بردت كل بؤر الصراعات في العالم، ونزحت السياسة الدولية إلى المنطقة العربية كسوق مفتوح ومن يحضره يتسوق. وتكرست “إسرائيل” ككيان فوق القانون الدولي وفوق المساءلة. لكن المهم أن هاذ الكيان أصبح المرجعية لأطماع غزاة العالم في المنطقه العربية، وفي هذا الجو يُمرر مخططاته. أما لماذا يحدث هذا فلسببين. الأول، أن المنطقة العربية بأقطارها باتت بلا مالك منتمي وبِحُكم المنزوعة من سجل العقار الدولي، وولاتها سماسرة عليها في مزاد، وشعوبها في حالة بيات شتوي لا ربيع يعقبه حتى تجد من يحقنها بالوعي.
. أما السبب الثاني والذي بدونه ما كان ليحدث كل هذا فيتجسد في تماهي الحالة والموقف الفلسطيني الرسمي( سلطة عباس ) مع حالة الأنظمة العربية المرتمية من ناحية، وتماهي الموقف الشعبي الفلسطيني في فلسطين وخارجها مع الحالة العربية الشعبية، ليتشكل لدينا حالة عجز فلسطيني منحت إسرائيل شرعية القوة والأمر الواقع، ومنحت الحكام العرب شرعية الخيانه والإيغال بها، وأفقدت المتعاطفين الدوليين والرافضين للإحتلال منطق موقفهم التقليدي.
لقد كانت وما زالت بوصلة الدول بما فيه الأوروبية للتعامل مع القضية الفلسطينية تتبع الكلمة الفلسطينية وليس العربية باعتبار الفلسطينيين أصحاب الشأن المباشر بقضيتهم، ولذلك كان مجرد استماع العرب وأخص الفلسطينيين منهم لخطة سياسية باسم صفقة القرن، واستلام ورقتها من امريكا ونقاشها رغم ما تنطوي عليه من جنون سياسي ونكران لوجود احتلال أو قضية، اقول كان هذا كافيا ليرسل رسالة خاطئة لأوروبا والعالم بعدم قناعة الفلسطينيين والعرب بقضيتهم كقضية احتلال إحلالي، ولقلب الموازين في العواصم. كما فيه رسالة لأمريكا وكيانها بالمضي قُدما وبخطوات متسارعة. فالاستماع أو التعامل والتحاور بأي شكل كان حول المبادئ المحرمة من شأنه أن يسقط الإيمان بها.. ولذلك كان تماهي الموقف الفلسطيني من صفقة القرن مع موقف الأنظمة العربية المرتمية وغير المرتمية هو خطيئة القرن وبمثابة الخيانة العظمى.
ويضاف للحالة الفلسطينية هنا تطور سلوك المعسكر الغربي والأنظمة العربية باتجاه شيطنة المقاومة الفلسطينية المسلحة، التي هي الطريق الطبيعي للتحرير، والطريق الوحيد لاجبار الدول المتفرجة أو المتأمرة لعكس موقفها من الإحتلال. حيث انحسرت مساحة وقدرة الدول الصديقة على مناصرة أو دعم المقاومة الفلسطينية، واستأسدت الأنظمة العربية المحيطة بفلسطين لا سيما غزة في ضرب الحصار عليها. إلا أن كل هذه المعيقات في كفة تافهة أمام نبذ وشيطنة ومقاومة النظام الرسمي الفلسطيني (سلطة عباس ) للمقاومة الفلسطينية وإعلانه لذلك في المحافل الدولية، والتأكيد عليه بالتزامن مع اعلان صفقة القرن. وهذا ما يُرتب على الشعب الفلسطيني أن يأخذ دور المنقذ والمخَلص، فهل شعبنا مؤهل لذلك في إطار حقيقة أن الشعب الواعي هو الأداة التي تقلب الموازين الفاسدة كلها. أم هناك ما هو أقوى من الوعي. وهذا يحتاج لمقال
ضمن هذه الظروف الدولية والعربية والفلسطينية، يجد النظام الأردني اليوم نفسه أمام تحد مكشوف ومسئولية مزدوجة في إطار تنفيذ صفقة القرن بما يتجاوز الإطاحة بلاءات الملك كثيراً. إذ عليه أن يقرأ قرار الضم “الإسرائيلي ” كحدث مفصلي للقضية الفلسطينية وللأردن معاً. ” فإسرائيل ” لا تُقدِم على هذه الخطوة التي تنسف مجلدات من القرارات الدولية وتنسف حقيقة الإحتلال وتنهي عقودَ لعبة المفاوضات، وتزبل كل المبادرات الدولية وكذا اتفاقياتها ومعاهداتها مع الأنظمة العربية، وتدير ظهرها للعالم مرة واحدة، أقول لا تُقدِم على كل ذلك دون أن يكون ضمن خطة تنفيذية متقدمة على طريق تكاملية المشروع الصهيوني على ضفتي النهر، ودون أخذ التداعيات على الساحتين الأردنية والفلسطينية الرسمية والشعبية بالإعتبار، ولا دون تأمين متطلبات نجاح مخططها، وهو الأهم. حيث بالتالي لن يُقدِم هذا العدو على التنفيذ دون تفاوض أو تنسيق مع الملك. فكيف يكون سلوك النظام الأردني.
