إن مسلسل التصريحات الإيجابية والوعود بالتغيير ومواجهة التحديات الداخلية الذي اعتمدته الدولة لسنين وما زالت في سياق سياسة التخدير يبدو أنه يشرف على نهايته ولم تعد هذه السياسة قادرة على الصمود أمام النتائج المتلاحقه والمتعاظمه، فقد استنبتت هذه السياسة ألغاما اجتماعية وسياسية واقتصادية من شأنها أن تنفجر فظائع بحق الدولة وشعبها، فلقد تعدت هذه السياسة حدودها ولم تقف عند هدف تحجيم وحصر أوليات المواطن بتأمين عيشه وأمنه بعيدا عما يجري بحقه من جرائم سياسية مقبلة تحاك، بل باتت الدولة اليوم تفقد شكلها بعد أن فقدت مؤسساتها مضمونها وأصبحت تائهة بلا رابط مع نفسها ومع بعضها، وفي حالة تسيب لا تعرف مرجعية لها ، والأجهزة الأمنية والرقابية باتت لاتعمل وفق سياسة ممأسسة ولا تعرف ما تبقى لها من صلاحياتها.
فالأردن اليوم يمر في حالة تشرذم سياسي واجتماعي واقتصادي يشمل كل طبقاته في القطاعين العام والخاص نتيجة لتلك السياسة، وسيد الموقف في هذا التشرذم هي المصالح الخاصة والتناقضات بين الأقوال والأفعال على حساب الوطن والمصالح العليا للدولة، فالقبائل والعشائر انفرط عقدها وأصبحت بلا لون ولا موقف ولا مبدأ موحد أو ثابت إزاء ما يجري من قضم للدولة وهيبتها واتجاهها للمجهول وتحول رجالها الى راقصين على ألف دف ودف ، وعلى حبل واحد هو هو حبل المصلحة الخاصة الذي أصبح وحده يشد المعارض والموالي.
ورؤساء الوزارات السابقون بمختلف اتجاهاتهم ومواقفهم ووزنهم الثقيل والخفيف اصبحوا كلهم معزولين عن النظام وعن ما يجري في الدولة وعن اعتباراتهم الوظيفية السابقة، وهم يرضخون تماما لهذا العزل. ومن يحاول منهم التوجه للقصر متبرعا بقصد النصيحة يجري صده والاساءة اليه، فبعضهم أسرى لتعلقهم بالماضي والحنين اليه فلا يحاولون القيام بأي نشاط سياسي وطني شعبي ينقذ الدولة من الأسوأ الذي يتوقعونه ، وبعضهم من المعروفين بوطنيتهم ونظافة أيديهم أسرى لليأس والتردد والتجارب الفاشلة.
والنقابات المهنية رغم انها تضم مئات الالوف وتمثل الطبقة الوسطى عصب الدولة وغير المرتبطة مصالحها الخاصة مع الحكومات ولا تعتاش على خزينة الدولة والوظيفة العامة والتي يفترض بها أن تمثل الصوت الوطني الحر ولها تاريخ في هذا، الا ان الجهات الأمنية والمخابرات بالذات اخترقتها وأقصت قيادات وجلبت قيادات واستوزرت أخرى، وكلما استطاع حر فيها الوصول الى القيادة تجند الجند له وتقزمه، فهي اليوم لا يجمعها سوى مجمع النقابات وهاجس كل نقابة فيها أصبح تحقيق مصالحها الخاصة ببيع مواقفها في كل مسألة وطنية بالقطعة وما تجود به الدولة.
