إن النظام الدولي القائم ما زال هو المنبثق عن نظام الأمم المتحدة المتمثل بنظام مجلس الأمن . وهو نفسه أيضا نظام حكم خمس دول كبرى للعالم (تمحورت بمعسكرين ) ، اتفقت على منع الحرب العسكرية بينها واحترام مصالحها ومناطق نفوذها . وقننت ذلك وقيدته في ميثاق الأمم المتحده من خلال ميزة الفيتو كركيزه أساسيه لهذا النظام العالمي . لكن سنة الكون تقضي بأن يكون هناك استمرار لصراع المصالح ولغالب ومغلوب . فتحولت فكرة الحرب المحظور بينهم الى حروب خارجية بالوكالة ، وحلت بينهم حرب اقتصاد مباشرة كبديل ،وأصبحت هي أداة الضغط السياسي على الأخر وما يميز الكبير عن الأصغر ، وعندما تنازل بموجبها المعسكر السوفيتي عن الندية طوعا أو كرها ، فلم تتنازل روسيا عن توازن الرعب ولا عن لعبة الأمم المتحدة وفكرتها التي لا تؤثر عليها القطبية الثنائية او الأحاديه .
وبموجب هذا فإن أي تغيير مؤثر بمنطقة ما أو دولة ما في هذا العالم ، لا يتم أو لا يستقر إلا بموافقة أو اتفاق الدول الكبرى داخل مجلس الأمن وبقرار منه ، باستثناء أن يكون هذا التغيير بقرار داخلي للدول في شأن معزول يتبع للسلطان الداخلي . وإن ضمان عدم الإخلال بهذا النظام الدولي يكمن في ألية الفيتو أو ما أسميه آلية توازن الارادات الكبرى .
وإن إعادة تقسيم وهيكلة دول منطقتنا المرتبطة بها الأحداث التدميرية الجاريه والمفارقات السياسية التي ستتجاوز سوريا والعراق ، سيكون في المحصلة عبر الأمم المتحدة ونظامها المحكوم بتوازن الارادات الكبرى (امريكا وروسيا ) من خلال تأمين عدم النية باستخدام ألية حق النقض وهو الأمر الذي يفترض وجود توافق بين الدولتين ، وكل الدلائل تشير لتوفره ، ويبقى الاقتصاد مفتاحا تفاوضيا لحلحلة الموقف الروسي . فالمجلس لا يعقد لحسم خلاف مباشر بين الدولتين فهذا يحل خارجه، بل يعقد على أمر يخص مصالحهما لدى الأخرين .
وأذكر بهذا السياق أن ادارة اوباما من واقع فلسفتها ومداهمة الوقت ستترك أمر حسم الأزمة في منطقتنا للإدارة القادمه ، وأن هيلاري كلنتون كرئيس متوقع هي جمهورية العقيدة ومحافظة متصهينة داخل الحزب الديمقراطي ، وراعيه لفكرة الشرق الأوسط الجديد . وهذا يعني أن أمامنا سنة أخرى أو سنتين من التسويف على حساب دول المنطقة وشعوبها . وإن أي هدنة هي مستبعدة التطبيق حسابيا وبحكم الكذبة . وتعني مما تعنيه ، استجابة شكلية للوضع الانساني ، ومدا في عمر الأزمة وتجددا للقتال بشكل اوسع وأشد بعد اول فشل للمفاوضات المحظور نجاحها في هذه الفترة المبكره والتي يعيش فيها الزعماء العرب حالة إنكار وتشعر فيها الدول الاقليمية بحرية التصرف .
ومن هنا فإني ألقي الضوء تاليا للتنوير على ما يسمى بحق النقض أو الفيتو من حيث منشأه وطبيعته وتقييمه . وأقول بأن
ليس هناك اي وجود في الميثاق لكلمة فيتو أو كلمة نقض . فهذه الميزة اتفق عليها أصحاب الفكرة والمنتصرون دون الافصاح عنها ، وحبكوا صياغة مضمونها بفقرات المادة 27 من الميثاق . فهو حق قننوه لأنفسهم لكنه لا يقرأ صراحة بالميثاق بل يتم استخلاصه أو استنباطه من خلال مفهوم نص الفقرتين الثانية والثالثة من المادة 27 من الميثاق . فالفقرة الثانيه تنص ، تصدر قرارات مجلس الأمن في المسائل الاجرائية بموافقة تسعة من اعضائه ( هم 15 منذ عام 65 ) / وتنص الفقرة اللاحقة والمرتبطة بها كالتالي / تصدر قرارات مجلس الأمن في المسائل الاخرى كافة بموافقة اصوات تسعة من اعضائه يكون من بينها اصوات الاعضاء الدائمين متفقة /. انتهى .
تلك كلمات صيغت بطريقة ناعمة وتضمنت شرطا يجعل من صدور اي قرار لمجلس الامن رهنا بموافقة جميع الاعضاء الدائمين في المجلس ويجعل عدم صدوره رهنا بمعارضة عضو واحد منهم ، ومجلس الأمن هذا يعمل بموجب المادة 24 وكيلا عن الجمعية العامة ( المجتمع الدولي ) في مسائل السلم والأمن الدوليين وكل ما له علاقة بذلك ، والوكالة غير قابلة للعزل استنادا للمادة 108 التي تحظر تعديل اي فقره بالميثاق دون موافقة جميع الاعضاء الدائمين داخل الجمعية العامه هذه المرة . وهو ما أسميه الفيتو المتخفي على الارداة الدوليه داخل الجمعية .
