبيعة. فالوباء عرّى قادتها بمنتوجهم الفاسد وغير المنصب على نفع الناس، بل على ظلمهم. وعرى الشعوب بصمتها. ولكنه سيجعل الشعوب أكثر وعياً، وسيجبر الدول على أن تنظر الى أبعد من سلوكها المادي الأناني والى معنى التعاون وتأثيره، وبأن ما يُضفي المصداقية على أنظمتها هو مدى بناء وحماية مواطنها ودولها مجال ولايتها، وامتداده كقاعدة سليمة الى شعار عالم أقوى بدول أقوى وشعوب تنعم بالعدل والرعاية. وبأن الديمقراطية التي لا يكون هدفها الإنسان ولا هدفها حماية الأقلية والضعفاء وحقوقهم من الأكثرية والأقوياء هي دكتاتورية استبدادية لا رشد فيها. هذا الوباء يطيح بظروف عيش الإنسان وسلامته على مساحة دول الأرض على خلفية قواعد سلوك نظامه وصمت هذا الإنسان. ولا يمكن لأي دولة بالعالم أن تستفرد وترسم وحدها وتصيغ نظام دولي جديد.
. فنحن نرى اليوم قادة النظام الدولي المتنافسين وسط هذا الوباء يتواصلون على حياء. ورغم أن هذا التواصل عندما ينصب على دجل مكافحة الوباء يقفز عن الحقيقة، إلا أنه يحمل معنى المكاشفة بها دون ذكرها، ويفتح بابا لهم ولبدلائهم حولها مستقبلاً. فالتعاون المطلوب للحقيقة ليس التعاون بين النهجين ولا تزاوجهما فهذا لن ينتج إلا تعميق تراجع البشرية للهاوية. فما يُنتظر من الانهيار المالي والاقتصادي الدوليين وانحسار الانتاج وفرص العمل وتفشي الفقر والجهل والمرض وتمرد الشعوب على حكوماتها وفقدان الثقة بها مع تراكم عجزها، لن يَسمح إلا بإسقاط نهج النظام العالمي بمنظومته القيمية الفاسدة، والقائم على الاستفراد أو احتكار الحقيقة وعلى استباحة القوي للضعيف في غياب لمبدأ الأمن الجماعي، وكنهج عالمي يتركز فيه الضخ المالي والعلمي والسياسي على الجانب العسكري وسباق التسلح على حساب تراجع أولوية بقية القطاعات المتعلقة بأمن الإنسان وتنميته. وقد رأت شعوب الدول العظمى كيف أن إهمال قطاع واحد من قطاعات الحياة وهو الصحي دمّر حياتها ودولها.
بعيداً عن التنجيم، أقول من المنتظر أن لا تمر تداعيات الوباء تلك وغيرها على النظام الدولي برداً وسلاماً، ولا على أي نظام محلي. فمصداقية حكومات الدول عند شعوبها ستنهار مرة واحدة. وليس من شعوب القطبين وسياستيهما من وجد ضالته فيهما. فعندما ينسحب الوباء ستصطدم الشعوب بصعوبات لم تعشها وربما لم تقرأ عنها. والصدمة ستنفجر حين يتلو العجزُ عجزاً. وستبدأ معركة الشعوب مع حكامها وهم في أضعف موقف.
