عمد الاعلاميون والساسة وكذا المفكرون الغربيون الى خلط يبدو متعمدا بين مفهومي الحضارة والثقافة. وقد ابتدأ ذلك مع الهجمة على العالم العربي والاسلامي في بداية التسعينيات من القرن الفائت وما زال الخلط قائما والهجمة مستعره. وإن كنت في هذا المقال أسلط الضوء على مجرد هذا الخلط وعلى التمايز والعلاقة بين المفهومين بعد أن سلطنت الضؤ على مفهوم الثقافة في مقال سابق، فإنما ذلك تمهيدا لتلمس الأسباب وراء هذا التعمد في في مقال لاحق. ولا خلاف هنا على أن الحضارة عملية إبداع يقع الإنسان منها في الجوهر، وأن منتجات هذا الإبداع يشكل مظهرا لذلك الإبداع . الأوروبيون أنفسهم عندما يوضعون في مواجهة المفهومين نجدهم يحددون الحضارة بالإنجازات التقنية والمعرفة العلمية الموضوعية التي يمكن قياسها بالكم والنتائج الملموسة. في حين تشير الثقافة في نظرهم الى المعرفة ذات الأحكام التي توصف بالتقويمية كالديانات والإعتقادات والتقاليد والأخلاق ونمط التفكير والفلسفة والأدب والفنون .. ولا شك أن هناك نوعا من التداخل بين الثقافة والحضارة لكن ذلك لا يرقى الى التساوي بينهما أو الى كونهما مترادفين. ويبدو أن تطوير مفهوم الحضارة حديثا قد إنتقل بها من حالة الملموس الى حالة المحسوس ليزداد بذلك تداخلها مع مفهوم الثقافة. وربما من هذا القبيل قد تحدث علماء الإجتماع الفرنسيون عن مكونات الحضارة حين ذكروا أن الثقافة تقع في قلب هذه المكونات، وأن عنصر الدين هو أهم العناصر المكونة للثقافة.
ويستمر كتاب الأوروبيون من أصحاب المقاصد في محاولات الخلط والإحلال بين مفهومي الثقافة والحضارة حتى نجدهم كلما ينفردون بتعريف أحد المفهومين بمعزل عن الآخر يشطحون كثيرا في ذلك. أما عندما يواجهون بالمفهومين معا فإنهم يضطرون لوضع فاصل بينهما . فهم إذ يعتبرون تارة الحضارة والثقافة معا كمفهومان يشيران الى حياة أمة من الناس وأن كليهما يشمل القيم والمعايير وطرائق التفكير، نجدهم عندما يواجهون بمسألة التميز بينهما يعودون ويضعون هذه المرة حدودا فاصلة بين المفهومين ويعتبروا أن الحضارة تشتمل على التقنية وسائر العوامل المادية وهو ما أكده الكتاب الألمان . . إلا أن أحدا لم يصل الى ما وصل إليه الأمريكيون من خلط متعمد بين المفهومين الى حد المسخ عندما عمل صموئيل هننغنتون على إحلال فكرة الحضارة محل فكرة القومية والدولة كمرجعية وأساس لتقييم المجتمعات، كما اعتبر الثقافة والدين أساسا لمجريات الأحداث ومحركا للتاريخ .
