افهم ولا أتفهم
أفهم الإستعداء العربي الرسمي لإيران على أنه صناعة أمريكية صهيونية مردها الصراع المكشوف بينهما على خلفية تصادم المشروعين الصهيوأمريكي والإيراني في المنطقة ومآرب أمريكية أعمق . وأن الذريعة العربية المعلنة لمعاداة ايران هي الإستخدام السياسي للطائفية وتصدير الثورة طمعاً بالسيطرة على المنطقة العربية ونجاحها في اربعة أقطار . لا نناقش في هذا هنا ، ولكني أعلم بأن الوجود الإيراني في الدول الأربع مشروع من وجهة نظر القانون الدولي كون أنظمتها سمحت لها بذلك ، وأفهم بأن لإيران أسباباً وأعذاراً أخرى سأمر عليها في السياق . لكني لا أتفهم أن تشترك وتتفق الأنظمة العربية الحليفة للمعسكرين المتضادين الصهيو أمريكي والإيراني على استعداء تركيا . وإذا كان هناك في هذه المفارقة تقاطع بالمصالح فما هي وأين . وإن لم يوجد فهذا يستلزم وقفة تأمل من المواطن العربي ، ونقاشا حراً من أحرار، فربما يدركوا بأن أمريكا تتحكم بتشكيل الرأي العام في بلادنا ومن ضمنه ما يخص الشأنين التركي والإيراني.
المستعْدُون من شعبنا لتركيا هم في الغالب من المؤيدين أو المصطفين مع ايران كدولة وحيدة ربما في العالم التي تُعلنُ عداءها وعدم اعترافها باسرائيل ، هذا المصطف له الحق في اصطفافه المحسوب في إطار هذا الموقف الإيراني وأضع خطين تحت كلمة المحسوب . بمعنى أن تكون لاصطفافه حدود يقف عندها ولا يتعداها . حق عليه أن يصطف معها ويتمدد باصطفافه ضد فئة المناوئين لموقفها من القضية الفلسطينية وضد كل من يستعديها إقتصاديا أو يستعدي مصالحها القومية المشروعة العليا . ولكن أن لا يتمدد أو ينسحب اصطفافه على معاداة دول ليست من هذه الفئة لغاية لديه واهمة أوفاسدة تضر بايران والقضية ، وخصوصاً من الدول التي لنا معها مصالح سياسية واقتصادية وشعبها مسلم ملتزم مثلنا بمعاداة الصهيونية اليهودية كتركيا . وحتى في حالة وجود اختلاف لها مع ايران في مسائل أخرى افتراضاً فعليه أن يأخذ موقف الحياد المطلق أو الإيجابي إن شاء، أو يعبر عن تعاطفه مع إيران دون الإساءة والمزايدة أو يصمت . وعلى أن ندرك بأن لكل عصر سياسته ، ولا انتقام ولا حقد لماضي الزمان في مفهوم الدولة والشعب بل عمل سياسي لصالح الحاضر والمستقبل . فإذا فُتح التاريخ بقديمه وجديده فلن تجد بريئاً.
وبين هلالين أقول ( بقدر ما يتعلق الأمر ببعض الانتقادات لإيران فقد سبق وقلت أن سياستها في استخدام الدول العربية بالتسييس المذهبي هو مقابل استخدام الصهيو أمريكي لأقطار عربية أخرى في حرب الضغوطات القائمة بينهما . حيث قلت بأنه لا يمكن أن نحلل الشيء لأمريكا ونحرمه ذاته على ايران سيما والقواعد الأمريكية مزروعة بجوارها في أقطار عربية . وبأن ايران تعلم كغيرها بأن الوطن العربي معظمه مستباح للجميع بما يشكل تهديداً لمصالح البعض ،وهي ربما من البعض ، وأن الدول المتدخلة فيه لا تواجه أمامها نظاماً عربياً يُمكن ان تَحسب له حساباً أو تخجل منه لأنها أنظمة خائنة لأوطانها وشعوبها ،ولا تواجه أيضاً معارضة عربية ممأسسة . نحن لا نبرر هذا الفعل المؤسف والمرفوض من الجميع ولكنه الواقع والمنطق المر . وتركيا ليست بعيدة عن هذا الطرح أيضاً)
وهنا أود مخاطبة كل الألوان السياسية العربية باتجاهاتها ، بأن معزوفة تدمير إيران لأربعة دول عربية كلنا نعزفها في سياقها المحدود ، كما نعزف معزوفة تركيا في سوريا والعراق وليبيا ،وربما معزوفات أخرى مشابهة .وكأن هذه هي قضيتنا وأن باقي الدول العربية بخير ، أو أنه إذا خرجت الدولتان من أقطارنا سنكون بخير ، أو أنهما تدخلتا دون إذن أو قبول من أمريكا . هذه الإعتقادات فيها من السطحية السياسية ما يغث البال . فالقضية التي تواجهنا أكبر بمسافة فلكية وتجاوزت فلسطين وبعبصات بيروت .إنها قضية إعادة هيكلة الأقطار العربية جغرافيا وديمغرافياً وسياسياً وثقافياً وإسلامياً ليصبح ممكناً استعمارها صهيونياً وفرض السيادة عليها بقالب يعطي الإنطباع وكأنه خيار لشعوبها العرببة . فالإحتلال الحقيقي والناجز هو احتلال السياده . وأمريكا من تقود المهمة بسيناريو اسرائيلي \صهيوني .