الاعلاميون الذين كانوا في كنف الدولة ونظامها انتهى دورهم وانتهت حظوتهم وسوقِهم. وجاء مكانهم اعلاميون لا علاقة لمعظمهم بالمهنة ولا السياسة. ويمتلكون صحفا الكترونية تعتاش على رضا الأجهزة الأمنية أو تغلق ابوابها بغضب الأجهزة نفسها ولا ينجو منها الا الأحرار الذين يقبلون بالقليل في سبيل رسالتهم. وهؤلاء الاعلاميون غير معنيين بالشعب الاردني وقضاياه فسقفهم هو سقف النظام. أما الاعلاميون القدامى الذين ذهب بهم التغيير فقد هاجروا وراء البحث عن سقف جديد وأصبحوا يديرون فيديوهات يجتر أكثرهم بها ماضيهم ويحكون قصصا غير مترابطة ولا هادفة عفا عليها الزمن، ويسوقون أنفسهم بأثر رجعي كأشخاص كانوا (واصلين) ويتلهى بها البسطاء ولا تسهم في الواقع القائم الا سلبيا. فهم يملأون فراغات اعلامية بالدولة بصورة وهمية ومشوشه ،أو يقومون بمهمات موكولة لهم كخلط الأوراق.
أما المتقاعدون العسكريون فقد حاولت الدولة احتواءهم كأي دولة تحافظ على خصوصية العسكري من خلال مؤسسات ترعاها الدولة. لكن متطلباتها تفوق الامكانيات التي تخصصها الدولة لها والرتب العسكرية الكبيرة يصعب استيعاب مقاماتها، فأصاب هذه الشريحة نوعا من التذمر مبعثه مصالحها لكنه فتح أعين الكثيرين منها على سياسات الدولة فتشكلت منها تنظيمات معارضة دخلت المعترك السياسي بقوة مؤثرة أحدثت صدمة لدى النظام في حينه الا أنه تم اختراقها عموديا وافقيا من قبل الاجهزة الأمنية وهي اليوم تعيش حالة التهميش والشرذمة واختلاف الانتماءات وبروز المصالح الشخصية فيها.
أما الأحزاب فلا اتكلم عنها، فما كانت يوما الا لعبة الدولة، ولكني اتكلم عن شريحة الشخصيات الوطنية المدنية المستقلة والتي تضم القليل القليل من الشخصيات الحزبية الوطنية الحرة ولها أسبابها في الانضمام للأحزاب، هذه الشريحة هي أكثر الشرائح تنوعا من المكونات الاردنية وأكثرها فهما للواقع وشعورا بالهم الوطني واتفاقا على طبيعته، وبالحاجة للتغيير والاصلاح الجذري وتسمية المسميات بأسمائها، وأكثرها بعدا عن تأثير الأجهزة الأمنية، رغم تفاوتها في الثقافة والجرأة بملامسة الحقائق والالتزام وفي درجة الانضباطية في العمل السياسي، هذه الشريحة تسجل الرقم الأعلى في اللقاءات والمشاورات وتسجل بنفس الوقت الرقم الأعلى بالفشل حتى اصبحت الان مشرذمه، والسبب أنها شريحة تصر مكوناتها على أن تبقى شخصيات غير قابله للذوبان في شخصية اعتبارية واحده.
أمام هذا المشهد تحول الشعب اليوم لكرة ثلج تائهة تتدحرج باحثة عن مُنقذ حتى لا تنفجر بنفسها وبغيرها، والفساد يعم ودخل الى سلوك المحترمين من الناس دفاعا عن النفس والحياة والمصالح الخاصة في ظل تشرذم المجتمع المحلي وغياب هيبة الدولة وجديتها بمكافحة الفساد ومواجهة التحديات وغياب الأمان، وقانون ضريبة الدخل الذي عرى الحكومة والديوان من ورقة التوت بتطنيشهم الشعب والالتزام بالتعليمات الخارجية قد أحدث شروخات اجتماعية ومؤسساتية في القطاع الخاص قائمة على المصالح الخاصة ، وأسقط شعرة معاويه بين الشعب من جهة وبين القيادة وحكوماتها من جهة أخرى، ووصل الأمر الى آخر ما كان يفكر به أي مواطن أردني من سقف عال يعبر فيه عن غضبه ويأسه ، وأصبح ذلك السقف من الهتاف جزءا من مادة وسائل التواصل الاجتماعي.
