الوطن العربي بشعبه في الشرق الأوسط السياسي كان وما زال هدفا استراتيجيا للغرب بحافز يختلف عن حافز الصهيونية في استهداف ذات المنطقة وشعبها. فالحافز الغربي هو اقتصادي الطبيعة مع رابط الخوف الثقافي والتاريخي. إلا أنه بالنسبة للصهيونية حافز سياسي اتخذ من فلسطين قاعدة لاخضاع المنطقة انطلاقا للعالمية، لتكون الحاكم العميق للعالم. ومن هنا نحن نعيش حقبة تحالف استراتيجي بين الغرب والصهيونية يقوم على استخدام كل طرف منهما الأخر لغرضين مختلفي الطبيعة. ولا شك بأن تقاطع المصالح الذي يقوم عليه التحالف سينتهي يوما. وبروتوكولات حكماء صهيون في هذا حقيقة يعرفها الغرب، والماسونية حقيقة كحزب صهيوني عابر للقارات هو الاقوى والأكثر تأثيرا في العالم.
لقد قطع التحالف المذكور مرحلة حصل فيها الغرب بقيادة امريكا على هدفهم بإيصال العرب ومنطقتهم الى الوضع الذي يريدونه، بينما لم يستطع هذا التحالف بعد من اغلاق ملف فلسطين والمشوار طويل. إلا أن ما تحقق للأوروبيين وامريكا قد أدخلهم في مرحلة جديدة هي المحافظة على هذه المكتسبات وعلى الوضع العربي هذا. والإعاقات امامهم تتمثل بتهديدين ماثلين. الأول السياسة الايرانية الاستراتيجية المنافسة في الاقليم وفي المنطقة العربية. والثاني هو الشعب العربي بقيادة الشعب الفلسطيني العصي على التطبيع والقبول باسرائيل والاحتلال ولِما لنجاح العرب في إيقاف المشروع الصهيوني من أثر على بناء مشروع عربي نهضوي مقاوم للهيمنة الغربية والأمريكية وقادر على طردها.
فهذه المرحلة الأمريكية الثانية في مواجهة التحديين المشار اليهما، تتقاسم فيها امريكا واسرائيل المصلحة الحيوية لكنها أكثر حيوية لاسرائيل لأن مشروعها لم تكتمل مرحلته الأولى المتمثلة بإغلاق ملف الاحتلال والقضية الفلسطينية، مع ايران تزداد ارادة وتحديا.
المهم هنا أن رؤية أمريكا تختلف عن رؤية اسرائيل في تسوية المسألة الايرانية والفلسطينية. فرؤية امريكا التقليدية لا تتضمن سحق ايران والقضية الفلسطينية. بينما اسرائيل لا يحتمل مشروعها الصهيوني لوجود ايران دولة قوية أو حرة في المنطقة، ولا يحتمل شعبا فلسطينيا بقضية ولا سيادة فلسطينية على شبر من فلسطين.
فأمريكا والغرب لا يطمعون ولا يطمحون للسيطرة على ايران ومواردها ولا يخيفهم مشروعها النهضوي إن بقي في حدود دولتهم وإنما قد يخيفهم ثقافة ايران الاسلامية وتلاقيها مع العرب. ولذلك هم يكتفون بإحداث شرخ في الانتماء الاسلامي الواحد بواسطة المذهبين السني والشيعي الذي تمثله ايران. حيث أن الخوف التاريخي والطموح والأطماع الغربية الامريكية الحالية هي في الوطن العربي الذي تشكل وحدته أو نهضته خطرا كبير على المصالح الامبريالية المادية والثقافية.
ولذلك فإن السياسة الأمريكية المستقرة قديما وحديثا نحو ايران هي في أن تكون قوية وسيفا وهميا بوجه العرب كي لا يكون هناك صلح ولا تلاقي بين الجناحين الاسلاميين، العربي والفارسي، بل أن يكونوا في عداء عقدي وقومي وتبقى الدول العربية عاجزة ومرتمية في حضن حماية وهمية ومقدراتها الثمن الحقيقي.
ونظرا لطبيعة المرحلة التي لم يعد فيها دولة عربية واحدة مؤثرة على اسرائيل او على المصالح الأمريكية في المنطقة فلا تطمح امريكا الى “ايران شاه “خاضع لها بل الى ايران ذات نظام مستقر ودولة قوية داخل حدودها ولا تتحدى المصالح الأمريكية والغربية. بل أن امتلاك ايران للسلاح النووي حينها لا يشكل هاجسا استراتيجيا لأمريكا، إنه هاجس استراتيجي لاسرائيل التي لا تريد رادعا لها ولا منافسا في الاقليم. وهذا الاختلاف في السياسة الاسرائيلية إزاء ايران ودول الاقليم هو من واقع طبيعة المشروع الصهيوني الرامي الى الهيمنة على الاقليم للإنطلاق الى العالمية التي تجعل من الغرب مستهدفا.
