حماران يقودان الى محاولة تفسير الحالة العربية

عشت أسبوعا مع كل العالم داخل سفينة ليس فيها من يتذكر فلسطين أو يعرف الأردن بغير اسرائيل، وليس فيها من يعرف العرب إلا بجاهلية العصر ومهزومية، وبزبد البحار. وتمنيت أن أكون غجريا لمدة أسبوع حتى أعود. حماران لا حصانان لجانب مدافع عربية قديمة في موقع أثري على ساحل مايوركا الأندلس يرمزان للوجود العربي المنصرم. وعرب بمسمى إسبان يرمزون لحقبة العبيد في أوروبا يعتاشون في الشوارع، وعاد بي الزمن عقودا لأتذكر ذاك الدبلوماسي البرتغالي في الأمم المتحدة يقنعني بكلمات للتصويت لبلده في لجنة لا أذكرها حين قال لي (أنظر إلي أنا عربي) وخذلته لأنتصر للكوبي ويا ليتني لم أفعل فلم أكن لأصنع فرقا.
كنت أتمنى للترميز أن يكون غير ذلك وأرى حصانين عربيين بفارسين مكانهما مع كل احترامي للحمارين الإفرنجيين ولكل حمير العرب. لكن السؤال هو، هل لو كان أحفاد العرب اليوم على قدر من القوة أو الحضور سيكون الخيار في الترميز هو نفسه “حماران”؟. وهل لو سمعنا دفاعا عن هذا الترميز من خلال مزايا الحمار مقابل تركيزنا كشرقيين على سلبيات خصائصه أكون كمن على رأسه بطحة ويتحسسها؟ وأنه لو لم تكن هذه البطحة على رأسي ستكون نظرتي للمشهد طبيعية حتى لو كان بألف حمار، بل ربما كنت قد أعطيت المشهد تقييما ورديا، وأديت التحية للحمار ومضيت.
شعوب العالم وعلى رأسها الأوروبية تزدرينا وتزدري إسمنا كشعوب عربية ويمتنعون عن الوقوف معنا في قضايانا ليس عنصرية منهم بل لرضوخنا لحكامنا الطغاة والخون ولاستكانتنا لهدر حقوقنا السياسية والانسانية واستباحة اوطاننا ومقدراتنا، ولاعتقادهم بأننا شعوب نرفض اللحاق بحركة التاريخ والتطور لخلل ثقافي يعتقدونه فينا. ولقد تجاوزت نظرتهم لنا كعرب اليوم نظرتهم الدونية لليهود في القرون ما بين الثالث عشر والسابع عشر ، لكن هؤلاء اليهود أو المتهودين الخزر الذين يحتلون اليوم فلسطين ويستبيحون الاردن، واجهوهم الى أن تلاقت فيما بعد مصالح الصهيونية مع مصالح حكامهم وقام التحالف بينهم وما زال على المشروع الصهيوني في فلسطين وعلى افتراس حاضر ومستقبل الوطن العربي الذي لا يتم إلا بافتراس الشعب العربي ومقومات نهوضه. ولم يكن ذلك ممكنا إلا بتحطيم الانسان العربي وشخصيته من الداخل وفصله عن ما ضيه وقيمه ومورثه الثقافي وتحطيم صورته ومعتقده ومبادئه وجعله يقبل بالذل والتشرد والضعف،. فما الذي يجري؟
نستقرئ الواقع من استقرار سلوك حكامنا الإجرامي المشبوه في اوطاننا وقضايانا ودولنا وشعوبنا اللاسابقة تاريخية له ولا في قصص الخرافة، وبالتزامن مع عجز شعوبنا في مواجهتهم على هشاشتهم، بل وتولد الشعور لديها بأسطورية وخلود هؤلاء الحكام .
فقارئ التاريخ لن يعثر على حالة سياسية أخلاقية قِيمية شبيهة بحالة حكام العرب المعنيين اليوم من حيث المفهوم والدلالة، ولا أوطى ولا أغرب. فقد يكون هناك داع لحاكم ما أن يكون خائنا لوطنه وشعبه وهذا موجود، ولكن ليس هناك داع أو مبرر أو تفسير ظاهر ولا سابقة لأن يكون هذا الخائن مخلصا في خيانته وعدائه لوطنه ولشعبه وأن يتخذ من الخيانة قضية له كما يفعل الحاكم العربي اليوم. وأن تكون له لقدرة على ممارسة تلك الخيانة على المكشوف أمام شعبه وجيشه وإصراره ونجاحه في ذلك، فما الذي يجري في بلادنا وكيف.
فحالة الحكام العرب لا يمكن أن نفهمها في سياقها المحكي عنه في الشارع والصالونات، أو المعتقد به، بل أعمق وأعقد من ذلك بكثير. وبالتالي هي حالة يجب أن تكون محل دراسة وتحليل واستنباط نستدل منها على الحقيقة التي تسمح للحاكم العربي أن يضطلع بالدور اليهودي الصهيوني ومعتقداته السياسية والدينية في بلادنا “عينك عينك ” بعد أن اضطلع بدور تسليم فلسطين الوطن ومقدسات المسلمين. فالمشكلة هي بقدرتنا على فهم وتعليل سلوكهم وعجزنا كشعوب في مواجهتهم على هشاشتهم . فهناك سيستم متماسك يعمل في بلادنا وحكامنا هم جزء منه لا منا. فما هو هذا السيستم الذي يفسر إيمانهم ورغبتهم وإصرارهم على تحطيم دولنا وشعوبنا ونجاحهم بذلك، كي نركز جهودنا على تفكيكه..