نعلم بأن الملك لم يرفض صفقة القرن بصريح العبارة، ولم يتخذ أي إجراء عملي يعبر عن الرفض، بل استمر بنفس الوتيرة في علاقاته وتعاونه مع أمريكا وإسرائيل، ولكنا لا نعلم إن كان هذا الرضوخ قائماً على المساومة على مسائل أخرى، أو على جهل بحيثيات ما خفي عليه من الصفقة. وسواء هذا أو ذاك، فأمام النظام نقطتان تنطلق منهما التحديات. الأولى، ان نجاح الكيان الصهيوني بمسعاه في ضم أجزاء من الضفة والأغوار في إطار قانون يهودية الدولة سيتبعه ضم كل شبر في فلسطين، وتكون النتيجة صنع الأرضية لإنهاء أسس التعامل الدولي مع فلسطين والقضية الفلسطينية، وفتح ملف القضية الأردنية لطمس الملف الفلسطيني من التداول، وبداية تفكيك الأردن ونظامه وشيوع الفوضى الأهلية وإعادة هيكلته تحت انتداب يبدأ غير معلن وينتهي معلناً وصولاً لاحتلاله كجزء من وعد بلفور. والثانية أن رضوخ أو قبول الملك للصفقة أو صمته عن ضم اراضي الضفة والأغوار لن يكون كافيا لأمريكا وكيانها، فالمطلوب منه هو التنسيق والتعاون، لأن الأردن هو عماد نجاح المخطط أو فشله. بمعنى أن المطلوب له هو الانتحار.. وبالمقابل فإن فشل مشروع الضم سيعني فشل صفقة القرن و بداية تراجع المشروع الصهيوني وبداية الإنهيار الطبيعي لكيانه.
فما هي الخيارات أمام النظام الأردني؟ ليكن واضحا بداية أن الملك الوحيد من بين الأنظمة العربية الذي ما زال شعبه يمثل الورقة الأقوى بيده. فكيف إذا ما أراد وقف الخضوع لنهج التبعية ووقف التذرع بالضغوطات ومواجهة أمريكا وكيانها. فإن كان الملك جاداً ً في الرغبة بتعطيل المشروع الصهيوني ونجاة الأردن وحشد التأييد الأوروبي والدولي الفاعل، فعليه أن يعلم بأن بضاعة الكلام والشكوى للدول مستهلك. ولن يقابله إلا كلام التعاطف الدبلوماسي وفي أحسن الحالات التضحية بحبر بيان. وأقول له سيدي لن تردع “إسرائيل ” ولن تحصل على استجابة أوروبية أو دولية عملية فاعلة إلا إذا بدأت بنفسك كأردن من خلال المواجهة العملية مع هذا الكيان، إنها مسألة وطن وشعب. والرسائل لا تصل الدول إلا من خلال الممارسات. فلن تسبقك دولة في فعل شيء قبل أن ترى فعلك. وإن التهديد بوادي عربة وقطع التمثيل الدبلوماسي و(الحرَد) مع الكيان المحتل مناغشة لا قيمة لها.
بعد ما تقدم أقول، سيدي الملك لا بد أن يحصل التمرد السياسي ليعقبه التغيير السياسي. فما يربط مصر والإمارات وغيرهما بإسرائيل وأمريكا لا ينسحب على الأردن، فنحن الحطبة بالموقد. التحالفات الدولية العريقة تتغير اليوم لمجرد مصالح ظرفية، فكيف لا تتغير من جانبنا لرفع السكين عن رقبة وطن ودولة. اتفاقية الغاز عمل سياسي فاسد الأساس وخطير، وإلغاؤها يجب أن يكون عربون فك الارتباط مع العدو والمواجهة الحقيقية، يتبعه إعادة النظر في اجراءات التعامل مع المعابر والحدود وحركة السكان بما لا يخدم سياسة التهجير والنزوح الجماعي والمسيس، ووقف التعاون الاستخباري والأمني وكل أشكال التطبيع مع هذا الكيان على المستويين الرسمي والمحلي.
فمعاهدة وادي عربة انجزت مهمتها اللعينة ولم تعد قائمة بالنسبة للكيان وتجاوزتها الأحداث. فإن اتخذتَ سبيل المواجهة كمؤشر لمصداقية الرفض ووسيلة وحيدة لإفشال مخطط العدو في فلسطين والأردن، فإن هذا هو الوقت والظرف لصنع أوراق الردع والحماية والاسناد الأمني والاقتصادي، وأمامك اختيار أكثر من حليف واحد. وأي خطوة تتخذها في هذا السياق تحميها ورقة الشعب التي لا تُقاوم ولا تقهر. امريكا والعالم الديمقراطي وغير الديمقراطي يفهمون ما معنى إرادة الشعب عندما تتفعل.