وللتوضيح أكثر ، فإن الصراع في سوريا والعراق ولبنان وليبيا واليمن كله قائم بعمل وبإرادة أمريكية . والهدف من هذه هو تسليم هذه الدول لوكلاء مستعربين متماهين مع وكلاء بقية الأقطار العربية المستقرة على الخيانة والخضوع ، كي يصبح عندها جميع الحكام العرب مؤهلين للجلوس على طاولة تنفيذ حزمة من المشاريع والخرائط ، إن قُيّض لها النجاح فستُنهي أي وجود لمسميات الوطن العربي ،والشعب العربي ، وتنهي مكانة الإسلام ، لقرون قادمة.
إيران وتركيا مُستخدَمتان للمساعدة في عملية التحول هذا في الوطن العربي . وما تعتقدانه من تقاطع مصالحهما مع أمريكا وغيرها في هذا ألّا وهم وفخ لهما . وما كان باستطاعة إيران أن تنجح بتغيير الديموغرافيا السورية والعراقية على هذا النحو الخطير ولا أن تنجح الدولتان في استباحتهما لتراب الوطن العربي والإخلال بثقافة وحقوق بل وبعقيدة شعبنا في أقطاره لولا تشجيع أمريكا وصمتها المُشعُّ خضرة. وهما في المحصلة مستهدفتان بتغيير أو تطويع أنظمتهما ، وبكيانات جديدة على أراضيهما.
الخلافة التركية وهم تركي ليس من الحكمة إثارتها. وتصدير الثورة وهم إيراني ، والجيش الحر كُر في سوريا وليبيا وأينما توجه ، وحزب الله حزب الآيات الإيرانية طائفياً أولاً وأخراً ، ووهم عربي .إنه قادر على صنع الفرق لنا عسكرياً وقلب طاولة الخرائط ولن يفعل . فهو لم يؤسس لخوض معركة العرب العسكرية بل لخوض معركة إيران السياسية . وما نسميه الاستعمار التركي أو الإيراني لوطننا في هذه المرحلة هو استعمار استخدامي مؤقت يستطيع تحقيق مهمات خطيرة في وطننا تعجز عن تحقيقها أمريكا لعدم قدرتها على الاختلاط والتواصل الإجتماعي مع الشعب ، بينما تركيا أو ايران على سبيل المثال قادرتان على التغلغل الإجتماعي مع الشعب العربي وتغيير المفاهيم بالقوة والإرهاب أو بالفتن أو بالإقناع لتحقيق التغيرات الإجتماعية المطلوبة على الأرض لأمريكا واسرائيل . ويكفي على سبيل المثال لاختراق وحدة الشعوب العربية في مشاعرها وتماسكها وتآخيها وحاضرها ومستقبلها تجيييش وتسييس فكرة المذهبية التي استخدمتها ايران ونجحت بها لا سيما في العراق وسوريا بعشرات الميليشيات الطائفية الإرهابية مغسولة الدماغ ، بعد أن استخدمتها الوهابية السعودية وفشلت بها ثم استأنفتها بمساعدة أمريكية واستخدام المنظمات التجهيلية والإرهابية . وكما قلنا فإن استهداف الأوطان لا يكون إلا باستهداف شعوبها والعكس صحيح ..
من الضرورة أن نفهم كشعب، بأننا نخضع لعملية توجيه إعلامي ناجحة تقودها أمريكا لجر انتباهنا عن حقيقة المؤامرة الكبرى التي تقودها ضد الوطن العربي وعقيدة الإسلام ، تجرنا لمسائل تخدم هذه المؤامرة . فأمريكا أصبحت من تصنع الرأي العام في بلادنا بعمل إعلامي ممأسس، مستخدمة إعلامنا ونخبنا ومثقفينا ومسيسينا ما استطاعت لذلك سبيلا .فنحن في الواقع مسيرون في مواقفنا وفي سلوكنا إزاء أيران وتركيا إلى حد كبير . وحيث أن المسيسين الناشطين عندنا يغلب عليهم الطابع اليساري والقومي ، فإنهم بعد تفكيك الاتحاد السوفيتي وانهيار التيار القومي لم يجدوا أمامهم الا التحالف في وجه الأسلاميين وبالأصح أحزاب الإخوان في مزايدة تدعمها الأنظمة في غالب الظروف ،مستخدمين القضية الفلسطينية كالعادة . ومن هنا فإن تركيا بزعامة أردوغان الإسلامي أصبحت محط هجوم ومزايدة لهم مغايرة للواقع وتلحق الضرر بنا وبقضيتنا كعرب ومسلمي، رغم الفارق الكبير بين سياسة وسلوك تركيا أردوغان وأحزاب الإخوان ببلادنا، ورغم التحول السياسي التركي الإيجابي الذي يراه صاحب البصر والبصيرة ويحس به الأعمى.
