التحدي كبير جدا. حكامنا جرُّونا وجرُّوا الوطن في رحلة طويلة للمقصلة الصهيونية، ونحن اليوم على أبوابها. الأردن يواجه منذ عقدين غزواً تاريخياً وحضارياً ناعما وعميقاً لوطن وشعب. وكان كل ذلك لجعل الأردن فرشة لاستقبال مرحلة عبور وعد بلفور إليه من غربي النهر ليُنهي بهذا العبور احتلال وتهويد فلسطين والفتك بالأردن بخطى ثابتة. فصفقة القرن عنوان إيهامي لمرحلة مفصلية اقتضتها تكاملية الوعد على ضفتي النهر حين تداخل ويتوقف استكمال احتلال فلسطين وتقنينه على تفريغ المكونين السكاني والسياسي للقضية الفلسطينية فيه كمحطة لا كوطن بديل. فوعد بلفور وصل الى الحد الذي يتداخل فيه ويتوحد ميدانيا ً في الساحتين الفلسطينية والأردنية.
هذا وطن بنكهة لا يدانيها وطن أخر على الأرض. المواجهة مطلوبة، واستحقاق شرعي ووطني، ولا منطق يدعو لانتظار نظام عربي غير منطق النفاق والهروب. فالمسئولية باتت مسئولية الشعب. وصراع الشعب في هذا هو مع اسرائيل وأمريكا، وما أولوية مواجهة النظامين في رام الله وعمان إلا في هذا السياق، فأي ضغط عليهما وأي تغيير فيهما سينعكس من نوعه سلبياً أو إيجابياً على أمريكا وإسرائيل وعلى القضية، فهما بحكم الامتدادين الفاعلين للعدو. ومن الطبيعي أن يُقابَل التوحد الميداني للوعد في الساحتين الفلسطينية والأردنية، بتوحد مواجهته في الساحتين، إلا أن شروط ذك غير متوفرة في الساحة الفلسطينية، بينما تعرج في الأردنية ولا بد من مخرج
فالظروف الحالية على الساحة الفلسطينية لا تُسعف لنهضة المقاومة أو حدوث انتفاضة.. والحالة الشعبية في كل من الساحتين على ضفتي النهر غير متصالحة مع نفسها ولا متوحدة. والمفترض أن تكون البداية من هذه النقطة. إلّا أن الخلاف على الساحة الفلسطينية يرقى الى الاستراتيجي بين قطعان أوسلو وشعب المقاومة، بينما على الساحة الاردنية بمكونيها فالحال أفضل والخلاف واهمً. فارتباطه بعقود من العزل الوطني والدس من قبل العدو وأعوانه بات الجميع يعرفه ويعرف أنه على الجميع، والتوحد على هذه الساحة ممكن وسهل. وأمام الوضع الشعبي في فلسطين الذي سأفصله في هذا المقال تصبح الساحة الأردنية هي الخيار لتشكيل الكتلة الشعبية الحرجة فيها لمواجهة الصفقة العابرة بالوعد اليه. فإفشالها في الأردن سيعيق تنفيذها بفلسطين ثم يفشلها، وسيغير معادلة المواجهة غربي النهر على مستوى الشعب والقيادات.
صحيح أن الخلل الشعبي في الساحة الأردنية كبير جداً، ألَخِّصُه بجُرح في المواطنة يعاني منه السواد الأعظم ويفقد الشعب خاصيته كشعب. لكن حله أسهل من سهل أمام جُرح الوطن وبراءة الشعب من الجرم. والمهمة هي استعادة وحدة مكوني الشعب بمكون واحد عصي على الإختراق ثانية، ففيها حياتنا وأمننا وفيها سلامة الأردن الدولة والوطن وفيها تتجسد وحدة المواجهة لقضية ما كانت يوما إلا واحدة بعدو واحد، وبها وحدها نصنع شعباً قادرا ومؤهلا لصنع الضغط الجماهيري السياسي الذي يُفهِم أمريكا وكل الأنظمة المتعاونة بأن هناك في الأردن شعباً بمفهوم أمة ً، وبأن ليس أمامها إلا أن ترضخ لإرادته. ومن رؤيتي لو استثنيت سقف الشراكة والإنقاذ فليس على الساحة الأردنية من الأحزاب والتجمعات السياسية القائمة أو الشخصيات البارزة من هو مؤهل ً للعمل بهذا الإتجاه ولا جاداً، ولا منهم من يُؤخذ على محمل الجد بل على محمل النفاق والمنظرة. ولذلك فإن هناك مسعىً نظيفا جارياً في هذا المسار من النخب المعاينة يقوم على ركائز تلبي شروط استعادة وحدة الشعب.
عودة للساحة الفلسطينية، فلا شك أن المقاومة المسلحة أو الانتفاضة الشعبية هي الطريق لإفشال الصفقة وكل مخطط تآمري في سياق وعد بلفور، وبأنها الطريق الوحيد للتحرير. إلا إني أعتقد بأن الظرف الفلسطيني على هذين الصعيدين مُتعثراً والمرحلة متسارعة لا تستطيع الإنتظار، فمن حيث المقاومة، فقد بنى الفلسطينيون جسمَها وقيادتها في قواعد خارج فلسطين، فكانت رهينة للأنظمة واستخداماتها وللتجزئة، وتم بيع رقبتها وغُيبت شتاتاُ بعيدا عن حدود فلسطين وانتهت بعنوان واحد هو التآمر العربي. وتلتها المقاومة الغزِّية المحاصرة بتأمر عربي أخر.