ستصمد الدول الدكتاتورية أمام شعوبها بالحديد والنار حتى تستلم بالعدوى من مصير حكام الدول الديمقراطية. فالمواجهة القادمة والمنتجة من المفترض أن تكون بثورة شعوب الديمقراطيات المزيفة بحكام لا يؤمنون بها، بثورة عليهم وعلى طبيعة ممارستهم للديمقراطية ببلدانهم وعلى شعوب العالم. إنها شعوب الديمقراطيات التي ابتلعت الكذبة ولن تبتلع نتائجها، وهي التي تمتلك فرصة الحرية الأوسع، والتغيير ستهب رياحه من هناك. وسترضخ تلك القيادات وترحل بوبائها ويمتد وباء الرحيل لأصنامها في الدول الأخرى. وسيكون المستقبل المؤمل هو للعمل على نظام دولي تشاركي عادل ومتوازن، تعاوني غير إقصائي ولا تحالفي، هدفه وقوامه الإنسان ومبدأ الأمن الجماعي وتقديس وحرمة حقوق الشعوب بأوطانها وخياراتها الوطنية…
وفي العرب وفي بلدي الأردن أقول، إن حكام الدول من أعوان ومأجوري الصهيونية في أقطارنا قد تَوزع سلوكهم في حرب الوباء على نحوين ما بين تلميع أنفسهم أمام قوى الاستكبار المنهارة تاركين شعوبهم تسبح في مستنقع الوباء، وبين تلميع أنفسهم أمام شعوبهم لغسيل فسادهم وبناء ثقة جديدة لفساد أعظم. وليس من الفئتين ولا ما تبقى مَن تَغير سلوكه أو نهجه ليواكب تداعيات الحدث القادمة حماية لوطنه وشعبه. وليس في معظمها من تمتلك مخزوناَ اقتصادياً أو ماليا يقيها انفراط عقدها وإعادة صياغته بعقد أسفل بعد مخاض من كل صنوف المعاناة غير المسبوقة
وكمواطن أردني أقول، بأن الأردن لتاريخه، من البلدان النادرة في السيطرة على الوباء، وتعلم درس هذا الوباء والعمل به مبكراً، حتى لو انتهاء الوباء مرتبطا بخروجه من الدول قاطبة. وبالمقابل، هذا البلد مستنزَف اقتصادياً ومالياً ومقدرات، وغالبية شعبه في وضع اقتصادي إن طالت الفترة فقد لا يستطيع التعايش معها. وفي معركته هذه يَستنزف المستنزَف وما تبقى من عكازات الإقتصاد بلا حسبة ولا خطة لما بعد رحيل الوباء. وكأنه يتعامل معه كمعركة صحية عابرة ليس أكثر وأنها ستنتهي بأسابيع ويعود نظامه بطلا يصفق له الشعب وتعود الدولة أكثر صموداً. والأنكى والأبلى فإننا نشهد قرارات هذا الجيل الحكومي المدوّل من نظام الفساد تصب في مصالح امتداداتها الرأسمالية الفاسدة لتؤكد على بقاء العقلية والنظام الفاسد وإنعاش وحشيته ليصبح البلد غنيمة لفسدته في السلم والحرب على السواء، بينما تتأكل قدرات الطبقة الإقتصادية المتوسطة والضعيفة والتي تشكل الخمرة الوطنية للصمود وللنهوض بعد الموات.
يا صاحب القرار ومقرر استخدام نفس العلبة لمرحلة هي الأخطر والأحوج لرجالها وأخصائييها ولكل جهد شعبي ولخبرات السوق المهمش. تذكر بأن هذا البلد متميز باستهدافه عن نوعية استهداف باقي اجزاء الوطن العربي لارتباطه بنوعية استهداف فلسطين، ولا يحتمل هزات شعبية أثارها معاكسة. فإذا لم تسارع الآن بصفتك رأس النظام ومختار حكوماته ومستبْقيها والمتحمل الأكبر للمسئولية، الى اتخاذ إجراءات إدارية واقتصادية ومالية حمائية جريئة تطبق فيها قانون الدفاع على نفسك وعلى الحكومة وامتداداتها الفاسدة وتستعيد بها مقدرات وأموال الدولة وشعبها وكل أسباب الصمود المنهوبة والمهدورة لمواجهة تداعيات ما بعد رحيل الوباء، فإنك ستُعرض بلدنا وشعبنا للهلاك والسقوط في فم الغول الصهيوني.
وتَذكّر بأن الشعب بفقرائه يعيش اليوم مستحقات مكافحة الوباء بكل تعاون وتضحية وبحسه الوطني. إلا أن الأمر سيكون مختلفا جدا بعد رحيل الوباء ما لم تنتبه جيدا للحظة تغيير النهج المأزوم. فكل ما كان طبيعياً للنظام ويتعايش معه الشعب لن يعود طبيعيا للدولة ولن يستطيع الشعب التعايش معه. إنها الفرصة الثمينة قبل أن يصحو المواطن على نفسه مستنزَفاً على وضع لا يجد فيه مكانًاً ولا فرصة للعيش ولا للحكمة والصبر. وستكون ثورة مجتمعية عمياء بكل استحقاقاتها الخطيرة.