فاسرائيل التي ترى في العرب تناقضا أساسيا لها، وتنظر الى ايران نظرة المنافس الخطير لها في السيطرة السياسية على الاقليم الذي تسعى لإخضاعه والانطلاق منه، تدفع في هذه المرحلة الى عدم استقرار المنطقه في ظل المعادله القائمه التي لم تتمكن فيها من اغلاق ملف القضية الفلسطينية من ناحيه،وتشكل فيها ايران من ناحية اخرى دولة قوية وحرة تهدد مشروعها. فهي لا تكتفي بايران كما تريدها أمريكا دولة قوية ومستقره وحره على قاعدة عدم تحدي مصالحها وأطماعها. بل أن المسألة لها هي مسألة استفراد بالهيمنة على الاقليم، وتريد إيران إما مدمرة كأي دولة عربية وإما “ايران شاه ” وهذا ما تسعى الى تحقيقه في تركيا أيضا في مرحلة لاحقه.
العقبة الكبرى التي تواجه ايران هي أنها صاحبة مشروع يتخطى حدودها وشعبها ومصالحها القومية وأن هذا المشروع تحكمه الفكرة الدينية المذهبيه، أو أنها من أهم أدواتها الظاهرة أمامنا. لقد قامت يثورة انعتقت بها من الهيمنة الغربية الصهيونية بحركة واحدة واعتمدت مبدأ تصدير الثورة. وهذا المبدأ التقطته امريكا واسرائيل بمفهومين مختلفين من حيث المكان لوجهة التصدير، وطبيعة مشروع الثورة. فالسؤال الذي يتبادر الى أي ذهن هو تصديرها الى أين وما هي غايتها. والاجابة الصحيحة لا تعني أية خطورة لأمريكا وكذا الدول الكبرى لأنها تعرف بأن وجهة المشروع وحدود مكانه لا يتعدى الوطن العربي الجريح، وتعرف أن طبيعته لا خبز قوت له ولا حواضن في اوروبا والعالم. وأنها أي أمريكا ترى أنها قادرة على جعل المشروع الايراني محل استخدام لها واستثمار في المنطقة. حيث أن امريكا لا تأخذ الأمر او المشروع الايراني إلا على المحمل الذي يهمها منه وهو الاقتصادي بخلاف الرؤية الاسرائيلية. وهذا ما يحدد بل حدد طبيعة السياسة الأمريكية إزاء ايران
. . بينما اسرائيل التي تعرف التي تعرف مكان المشروع أيضا فلا تأخذه الا على محمل سياسي استراتيجي غير قابل للتفاوض ولا يحتمل لها سوى المواجهة، ذلك أن المشروع الصهيوني في المنطقة العربية والاقليم لا يحتمل الشراكة. فإن كان المشروع الايراني يصطدم مع المشروع الامريكي في المنطقة فإنه يتناقض كليا مع المشروع الصهيوني الذي لا يقبل بإيران قوية ومتقدمة حتى داخل حدودها. ولذلك تبقى الحلول الدبلوماسية والسياسية ممكنه بين امريكا وايران ويمكن التعايش معها، بينما لن يكون الصراع الايراني الاسرائيلي خاضعا لأنصاف الحلول أو لما يسمى ب Compromise. فالمشروع الايراني يساوي في تعقيده وصعوبة تحقيقه نفس صعوبة المشروع الصهيوني وتحقيقه.
وعليه فإن الصراع العمبق والمعقد والصعب تسويته دبلوماسيا وسياسيا هو بين اسرائيل وايران. الا أن مصلحة الكيان الصهيوني وقراره راسخا في أن لا تكون المواجهة العسكرية بينه وبين ايران فالميزان ليس لصالحها والبديل متوفر في ( الاستخدام الأمريكي ). بينما مصلحة ايران أن لا تطرح قضيتها دوليا على أنها مع اسرائيل حيث لا تجد الدعم، ليصبح الميزان أيضا ليس لصالحها. فالمصلحة والرغبة متقاطعة بين الكيان والدولة في أن لا تكون المواجهة بينهما مباشرة. ولا بديل عن أن يكون البديل امريكا نائبة عن اسرائيل في مواجهة ايران. إلا أن أيران تعلم مدى الاستهداف الأمريكي المحدود لها وتمَسُك امريكا بوجودها قوية وربما بنظامها العقدي نفسه، وبأنها تتحاشى الصدام العسكري مع ايران الذي سيفقد امريكا هيبتها العسكرية ويضر بادارة ترامب سياسيا، فايران قادره على إيذائها.