وعلينا هنا أن نتذكر بأن جغرافِيَّة وطوبوغرافية فلسطين ليست في صالح المقاومة والمقاومين بل تعمل ضدهم. ومن الظلم أن نطالب الشعب الفلسطيني بالنموذج الفيتنامي التي تحارب فيه الطبيعة والجغرافيا لجانب المقاوم ولا بالجزائر التي يبلغ طول بعض غاباتها خمسماية كيلو متر وفيها من الجبال ما لا يصل قممها غير الطير. وإن كانت المسألة مسألة بطولة وإيمان وقيم ومبادئ، فما يفعله المقاومون الفلسطينيون على غرار الشاب الفلسطيني عمر أبو ليلى في مساحة بسيطة وأرض مكشوفة وهو يعرف أن لا مخبأ ولا مفر له بل الشهادة وحدها أمامه، فإنما هي البطولة الخيالية التصوّرية التي نقرأ عنها في أساطير الأمم.
نُكمل السياق، ففي غياب المقاومة المسلحة الفاعلة في فلسطين، فإنه من المفترض أن تحل الإنتفاضة الشعبية محلها. إلا أن اسرائيل الكيان المحتل علمَت مبكراً بأن الإنتفاضة الشعبية على الإحتلال بالوسائل البسيطة المعبرة من شأنها أن تحرك شعوب وأنظمة العالم حتى العميلة والمتآمرة منها، وتَعلم بأن الانتفاضة تعيد للقضية حجمها الطبيعي والسياسي كقضية احتلال إحلالي ونقطه. وتعلم أي إسرائيل بأن الانتفاضة الحقيقية والمستمرة كانتفاضة عام 1987 التي انتهت طوعاُ بملعوب أوسلو هي الطريق الأقصر للتحرير في الحالة الفلسطينية التي فيها الجغرافيا معادية للمقاومة المسلحة، والبيئة السياسية العربية المحيطة معادية ومتآمرة. فالإنتفاضة مرعبة للإحتلال وتُنهي امتداده ثم تنهيه. وكما قال نتنياهو بكتابه مشيرا لانتفاضة 87 ما نصه “كانت الإنتفاضة عطية من الله للمنظمة God sent بعد أن كانت ميتة”. أقول بالمقابل أن أوسلو كانت عطية لإسرائيل من المنظمة بعد أن كانت بطريقها للموت”.
فهل هناك إمكانية لانتفاضة فلسطينية ؟ لقد كانت تفاصيل أوسلو ومستحقاتها على الجانب الفلسطيني كفيلة بالقضاء على أرضية أية انتفاضة مؤثرة أو مؤهلة للإستمرار، وتُرسي من ناحية ثانية أرضية لتجريم المقاومة المسلحة، وتجعل من منظمة التحرير شريكا مفاوضا تحت عباءتها، ومعترفاً باسرائيل واحتلالها ومعترفاً بأن الغزاة الذين جاءوا من كل صوب وجنسية شعبا باسم شعب اسرائيل ظلماً وعدواناً على التاريخ ومفهوم اصطلاح الشعب ً. وهذا كله تحقق عملياً فيما بعد. لا نبحث بالسبب فهو في ادارة الصراع الفاشلة سياسيا وفكرياً وربما وطنياً..
أما لماذا أستبعد حدوث الإنتفاضة، فعلاوة على ما سلف، هناك في الضفة ما يزيد عن مايتي ألف من الموظفين المترزقين العاملين والوهميين برواتب شهرية من السلطة مصدرها إسرائيل والعمالة وإما ستُقطع، وهناك حوالي أربعين ألف عسكري أمن مجندين في السلطة لحماية أمن الإحتلال، والمئات منهم وربما الآلاف لهم خطوط منفصله مع الاحتلال (مدوبلين). وهناك في الضفة الألاف من أشخاص السياسة والثقافة الفاسدين المرتبطين مع الدول الغربية من خلال المنظمات غير الحكومية NGOs يقبضون المداخيل المجزية. وهناك ما يقابل ذلك فراغ وخلو من القيادات الميدانية المحلية في الضفة بعد أن صفاها رجال أوسلو مابين العزل والتطفيش وسجون الاحتلال وحلوا محلها، وما تبقى هو شعب منهك وملاحق ومُبتز بمعيشته ومُرهب بأمنه، ويُحكم مباشرة من سلطة فلسطينية وجودها من وجود الاحتلال وتتحالف معه على شيء واحد هو الرضوخ الفلسطيني للإحتلال وعدم مقاومته. لا أرى أن شعب فلسطين بالداخل يا منصفون في وضع يستطيع معه أو يؤهله لانتفاضة مستمرة وناجحة وليست دماؤنا مجانية. ولا بد من المواجهة غير النمطية، وفي الرهان على الساحة الأردنية منطق موضوعي ومرحلة فيها استحقاق تاريخي. إنها صفقتنا لسحق ووأد مسيرة صفقاتهم.