مِن سَقَط الكلام إنكار وجود مراكز قوة في الأردن تعمل باتجاه تهيئة البيئة المطلوبة لاستقبال وإنجاح تنفيذ الصفقة على جثتي فلسطين والأردن وتجحيش باقي العرب، ومن أسقَطه القول بأن النظام بخير وأنه سائر على نية مواجهتها. ومن حق القول أننا نعيش حصاد جهلنا وخياناتنا جميعنا لفلسطين، ورفاهيتنا على حساب عذاباتها. لقد اجتزأ ذاك الرجل القول، وأزيد عليه، لن ينعم عربي أو مسلم بالأمن والكرامة والحرية ما لم ينعم الشعب الفلسطيني بها وبحقوقه أولاً ً، وما لم يكن شعار كل عربي “فلسطين أولا”.
عندما بَثت الصهيونية الامريكية خبر الصفقة لأول مرة كبالونات لاقطة لردة الفعل الدولية والعربية كانت النتيجة مشجعة لها، فأقدمت على طرح المطلوب في الصفقة من كل حاكم عربي معني بتنفيذها ومنهم الملك عبدالله الثاني. ومر الملك بلفتة داخلية ضيقة وانتهى بمخاض خارجي بعيد جدا عن الشعب والمؤسسات الدستورية على صوريتها قبل أن يُحاصَر.
وضع الملك بلفتته جهاز المخابرات بالتفصيلات المطلوبة من الأردن في حينه، وكان موقف المخابرات حسب معلوماتي متفقا مع تخوفات الملك. وكان القرار هو العمل على تجنيب الأردن تداعيات الصفقة بعدم توريطه بواحدة من سيناريوهات الوطن البديل. إلا أن العلاقات بين الطرفين لم تكن استراتيجية من وجهة نظر الملك فهناك اختلاف في ثقافة وأهداف المخابرات كجهاز عن ثقافة وأهداف الملك. فالسياسة الخارجية للملك وأهدافها الرئيسية لا تقف على كنهها المخابرات ولا أية جهة أردنية. ومن هذه النقطة التي وَضَع فيها الملك المخابرات بصورة المطلوب منه في الصفقة، انتقل يتفاوض منفردا مع الجانب الأمريكي بابداء التخوفات والقلق وبثِقل الأمر عليه كملك يحمل ارثا وطروحات ومواقف معلنة إزاء القضية وأمام الشعبين الأردني والفلسطيني، ومن المعروف أن مجرد بدء التفاوض على مطلوب شائن يعني الوقوع بالشرك.
وانضمت المخابرات الى الحكومة والشعب في التغييب عن المشهد وحقيقة ما يجري ولهذه اللحظة، بينما واجه الملك في تفاوضه مع امريكا وطرحه لمحاذيره صداً قويا وتصميما أمريكيا مغايرا، وأفترض أنه تلقى ضغوطات على شكل محاذير من حرب اقتصاديه على الدولة لا تدوم معها شهرا، وربما شخصية أيضا تطال مُلكه وأمنه الشخصي. فأمريكا تعلم بأن صمود الاردن ورفضه التوطين او سيناريوهات الوطن البديل يُفشل الصفقة ويجعل من كل ما تحقق منها مجرد حبر على ورق، بل وتعتبره أمريكا نكوصا من النظام عن دولة الدور، علاوة على ما في الرفض من تعزيز لموقف الشعب الفلسطيني وصموده. بينما يُشكل قبول الاردن للصفقة الأساس في نجاحها ويعقد الأمور على الشعب الفلسطيني وعلى المقاومة وربما يحدث بلبلة واختلالا.
أما الأخطر، فقد كان أمام الملك خياران، إما المواجهة بالرجوع للشعب وتغيير النهج، وإما الاستسلام للصفقة. لكنه أخذ خيارا ثالثا أسوأ من الاستسلام، وهو مسك العصا أمام امريكا من الوسط متقبلا دعمها ووعودها ومترددا بنفس الوقت في تقبل طروحاتها، فانتهزت امريكا فرصة ما يسمى بالغنج السياسي وعززت من وجودها العسكري والأمني في الاردن على ظهر دريهمات وتخويفات وصنعت لنفسها مراكز قوة في دوائر القرار السياسي والاداري والعسكري على حساب سلطة الملك لتعمل بالاتجاه السياسي الأمريكي ومتطلباته. ولا أريد التوضيح أكثر من ذلك ولكني أتساءل أمام الاردنيين، من متى يجوز أو يستطيع قائد جيش أو رئيس أركان أردني أن ينفش ريشه ويتحدث بالسياسة ويجري تلميعه ويتدخل بشئون أخرى قد لا تخصه، ومن متى يجرؤ رئيس حكومة أضعف من ضعيف وفاقد للقاعدة الإنتخابية على عدم تنفيذ أوامر الملك حتى المشروعة والوطنية منها ويصر على تعميق الفساد لتركيع الدولة.
ما اريد قوله أن التفاعل بين موقف الملك وموقف أمريكا تمخض عن فقدان النظام السيطرة على نفسه وقراره، وإلى استسلامه ووقوفه الى جانب تنفيذ الصفقة. والمؤشرات كلها تؤكد ذلك. ولكنه أخذ إشارة بأن امريكا هي بحكم المستعمر للنظام وبأنها لا ترحم وبأن الفساد يولد الأفسد، ولم يستلم إشارة أن الشعب معه وقادر على مواجهة امريكا وحماية ملكه وحماية الأردن والثوابت السياسية والأخلاقية إزاء القضية الفلسطينية وحقوق الشعب لفلسطيني في إطار تغيير النهج السياسي واعلانه عن التحول الديمقرطي في ملكية دستورية. فالملك بالواقع كان بداية وما زال أمام ضغطين، مادي أمريكي وأدبي شعبي. وكما فشل باللجوء للشعب فشل الشعب بصنع الضغط الكافي عليه لإفقاد الضغط الأمريكي وزنه على الملك.
