الفساد في الأردن سيرورة سياسية فيها الارادة السياسية مأزومة.. ولعبة “عسكر وحرامية” لا تنقصنا.. فماذا ينقصنا وينقص النظام؟ وجهة نظر

مكافحة الفساد لا تكون ولا تعني مجرد ملاحقة الفاسدين أو نصب الكمائن لهم وانزال العقوبة، فإن اقتصر الأمر على هذا الأسلوب الذي يتعامل مع الأشخاص والأعراض والإستهدفات الإنتقائية ويترك الأسباب التي تُولِّد الفساد والأبواب التي يَنفذ منها، فنحن في هذا نكون أمام لعبة الطفولة ” عسكر وحراميه ” أو لعبة اللّا مؤسسية “إمسك الجمل وخذ باجه”. وبهذا أقول، إن المعنى الحقيقي لمكافحة الفساد هو وقفه أو تحجيمه أو قصم ظهره إلى الحد الذي لا يعود فيه يشكل ظاهرة في الدولة ولا نهج يودي بها.
ومع أن جذور الفساد موجودة في الطبيعة البشرية والموروثات الإجتماعية، إلّا أنه لا ينشط وتظهر ثماره ويُصبح ظاهرة إلّا في البيئة الحاضنة. وعليه فإن هذه البيئه الحاضنة أو التربة المواتية هي المشكلة، والتعامل يجب أن يبدأ بها ومن عندها. وحيث أن الطبيعة الإنسانية غير مثالية وتُبقي الانسان عُرْضة لارتكاب الفساد وأن لكل شيء لديه ثمن حتى المثل والقيم ليست استثناء، فلا بد في مكافحة الفساد الصادقة أن ننطلق من هذه الطبيعة الثابتة ونُحَصِّن الأنسان من نفسه ونُحَصّن الدولة منه. فالمصداقية في مكافحة الفساد لا تهمل هذه الطبيعة، وتنطلق من وضع اليد على الحاضنة واعتماد النهج الوقائي \العلاجي ولا تتخذ من التعاطي والمشاغلة مع الأشخاص والأعراض والمظاهر والحالات بديلا
والنهج الوقائي\ العلاجي هذا، هو الذي يشتبك مع الأنظمة والقوانين والتعليمات في إطار المؤسسية المهيمنة بقوة القانون الصالح وشموليتة التي لا تستثني مسؤولاً ولا شخصاً طبيعيا أو اعتبارياً، وتشتبك مع معيقات هذا الهدف. فهذا هو محك ومصداقية مكافحة الفساد. فالفساد في بلدنا الأردن متصل بالتقنين، وهو بشكل أو أخر فساد مُقنن. كما يتصل بمؤسسيتنا المسخ، التي يوجهها ويحكمها المسئول، بينما هي التي يجب أن تحكمه وتوجهه. فالأصل أن الإنسان النزيه ليس منزهاً، ولا يصلح أن يكون بديلاً عن المؤسسية، وبأن الفساد وليد استخدام السلطة واستغلال النفوذ، ولا فساد مالي أو اقتصادي بلا فساد إداري وآلياته. ولا بد من إسقاط أي قدرة لأي مسؤول من خارج القانون الصالح.
فالبداية الجادة لمكافحة الفساد في ظروف سياسية حرة إذا كنّا نمتلكها، تبدأ بمراجعة شاملة لنصوص القوانين والانظمة والتعليمات على صعيد كافة مؤسسات الدولة العامة والخاصة دون استثناء، وأن يوضع الإصبع على كل قانون أو نظام أو نص أو فقرة تنطوي على فساد أو أو ينفذ منها فساد أو يمكن استغلالها لفساد، ووضع قوانين وأنظمة جديدة محكمة وضابطة خاصة بمنع الفساد والحرص في هذا من كل ما يسمح أو يسهل فساد الصف الأول في الدولة لخطورته بسبب حجمه وحصانته وصعوبة اكتشافه، وكذلك مأسسة الإنفاق العام بشفافية لجميع مؤسسات ودوائر الدولة مهما كانت حساسيتها. وجعل القضاء قادراً على القيام بهمته في حماية حقوق الدولة والناس، ولا يكون كذلك ما لم يكون مستقلاً إداريا ومالياً ومتكامل أركان القضاء، ووضع نظام ضريبي يعرف طريقه. والتعامل مع الشركات والاستثمارات الأجنبية بمعيار وطني، وإعلام حر ومؤسسة برلمان حرة. وهذا كله وغيره يفترض إصلاحات سياسية تطال الدستور، وبالتالي كله مرهون بالارادة السياسية.