لقد نقلت قيادة أردوغان تركيا من محطه مظلمه بحق نفسها وبحق قضيتنا الفلسطينية الى محطة أفضل . الشك في هذا مسموح لكن الأحكام المسبقة وإشاعة التشكيك بالتحول والوقوف ضده أو الطعن به لا يخدم قضيتنا ولا مصلحة لنا به. ليس من دولة متدخلة جاءت سورية متبرعةً أو لحماية سورية الوطن .والمتابع يُصدم لحجم ما حصل عليه الحلفاء والأعداء من المقدرات السورية عطية أو اغتصاباً، تقييمنا الاستراتيجي لتركيا يقوم على طبيعة رؤيتها للمشروع الصهيوني وعلاقتها مع إسرائيل ونواياها من الوجود الإسرائيلي في المنطقة واحتلال فلسطين. وهذا التقييم يجب أن يؤخذ في إطار عملية التحول التركي واستكمالها، فوضع تركيا الداخلي من ارث قرن للصهيونية فيها وارتباطاتها السياسية التقليدية مع الغرب والتحديات الناشئة من الفوضى السياسية في المنطقة أسباب تعيق إعلان موقف سياسي جديد بين يوم وليلة. ولكنّا لا نرى تصعيداً تركياً مع إسرائيل موازياً لتماديها. وإن كان أردوغان يشارك بفكرة حل الدولتين فإسرائيل ترفضها والضمير الشعبي العربي يرفضها لأنها تنطوي على اعتراف بالاحتلال لفلسطين ، ومع ذلك إن كان صادقا لا متماهياً مع ملعوب حكامنا فعليه وله مبرر بذلك أن لا يتأخر بقطع كل أشكال الاعتراف باسرائيل والتعاون معها حتى ترضخ بكل ملفات القضية وعلى رأسها حق العودة طبقا لقرارات الأمم المتحدة.
تركيا تنال اليوم من أراضي قطرين عربيين على حدودها ، مستندة في هذا على مطاطية المادة (51 ) من ميثاق الأمم المتحدة التي تقوم على حق الدول في الدفاع عن نفسها نظراً لتطور خطر الفئات الكردية عليها، وكلنا نعرف مدى حساسية هذه المسألة لها . حيث في ضوء الحالة الإنفلاتية في سوريا والعراق وتصاعد خطر الكرد سواء في تشكيل دولة على الحدود مع تركيا أو بتوفر البيئة للهجمات على أراضيها، قامت بفرض منطقة عازلة أو أمنة تحت سيطرتها في سوريا وأخرى متحركة في العراق. وطالما أنشئت هذه المنطقة دون موافقة النظام السوري أو الأمم المتحدة فهي احتلال. ولم تلاق تركيا صداً من أي طرف دولي موجود على الأرض السورية بسبب التفاهم بعدم الصدام مع بعضها على أرض القطر. ثم قامت بالدخول إلى ليبيا بدافع مصالحها الحيوية في شرق المتوسط ، وعلى نفس قاعدة الانفلات في القطرين. ولكنه تدخل مشروع حسب القانون الدولي لأنه بموافقة وتحالف النظام الشرعي، علما بأن الطرف الليبي المعارض يقوده حلفاء لإسرائيل يعملون بالمجان لحسابها ودون مصلحة لهم وعلى رأسهم الإمارات وحفتر.
لا يمكن أن نعزل سلوك تركيا وإيران في بلادنا عن القصور في إدراك شمولية الخطر الصهيوني. وتخطئ الدولتان إن اعتقدتا بأدنى احتمالية لتحقيق طموحاتهما الوطنية والقومية في حال انعزالهما عن طبيعة الصراع العربي الإسرائيلي المرتبط بالمشروع الصهيوني في المنطقة وبالعقيدة الإسلامية لشعوبها . فلن تكون سلامة الوطن العربي إلا الطريق لسلامتهما، ولن تترك الصهيونية دولة شعبها مسلم في المنطقة بخير حتى لو كان مسلماً على الهوية فقط. ومن المؤسف أن تتعاملا معنا ومع حرمة أراضينا وقدسية وطننا من خلال استغلال وضع حكامنا والهجمة الصهيونية علينا وكبوة شعوبنا. ولا بد من تفاهم وتنسيق أعمق بين الدولتين إزاء الخطر الصهيو\ أمريكي وإعادة تقييم سياستيهما إزاء الوطن العربي وشعبه، ولا نجد سبباً كبر أو صغر يمنع أردوغان من المبادرة للتواصل مع القيادة السورية وإيجاد مخرج للتعاون والتنسيق معها لتسليم المنطقة الأمنة للجيش العربي السوري، وبما يكفل لتركيا منع دخول أية قوات معادية لأراضيها منها بدعم وضمانة روسية إن صدقت النوايا.