.. يشار هنا إلى أنه كلما ترسخ الطعن التاريخي الموثق بمصداقية أي وجود سياسي أو سيادي لليهود يوما عبر التاريخ في فلسطين في أي فترة تسبق عام 1948 ، يثير اليهود وحلفاؤهم من الحركة الصيونية لا سيما بعض رجال الكونجرس الأمريكي دفوعا جديدة تقوم على الإدعاء بأن القدس لم تكن يوما عاصمة للعرب في حين أنها كانت عاصمة تاريخية لليهود . ويكرر الدبلوماسيون الإسرائليون هذه العباره في لجان الجمعية العامة وفي مجلس الامن عندما تثار مسألة تخص القدس . وكأن القدس فعلا كانت عاصمتهم وتحت سيادتهم ، وكأن عدم اتخاذ العرب للمدينة عاصمة يعني غياب مبدأ السيادة وحق العرب فيها أو في فلسطين. وحتى لا يفهم أو يكون طلبنا وتأكيدنا السياسي والاعلامي المعاصر والمتكرر بأن القدس هي عاصمة الدولة الفلسطينية ، على أنه جريا أو نجرار منا للإدعاء ولمفهوم الصهيونية المعتقدي لمقومات السيادة على الارض أو مجرد رد عليه ، فإني أمر في هذا المقال على نقطتين ، أولاهما لماذا لم يتخذ العرب القدس عاصمة لهم . والثانية سقوط الادعاء اليهودي تاريخيا وتوراتيا بالسيادة على القدس وفلسطين .
بالنسبة للنقطة الأولى ، نعم / لم يفكر العرب عبر حقب تاريخهم السياسي بجعل القدس يوما عاصمة لهم تماما كما لم يفكروا باتخاذ مكة يوما عاصمة لهم ، ولنفس السبب وهو قدسية المدينة والجدية والصدق في احترام فكرة الدين وقواعده. وإن عدم اتخاذها عاصمة لا ينفي عروبتها كما لا ينفي عروبة مكة ولا أي مدينة عربية أخرى لم يتخذها العرب عاصمة لهم . وبصرف النظر عن الإعتبارات السياسية والجغرافية والعسكرية التي تحكم الدول في إختار عواصمها . فإن العرب والمسلمين في حالة القدس و مثلها مكة قد راعوا و يراعون البعد الديني و المعتقدي و متطلباته السلوكية الربانية . وكانوا حريصين على أن ينأوا بالمدن المقدسة عن دنس السياسة وعن سلوكيات و طقوس وأخلاقيات و تقاليد تلازم العواصم ولا تتفق مع متطلبات و مبادئ و أخلاقيات الدين الإسلامي في كثير من الأمور . وقد كان بإمكان الأمويين أن يتخذوا القدس عاصمة لهم بدلا من دمشق و لم يفعلوا ذلك و كذا العباسيين اتخذو من بغداد عاصمة لهم دون القدس ، وكان قبل ذلك بإمكان عمر بن الخطاب و عثمان أن يفعلوا ذلك ، وكذا علي بن أبي طالب الذي أتخذ الكوفة عاصمة وليس القدس أو مكة . و كذا الدولة الفاطمية في مصر والشمال الافريقي ، وصلاح الدين الأيوبي حررها وأقام في عكا . بل أن دولة الخلافة العثمانية لم تفكر في القدس عاصمة من نفس المنطلق الأخلاقي و العقدي . وأخيرا فإن الأردن ممثلا بالحكم الهاشمي ابتعد عن اتخاذ القدس عاصمة من نفس البعد . فالقدس بالنسبة للعرب والمسلمين هي أكبر و أسمى من أن تكون عاصمة سياسية أو مركزا سياسيا و دبلوماسيا ..
أما النقطة الثانيه وهي الأهم أن فلسطين أرضا وشعبا قد ابتدأت تحكم استنادا لأبعد مدى وصل إليه علم التاريخ القائم على المكتشفات الأثرية المقروءة قبل وبعد ظهور اليهود، أقول ابتدأت تحكم كغيرها من أقاليم المنطقة من قبل الامبراطوريات القديمة التي تتناوب على حكم المنطقة لتصبح تحت سيادتها . وهي الأمورية وأكاد والدوله البابلية القديمه ومنها حمورابي ، والبابلية الثانية والأشورية ومنها سنحاريب والبابلية الكلدانية ومنها نبوخذ نصر ، والارامية . وجميعها خرجت من الجزيرة العربية كالكنعانيين سكان فلسطين الأوائل ، وتصنف جميعها حسب اجماع المؤرخين الغربيين على انها من الشعوب العربية بالمعنى الثقافي الواسع للكلمة وليس المعنى العرقي بالضرورة . ثم أصبحت فلسطين تحت سيادة الاغريق والرمان والفرس ومصر الفراعنه ، وأيضا دون أن تكون فلسطين بسكانها أو أي جزء منها خاضعا لغير سيادة الامبراطورية القائمة في حينه . ولم يعامل اليهود يوما من قبل حكام المنطقه والامبراطوريات معاملة السكان الأصليين بل دخلاء ، ولذلك كانوا يعاقبونهم بالسبي والتشتيت دون غيرهم من سكان فلسطين ،ولحين الفتح العربي الاسلامي .