ونحن هنا نتكلم عن ردات الفعل الشعبية على ما يجري في الشأن الداخلي من ضغوطات وفساد وتسيب وليس عما يحاك من مؤامرات سياسية خارجية أهمها وفاتحتها نزع الصفة القانونية عن اللاجئين الفلسطينيين الذي من شأنه أن يعظم الهيجان والرفض الشعبي و يفتح بابا جديدا للضغوطات ينفذ على خزينة الدولة وأمن الدولة. فما يجري على صعيد تصفية الأونروا خطير جدا على الاستقرار في الأردن واستقرار النظام بالذات، والتقارير الوارده تشير الى أن أمريكا نفسها أصبحت تفكر بالمحاذير الخطيره وبأنها تحاول إقناع اسرائيل صاحبة فكرة منح قيمة المساهمة الأمريكية والخليجية في الاونروا الى الأردن، بخطورة الفكرة وتأجيلها لما بعد وقف الفساد المرعي وتسوية الأرضية الإدارية واختلالاتها في الأردن
أمام هذا المشهد العام المرتبك، الشعب الاردني بكل فئاته وتياراته هو الآن عاجز عن مواجهة واقعه السياسي والاجتماعي والاقتصادي، وهذا العجز ولد لديه ثقافة العجز التي تصنع اليأس والاتكالية وانتظار المخلص الذي يهبط عليه من فوق فلا يهبط، فيلجأ هذا الشعب الى الجزء السهل من الدين وترك الصعب فلا يستفيد، وتنبري نخبه المشتتة لتحميل المسئولية في كل شيء لغير المسئول حتى لو كانت امرأة ليست لديها المسئوليات الدستورية ليختبئون خلفها، خوفا من مواجهتهم للمسئول الدستوري وللواقع، ورغبة منهم في البقاء بدائرة الوطنية دون كلفة البقاء فيها، فيدفن الجميع رؤوسهم بالرمال ويكذب الرواد أهلهم ويبيعون تحدياتهم الحقيقية وتمر كل المؤامرات على بلدنا وقضيتنا الوطنية والقومية.
وهذا المشهد الذي يختلط فيه الحابل مع النابل ليس في صالح أحد، ولا يشكل حاضنة لنجاة أحد ولا حاضنة سليمة لتمرير أية مؤامرة كما يعتقد المعتقدون، لا خروج آمن من المأزق، ما لم يشعر الأردنيون بأن العائلة المالكة جزء من الشعب الأردني ومن حالته الوطنية، فالحكم في الأردن يختلف عن أي حكم في أية دولة أخرى. ذلك أن العائلة الهاشمية تحكم في الأردن بشرعية قومية يعضدها الدين، بقبول وطني أردني لتحقيق الطموحات الوطنية والقومية، وهكذا كان الأمر عندما حكمت الضفة الغربية أيضا. فالقبول الشعبي الوطني هو الأساس في حكم عائلة عربية قادمة من الحجاز، وإن المراهنة على سكوت الشعب عندما تبلغ الخناجر الخواصر خاسره، والمراهنة على تفضيل الشعب لوضع متعاظم الخطورة والسوء على المغامرة والإنتفاض خاسره.
ويجب أن تعلم الأسرة الهاشمية الكريمه أن الشعب لم يبق لديه شيئا ليخسره سوى كرامته الانسانية والوطنية ولن يترك المتبقي هذا ، وعليها أن توازن وتختار بين انجرارها الى الإنتحار السياسي على مذبح أعداء الأمة وتصفية القضية وبين من تعاقدت معهم على قاعدة حكم هاشمي قومي عزيز وشعب حر كريم. فلا خلاف ولا اختلاف في الأسرة أو في النخب يعنينا الا على خلفية البحث عن الأفضل لتحقيق الرسالة الوطنية والقومية بإرادة شعبية ، ولا تلاقي الا على هذا.
كاتب وباحث عربي