ولذلك فإن ايران تواجه الحرب الاقتصادية الأمريكية الخانقة بصنع ضغوطات على اوروبا وأمريكا بوسائل جريئة جدا لاستدراج التفاوض بشروط مواتية لها وليس تحت ضغط الحصار. وربما منها التعرض أو التحرش بالملاحة البحرية وخطوطها، واستخدام الحوثيين لضرب مناطق حيوية للسعودية بوسائل بسيطة متقدمة لإحراج أمريكا وتعرية نواياها وقدرتها على فعل شيء للسعودية وللنظام العربي المرتمي. وقد عملت هذه الضربات على ترشيد التصريحات السعودية.
بينما خيار اسرائيل هو أن تبقى بمساعدة السعودية الطرف الساعي للضغط على امريكا ومحاولة توريطها بمواجهات سياسية ومغامرات عسكرية على صعيدي القضية الفلسطينية وإيران. وتعرف اسرائيل بأن ذلك التطرف الذي تطلبه من امريكا هو على حساب سلامة التخطيط الأمريكي ازاء ايران، الباحث عن مصلحة امريكا بطريقة أقل خسارة.
وقد حاولت أمريكا بالآونة الأخيرة أن تدخل في لعبة عسكرة صراعها مع ايران على خلفية تسهيل مرور حلقات صفقة القرن، وأوقعت نفسها بخطأ كبير أدى لإذعانها. حيث فشلت بكثير من الخزي وارتد فشلها إيجابيا على الشعوب العربية لا سيما الفلسطيني والمقاومة الفلسطينية وأنظمتها الى حد ما، وسلبيا على ثقة الأنظمة العربية التي تستقوي بأمريكا. ولعل في إذعان أمريكا دلالة على أنها ستلتزم بميزانها القائم على الربح والخسارة المادية في سياق مصالحها. وأن لا طريق أمام اسرائيل في النهاية إلا دخول المواجهة مع ايران وتوريط أمريكا ولكن كشريك محدود الفعالية. ولن تنتهي أزمة اسرائبل.
لو كان القرار بيد النظام الرسمي العربي خالصا لما كانت لأمريكا مشكلة تعجز عن حلها في بلادنا، ولتمكنت اسرائيل من شطب الملف الفلسطيني. لكن قرارها وقدرتها محدودة بوجود شعب رافض ويتنفس. ولو كان القراربيد الشعب خالصا لما كانت المعاناة ولا الهيمنة ولا الاحتلال. ولكن مع وجود الشعب العربي الرافض بقيادة الشعب الفلسطيني الروحية والمعنوية ستبقى الصهيونية الاسرائيلية فاشلة في تمرير احتلالها وتبقى امريكا عاجزة عن مساعدتها وسيبقى حكام العرب محدودي التأثير وعاجزين عن شرعنة سلوكهم الخياني. وإذا ما أصبح هذا الشعب صاحب قرار في عواصمه فحينها ستدفع الصهيونية ثمن جرائمها قبل ان ترحل عن فلسطين والمنطقة.
إن كنا صادقين مع انفسنا فلا نلوم روسيا ولا ايران ولا أية جهة دولية تحاول الاستفادة من الوضع العربي، فأية استفادة هي على حساب المشروع الصهيوني أو اعاقته، وهو المشروع الذي يمثل التناقض الاساسي والوجدودي للعرب.
والى ذاك اليوم وإلى أن تمسك المقاومة الفلسطينية الارض وزمام القرار الفلسطيني الواحد. سنبقى نتذكر بأن ايران هي اليوم وحدها من الدول تشكل التحدي السياسي والعسكري للمشروع الاسرائيلي في المنطقة بصرف النظر عن الخلفية. ولو كان مشروعها النهضوي مرتبطا بتحرير فلسطين لسلمناها الراية نحن الشعوب العربية ولا يعيبنا ذلك بل يعيبنا عدم قدرتنا على مواجهة أنظمتنا. فتحرير المقدسات الاسلامية واجب على كل دولة اسلامية. نعم إن الشعب الفلسطيني ومن ورائه العربي صاحب السيادة على فلسطين، إلا أن فلسطين وقف اسلامي والمسلمون اصحاب سيادة عقدية عليها.