إن إطلاق الكلمات والأوصاف على عمومياتها يعمل على خلق الإلتباس وتشجيع التعمد على الإستخدام الخاطئ . فالمبتكر يستغل تفكيره لفعل الحضارة بمعنى أن الجهد العقلي المبذول والموجه لأفعال تلك الإبتكارات هي الحضارة بنفسها من خلال منتجاتها أو مظاهرها والتي تشتمل على نتائج تلك الإبتكارات المادية وما يتمخض عنه من سلوك، وأن من يكتشف مخزونات الطبيعة وقوانينها والخارطه الجينية للانسان ويخترع الكتابة والحاسوب ويسخرها فإنه يصنع أو يهيئ للإنسان أسباب تطوره، والإنسان بهذا يصنع أو يوجد حضارة هي في الأصل ذات طبيعة مادية. لكن مقدار الكم والنوع من الروح والجوهر والقيم التي تأتي بها تلك الحضارة أو تكرسها أو تعكسها على الإنسان تشكل رابطا من روابط الحضارة بالثقافة وتأثير الحضارة في الثقافة من ناحية أخرى وليس أكثر من ذلك. وأما كيف تصاغ تلك الحضارة ويطور التعامل مع وسائلها ومنتجاتها ومظاهرها، اضافة لمسألة تقبلها ومدى تأثيرها في سلوكيات ومعتقدات وممارسات الأخرين وإنعكاساتها، فذلك هو الذي قد يختلف من مجموعة بشرية لأخرى وحينها فإن طريقة الإستخدام والتعامل والتأثير لذلك المنتوج الحضاري ستشكل بمرور الزمن جزاء من خصوصيات تلك المجموعة البشرية وبالتالي من ثقافتها وبهذا يكون تأثير اخر من تأثيرات الحضارة في الثقافة .
وبالمقابل فإن كثيرا من جزيئيات حضارة أي أمة هي في الأساس نتاج لجزئيات من ثقافتها . بمعنى أن ثقافة معينة لأمة معينة قد تحفزها الى اختراعات واكتشافات تصبح جزاء من الحضارة الإنسانية ومتاحة لخدمة الجميع .. ويحضرني هنا أن بناء الاهرامات وما تطلبته من فنون الهندسة والرياضيات والبناء وكيمياء التحنيط، كلها ما كانت لتكون آنذاك لولا المعتقدات المصرية التي كانت سائدة عند الفراعنة كجزء أساسي من ثقافتهم . وبهذا الصدد يؤكد مفكرون غربيون أمثال روجيه غارودي ويبابيز الكاتب الإسباني أن الثقافة العربية التي ترافقت مع الفتوحات العربية باتجاه الغرب كانت بمثابة الحملات الحضارية اذ عملت على خلق الشروط اللازمة لتجديد الحضارة، ومن هنا يكون تداخلا أخر بين الحضارة والثقافة وهذا التداخل يكون في جزيئيات بسيطة قياسا على سعة مفهوم الثقافة والتي كما أكده لفيلسوف أرنولد تويني في دراسة للتاريخ أنها أي الثقافة هي التي تحتوي الحضارة وأن الدين أوضح مظهر لها . على أنه وفي رأي البعض من النخبة الفكرية يمكن لبعض من جزيئيات الثقافة أن تنسلخ لتستحيل الى حضارة وذلك في حالة أن تم شيوع وقبول تلك الجزئية من قبل مختلف المجتمعات الأخرى في العالم .
والحضارة بهذا نتاج بشري تراكمي مشترك تمايزت الأمم في الإسهامات به سابقا بسبب التباعد وصعوبة الإتصال وغياب تكنولوجيا العولمة التي نشهدها اليوم وعاش الإنسان فيها حضارات بمسميات منفصلة وعهود منفصلة . فكانت حضارات سومر وفارس وبابل والهند والصين والإغريق والرومان والفرس والعربية الإسلامية وغيرها حضارات إحتكرتها واحتكرت اسمها أمم معينة . لكن اليوم قد اختلف الأمر ولم يعد معه لمقولات إحتكار الحضارات أن تستقيم من قبل أمة معينة ولم يعد هناك إمكانية لمنع الأخرين من الوصول الى الحضارة في أي بقعة على الأرض , , فالحضارة التي نسميها اليوم بالحضارة الغربية هي في الواقع ليست غربية صرفة لا في الأساس الذي قامت عليه واستندت ولا في تطورها . فنحن نستطيع القول هنا أن هناك حضارة واحدة أصبحت للإنسان على الأرض ولكنا لا نستطيع القول أن هناك ثقافة واحدة للإنسان .ولا يمكن للحضارة المشتركة هذه أن تولد صداما بشريا بل يمكن للثقافة غير المشتركة أن تولد ذلك