وقد تبلور مفهوم الفيتو وطبيعته واستخدامه وشروطه وتم اعتمادها بالاتفاق والممارسة بين الاعضاء الدائمين ، ليصبح تعريفه بأنه التصويت السلبي أي التصويت ب(لا) من قبل دولة واحدة او اكثر من الدول الدائمة العضوية على مشروع قرار غير اجرائي حاز على تسعة اصوات او اكثر لصالحه .ومن هنا كان لا بد وأن يبدأ التصويت بالمجلس بالمناداة على الدول الراغبة بالتصويت لصالح مشروع القرار ، ثم ينتقل الرئيس للمناداة على الدول التي تصوت ضده ثم تلك التي تريد الامتناع عن التصويت . فالتصويت ضد مشروع قرار لم يحصل على 9 اصوات لا يعتبر فيتو ، ويكون سقوطه هنا بأسلوب حشد الأصوات ضده . وإن التصويت بالامتناع او عدم المشاركة أو التغيب من قبل أي دوله لا يفسد الاتفاق ولا يعني استخداما للفيتو بل هو في حكم الموافقة على مشروع القرار بخجل ، ولكنه لا يحسب لغايات الاغلبية المطلوبة لاتخاذ القرار . ويمكن ان نستنتج بأن تأمين الاغلبية اللازمة لإسقاط اي مشروع قرار من شأنه أن يجنب الدول الدائمة العضوية المعنية من استخدام الفيتو وإحراجاته.
أما مشاريع القرارات الاجرائية فلا فيتو عليها ، وتصدر إذا حازت على 9 اصوات .وبفضل هذا استطاع وفد منظمة التحرير والعديد من الدول من المشاركه في جلسات المجلس ..أما إذا حصل اختلاف حول إذا ما كان مشروع القرار اجرائي أم غير اجرائي فيجري التصويت على ذلك ، وإن التصويت السلبي هنا لاي دوله دائمة العضوية يسمى فيتو مزدوج .
إن ميزة الفيتو لم تأت عبثا ، فمن شأنها الإبقاء على الأمم المتحدة وعلى النظام الدولي الذي كرسته ، فهي عامل هام للحفاظ على السلم والأمن الدوليين وعلى التوازن السياسي بين الدول الكبرى وتحول دون تصادمها وتحافظ على مناطقها ومصالحها الحيوية وتمنع لتاريخه حربا ثالثه .إنها ميزة جاءت استجابة لظروف وحقائق كانت على الارض، وكان لها ما يبررها رغم عدم ديمقراطيتها وتسببها في تعطيل عمل المجلس وإلحاق الظلم بقضايا الشعوب واضطرار الدول الأخرى والضعيفة التي لا ينصفها المجلس للجوء الى الحروب والتسلح المكلف .
لقد كان هذا الحق من ادوات النظام الدولي الإسستراتيجية في فترة الحرب البارده وجنب العالم الكثير من المتاعب والمصاعب المدمرة ، ولم يصمم ليكون أداة تكتيكية أو للمقايضة كما هو عليه الحال اليوم . وكان طبيعيا أن يلقى هذا الحق قبولا عند الشعوب في أربعينيات القرن الماضي لكونها تعلم بأن تلك الدول هي المنتصره وصاحبة فكرة الامم المتحده وليس من بين الدول الأخرى انذاك من كان يتحمل التزاماتها أو قادرا على مواجهتها بل أن معظم دول العالم لم تكن مستقلة لا نظريا ولا فعليا
اما الان وفي ضوء تغير الواقع الدولي وبروز دول مؤثره اخرى وخاصة اقتصاديا بل وتغيير أو توسيع أسس القوة من عسكرية الى اقتصاديه ، إلى جانب استقلال الدول وشيوع مبادئ القانون الدولي وخطابات العدالة وحقوق الانسان ، وخطورة تعطيل عمل مجلس بالفيتو على الأمن الجماعي ، فلم يعد للفيتو فائدة تطغى على عيوبه . ولقد فشلت دول العالم في الجمعية العامه خلال أكثر من 25 عاما ولليوم في اصلاح المجلس أو إلغاء حق الفيتو او منحه لدول أخرى موثرة بسبب رغبة الدول الخمسة في احتكار هذا الحق تمسكا بالنظام الدولي القائم جشعا . وفي ضوء تمسكها هذا ، فلا بد وأن يصار الى تقليص وحصر اضرار حق الفيتو وذلك بتقليص وتقييد استخداماته والمجالات التي يجوز فيها لتحقيق الأمن الجماعي ، وعلى رأسها على سبيل المثال حالات الاحتلال ومسائل حقوق الانسان والشعوب وعمليات حفظ السلام وتعديل الميثاق وصولا لنظام دولي أكثر عدلا قبل أن يدفع الواقع الدولي الجديد الدول الاقليمية المتمردة والقوية الى فرض حرب عالمية تفضي لنظام دولي جديد على أنقاض حضارة الانسان .