وفي الإرادة السياسية أقول، إن الفساد (كظاهره تتحول إلى نهج )، لا ينشأ إلا في فئتين من الدول هما السائبة ولدينا منها نحن العرب ثلاث، وذات النظام الدكتاتوري غير الوطني تفوز بالأغلبية. ولا ينشأ في الدول الديمقراطية التي تحكمها المؤسسية، بل يبقى الفساد فيها حالات فردية. وبالنسبة للدول العربية الدكتاتورية المستبدة بالسلطة ومنها الأردن، فهناك فاصل زمني بعيد بينها وبين الديمقراطية وألياتها لمنع الفساد فيها كظاهرة. وهذا ليس لمجرد تحريم الديمقراطية علينا أو للوضع الذي يقبع فيه حكام العرب، بل في ظل الموروث الثقافي للإنسان العربي والإسلامي لحد ما. ولذلك فإن مكافحة الفساد في أقطارنا مرتبط بالإرادة السياسية للحاكم الدكتاتور حُكماً، ودلالة هذه الإرادة هو الإصلاح السياسي وأن يبدأ الحاكم بنفسه. وإلا فستبقى المحاولات لمكافحة الفساد ملعوب فاسد. وعلى النظام الأردني أن يعلم بأن للفساد في الأردن خصوصية مدمرة تتمثل في عدم وجود مورد أساسي ثابت يغطي كلف الفساد كما في غيره من الدول، وأنه بلد مستهدف مباشرة والإستقرار فيه مسألة تقاطع مصالح بين الأردنيين وأمريكا.
ولا شك بأن لتفعيل تلك الإرادة السياسية في بلد كالأردن محاذير على النظام، إلا أنها محاذير طبيعية ولا تقف بوجه هدف إنقاذ دولة مستهدفة وشعب وقضية، وإنقاذ شرعية حكم. فمعلوم أن كل عملية إصلاح تُفقد قطاع المنتفعين مكاسبهم وسلطتهم وتُحَول حلفاء الحاكم إلى مناوئين له، لكنها تكسبه جماهير الشعب حليفاً بديلاً أقوى وأدوم. إلا أن المحذور الأقوى أمام إرادة القيادة الأردنية هو في الإصلاحات السياسية التي لها مساس بمكافحة الفساد. ومن هنا فإن مكافحتة الجادة والتخلص منه في الأردن عملية معقدة لارتباطها بالتغيير السياسي، وأن الإرادة السياسية لذلك جُعِلت مرتبطة ً باستحقاقات ابتزازية خطيرة على النظام نفسه، تورط بها أو سيجري توريطه بها، مما يشكل أكبر عائق أمام تشكل هذه الإرادة السياسية وهذا هو التحدي الكبير أمام القيادة.
فالفساد في الأردن مُنتِجه وباعثه ومحركه سياسي خارجي هادف والدوائر الأمريكية تغذيه وترصده وتوثقه. وأصبح كل الصف الأول متورطاً به. ومن ليس عنده استعداد للمشاركة أو التعاون بشكل أو أخر من رؤساء الحكومات وممن يتولون المواقع الرسمية الأساسية لا مكان لهم بالموقع بمعزل عن الفساد. فالدولة رغم أنها ليست من الدول السائبة بحكم وحدة وطبيعة استهدافها، فإنها اليوم أسيرة للفساد المحمي، والفساد أسير السياسة، ومن يحاول التلاعب بالسياسة أو تغيير وجهتها أو فرض نفسه عليها من رموز الفاسدين سيُطاح به. وعليه عندما نقول لمنتفخ بالمال كيف انتفخت ومن أين لك هذا كله فالجواب الحقيقي معروف وهو ثمن مواقف أو أفعال سياسية أو اقتصادية ذات منشأ سياسي.
نحن اليوم في ظرف تخطى الزمن الذي كان فيه المسؤول الفاسد يقول لنفسه أن موقعه غير مخلد والدولة عابرة، ويُقدم على استغلال الوقت ويتوسع بالفساد ويرحب بشركاء من كل مكان نحو كل صوب ومفصل في الدولة حتى قَصَموا ظهرها وظهر مواطنها ووجودها وليس ظهر الفساد، وربما تخطينا زمن ضربات “المقفي “أيضاً. ونحن في الخواتيم والكعكة ضاقت على الآكلين وسيتوجهون للفتات من الآمنين ومن كل واقف على قدميه، ثم لبعضهم ليفرقهم ما جمعهم.
وبناءً عليه وعلى ما تقدم فلا أرى الحديث عن مكافحة الفساد والفاسدين أو حتى ترشيد الفساد إلّا مضيعة لوقت ثمين يمكن أن يستغله عقلاء وحكماء الشعب في صنع وإحداث الضغط الشعبي السياسي الكافي لإقناع الملك بتغيير النهج السياسي كمسئول عن الفساد (اي النهج) وكل ما يحل بالدولة. فهو خيار الملك الأصوب. فوالله لا أرى مُعْطَى واحداً يُبشر بعدم استهداف الأمر وإسرائيلي لمُلكه وللأردن مهما تعاون وقدّم أو رضخ أو ناور، ولن تكون لديه أدنى قدرة أو ورقة للمواجهة في اللحظة الحاسمة غير الشعب الذي يهمشه، ولا نريد أن يكون ذلك في الوقت الخطأ.