وإن ادعاءات اليهود بوجود تاريخ سيادي لهم في فلسطين أو القدس هي ادعاءات صهيونية معاصرة تم استيحاؤها مما ادعته السيرة التوراتية عن ممالك لليهود في فلسطين في سرد خرافي اثبت التاريخ الموثق زيفه على أسس أثارية مقرؤءة بكل اللغات القديمة . في حين أن هذه هي تاريخيا وتوراتيا مشيختيان دون اي استقلال سياسي او سيادي ، تعين الدول الاقليمية مشايخها وتستبدلهم . وتبيان ذلك هو في الحقيقتين التاليتين
الحقيقة الأولى هي أن كلمة ملك ومملكه كانتا تطلقان مجازا في القديم على المدن والمناطق وزعمائها داخل الامبراطورية أو الدولة الإقليمية . وهو أمر موثق في مختلف الملاحم القديمة للحضارات والامبراطوريات ، وقد ابتدأ كتقليد سومري واستمر ذلك في الامبراطوريات في سوريا وبلاد الرافدين ثم في عهود الاغريق والرومان كتقليد اداري تقسم فيها المناطق كمشيخات لضبط التجمعات السكانية امنيا واجتماعيا ولجمع الضرائب لمركز الامبراطورية وسمى المشايخ ملوك والمشيخات ممالك . فالنصوص التوراتية تذكر بانه لدى قدوم اليهود المزعوم لفلسطين كان امامهم هناك عشرات الممالك داخل فلسطين وحدها وتسميها النصوص التوراتية باسمائها ومن يقرأ النصوص في احد الاصحاحين 9 ، 10 من سفر يشوع يقرأ عن ممالك حبرون وبرموث ولخيش والقدس واريحا وممالك الحثيين والاموريين والكنعانيين والفرزيين ووالحوبيون واليبوسيون وكلها داخل فلسطين والعشرات في الأردن . وهذه في الواقع مناطق نفوذ قبلية اجتماعية عقديه ، تتبع وتخضع سياسيا وسياديا للإمبراطورية أو للدولة الاقليمية المسيطرة في حينه على كامل المنطقة ومنها تلك التي كانت في فلسطين . وعلى هذا النحو كانت المملكتان المزعومتان اسرائيل ويهوذا . وعلى هذا النحو لاحقا كانت ممالك زنوبيا والمناذرة والغساسنة .
اما الحقيقة الثانية ا فان النصوص التوراتية تؤكد أن المملكتين او المشيختين كانتا ضمن ولاية الدول التي حكمت فلسطين وان حكامها كانو محليين تابعين لموك وقادة الدول الحاكمة للمنطقه هم من يعينونهم ويستبدلونهم متى شاؤ . وعلى سبيل الامثله فان الاصحاح 24 من سفر الملوك الثاني يذكر نصا ان نبوخذ نصر البابلي الكلداني قد خلع يهوياقيم ملك يهوذا بعد أن غضب عليه وعين عمه متنيا مكانه وغير إسمه إلى صدقيا حبث جاء بالفقرة 17 من نفس الاصحاح والسفر ما نصه / وملك (بتشديد اللام ) ملك بابل متنيا عمه عوضا عنه وغير إسمه إلى صدقيا / . بل أن ملوك اليهود المزعومين كما تسميهم التوراه لم يكن بإمكانهم بناء معابدهم دون إرادة الدولة الحاكمة . ومثال ذلك ما جاء في الإصحاح 4 من سفر عزرا في إطار بناء الهيكل الثاني حيث جاء بالفقرة 3 ما نصه //فقال لهم زربابل ويوشع وبقية رؤساء آباء إسرائيل ليس لكم ولنا أن نبني بيتا لإلهنا ولكننا نحن وحدنا نبني للرب إله إسرائيل كما أمرنا الملك كوروش ملك فارس // إنتهى . ولا أدل على حجم وقيمة تبعية ما تسميهم التوراه ملوك اليهود أن يقرأ الإنسان في التوراه من أن هؤلاء الملوك المزعومين يقدمون مكتنزات معابدهم وذهبهم هدايا ورشاوي للفاتحين أو الحكام الجدد مقابل إبقائهم حكاما أو ولاة أو وكلاء . ومثال ذلك ما فعله يهواش حين اكتساح الأراميين لفلسطين بقيادة حزائيل العربي . والنص التوراتي في هذا هو الفقرتين 17, 18 من الاصحاح 12 من سفر الملوك .