أعتقد أن الأمور الأن في الأردن خارجه عن ارادة النظام وأنه في وضع المسير للأعمال، وسيتطور هذا الأمر ما دام بعيدا عن الشعب. قراراته الداخلية موجهة بقالب دبلوماسي من مراكز القوة، وقدرته على تنفيذ ما يريد تصويبه معدومة حين تكون محمية من تلك المراكز، وهامش حريته محصورة في المسائل التي يمكن لمراكز القوة أن تتعامل معها وتبطل مفعولها. ودائرة المخابرات لم يعد مطلوبا منها إلا عدم التشويش وأن تنشط في الاتجاه المطلوب الجديد ولم يعد لها قوة التأثير، فكل ما يلزم الحكم في هذه المرحلة الإنتقالية موجود في الديوان.
الحراك يمثل أكبر دعم للملك أمام امريكا ومراكز القوة ولذلك مطلوب قمعه وإنهاؤه، ويجري إلباسه من غير لباسه، وصُّور على أنه يستهدف الملك والاستقرار في حين أنه يهدف لتعزيز الملك وحريته وقدرته على المواجهة في الداخل والخارج، وما فتئ الشعب بكل مكوناته متمسكا بالملك ويناشده العودة اليه ويعلن بأنه يسامح الملك ويعفيه من أية مساءلة على ما مضى.
صفقة القرن لها خصوصيتها في الأردن كبلد يحتضن الفلسطينيين والأردنيين المتضررين مباشرة منها والمقاومين لها وهذا يحتاج الى بيئة تساعد على تمريرها. ولا أفضل من بيئة الفوضى وانعدام ثقة الشعبين الاردني والفلسطيني بالملك ووضعه في مواجهة معه في الشارع. وقد قطعت مراكز القوة مرحلة كبيرة على هذا الصعيد المطلوب.
فالدولة اليوم سائبه والسلطات لاغية والأجهزة معطله والحكومات صوريه والأمن هش على هش، الشعب فقد البوصلة تماما والعشائر والقبائل تلتجئ لنفسها وتتسلح دفاعا عن نفسها وحماها، ولصوص المدن والحواضر ومعهم المجرمون يتأهبون. إنه الاستقبال المطلوب لصفقة القرن. وصفقة القرن لن ينجو منها الملك ولا الشعب ولا الدولة، والقطيعة بين الشعب والملك كجهتين معزولتين جعلت كل فريق يعيش هواجس المستقبل على نفسه. يا صاحب المُلك الدستوري أين أنت من كل ذلك، لم تترك لنا مجالا لبديل وطني والشعب اليوم بأسوأ حالاته، وجهالهم أصحاب الصوت العالي. الحرب الأهلية التي يتطلع اليها الأمريكان بين الشعب والعسكر لن تحدث، فهذا بلد شعبه في النهاية محافظ ومنتمي لترابه ولن يكون أي منهما الضحية بل الصفقة ومن ورائها بإذن قادر كريم يُلهم الشعب بأن يعقل ويتوكل. يا صاحب القرار هذه فلسطين سِره تعالى، وشرف لنا من الله. وهذا الأردن صنو فلسطين وشعبه ما خذلك ولا خذل من سبقك يوما.
يا صاحب المُلك الدستوري أنت صاحب أمانة كبرى فيها أوطان وأرواح وقيم وليس في الدولة مسئول قلبه على هذا الوطن، أنت الأقوى بشعبك، فلا سلام مع الصهيونية، ولم يعد مصلحة لأردني بالسكوت والخنوع والذل. يا صاحب القرار إن الهتافات التي يهتف بها بعض الحراكيين ويحملونك بها المسئولية بكلمات فجة ويُعتقلون من أجلها يهتف بها كل بيت في الاردن بما فيه بيوت المسئولين، فليسوا هم شَوَذا ليقمعون وتنتهي القصة عندهم بل تبدأ. المعتقلون من فقراء الشعب وأحراره وراءهم أطفال وأفواه مفتوحة وبسحقهم تبذرون الحقد والنقمة والثورة عند الطفل الأردني. لو سمعت صراخ طفلة الرمثا التي التبس عليها الأمر بين الضفتين وصاحت دخل اليهود لبيتنا فلن تتحمل الموقف، ولن تقبل لنفسك مشهدا تحت أي ظرف يضرب فيه ويهان الأباء أمام أعين أطفالهم ويسحبون محمولين للسجون، هذا لن يردع المحتجين ومن يخرج عن حدوده غضبا بل يصنع ويوسع الحقد.
يا صاحب القرار ماذا تنتظر وماذا بيدك لتفعله، تجامل وتهادن وتتحمل الإفرنجي وتستخدم الدبلوماسية وتتحدث وتتعاون مع كل عدو وطامع ومتربص وتبخل بشيء من هذا على شعبك فهل هذا أنت؟ الشعب محتار وغاضب وكفر بالدولة وبالمؤسسة. الدولة الصورة تدخل في حرب غبية مع الشعب باسمك على كل الجبهات وتتخبط، هل أنت حقا من يفتح حربا مع شعبه، وماذا يسوى حاكم مستهدف بلا شعبه وكيف يكون مصيره. كيف تنام على ضيم بك وبشعبك وأنت تمتلك القوة الحاسمة به، نحن وإياك أمام حدث جلل.