الدول العربية التي أعنيها بأنظمتها ذات الدعارة السياسية كلها معروفة من المحيط غربا الى قلب الجزيرة وحكامها من بني قنيقاع وصولا الى أطرافها على سواحل الخليج حيث مواخير الزيت والنوق والغلمان تداعب نجس أولاد العمومة في ارض الكنانة والحشد والرباط .
السر الأعظم فيها أنها كلها في الواقع أقاليم ما زالت مستعمرة وتمت التغطية على ذلك بعدم التصريح أو الإعتراف رسميا بالحالة الاستعمارية القائمة لهذه الأقاليم لأسباب تتعلق باختلاف مهمات هذا الاستعمار الجديد لبلادنا عن الاستعمار التقليدي. وهي أسباب تطال استعمار الانسان وتفصيله من جديد وإبقائه في حالة غيبوبة . حيث منحت أقاليمنا الاستقلال نظريا وكذبا بالتواطؤ مع مجندين وطنيين من أوصول ليست أصولنا ، ولم تعامَل هذه الأقاليم في الأمم المتحدة كمستعمرات أو أقاليم تحت الوصاية يجري تأهيلها للإستقلال. *
إن شكل وطبيعة العلاقة ما بين حكامنا والمستعمرين هي التي تفسر حالتنا وحالتهم وتفسر إصرارهم ورغبتهم بأداء دورهم وتفسر اطمئنانهم على اوضاعهم حاضرين كانوا أو غائبين . إنها علاقه تبدأ من الألف الى الياء، وهناك سلسلة لعائله من الحكام المحتملين في كل دولة وليس منها من له أجل في الأرشيف إلا الأردن وفلسطين. أما الطبيعة لحكام كل دولة في الارشيف الاستعماري الصهيوني فتبدأ بالرابطة العضوية مع اليهود الصهاينة في الأصول أو النسب من سكان ومواطني تلك الدول أو الأقاليم وتنتهي بعائلات قبليه عنوانها النفعية أولا وأخرا، وليس في قاموس سيكولجيتها معنى للوطن ولا الحدود ولا العقيدة ولا أية مثل قيمية.
هذا النوع من الاستعمار الاحتلالي ما كان له أن يتم لولا يهود أقاليمنا وعرباننا وصهاينتهم. لقد تم منحها القالب القانوني والاعلامي للدول الوطنية المستقلة بكل التغطيات السياسية الواهمة ومنها قبول عضويتها في الأمم المتحدة.، ولم يعط حكامها صفة المندوب السامي الأجنبي بل صفة القائد الوطني الحر، ولم تعط شعوبنا الحقيقة بأنها في دول مستعمرة ، بل مستقلة وأنظمتها حرة وملوكها وأمراؤها ورؤساؤها أولاد أصول. وهذا أبقى على اعتقاد هذه الشعوب بأن ما تعانيه وتعانيه بلادهم من انهيارات وتخلف هو أمر مرتبط بتقصير وبأخطاء غير مقصودة من الحكام والحكومات، وتتركز أنظارها على مساعي الإصلاح الواهم والمطالبة به، وأن تعتقد واهمة بأن لجوء هؤلاء الحكام لأمريكا والدول الاستعمارية هو لمساعدة بلدانهم وليس بمثابة لجوء الموظفين الى مرجعياتهم كما هي الحقيقة. وهذا بحد ذاته غيب الحقيقة عند شعوبنا بأن مشكلتها مرتبطة بحالة استعمارية يعيشونها وأن حكامها هم جزء من المنظومة الاستعمارية المعادية.
فعلى الشعوب العربية أن تعلم أولا بأنها مستعمرة وبأن حاكمها الحقيقي هو التحالف الامبريالي الصهيوني، وبأن حكامهم المحليين هم جزء عضوي من هذا التحالف ومحسوبين على الصهيونية الاسرائيلية أولا، ومؤسساتهم المدنية والعسكرية مفصلة لخدمة المنظومة، وأن دكتاتورية ملوكهم ورؤسائهم وأمرائهم العميلة هي في الواقع دكتاتورية المستعمر وهي ما يجب أن نفككها في بلادنا، ولن تُحل لنا مشكلة بل ستبقى الأمور في تدهور لصالح المشروع الصهيوني والمصالح الامبريالية حتى نتحرر.
الأردن معني بالمشروع الصهيوني في فلسطين وجزءا أصيلا مكملا ومتمما. لا ينجح في أحدهما ما لم ينجح بالأخر. أدى نظامه وبأيد وطنية دوره في احتلال فلسطين بكاملها قطعة وراء أخرى وتهويدها وتشريد شعبها والقضاء على هويته الفلسطينية وحقوقه الوطنية ، ويستعد اليوم لرمي نفسه في بلعوم الصهيونية لابتلاعه، وكل ما يحدث اليوم في الأردن من تفكيك الشعب والدولة سياسيا واقتصاديا واجتماعيا، ومن غزو وتغلغل اسرائيلي صهيوني نحو استعمار واستيطان اراضيه إنما يحدث أمام سمع وبصر النظام وكل أجهزة الدولة التنفيذية.
وسيستمر ذلك ونعيش الحالة الفلسطينية في فلسطين من ألفها الى يائها ونفشل ما لم تخرس كل الأبواق المنتفعة ويعي الشعب على الواقع الاستعماري الصهيوني ويواجهه بمستحقاته التي تتجاوز سلبيات منظرة اعتصامات العشرات من النخب وحراكاتها وتسجيل المواقف كردات فعل بدلا من مهمة استنهاض الشعب لمواجهة الحقيقة. الظرف لا يحتمل أقل من الارتقاء لمستوى حدث يتعرض فيه الأردن للتهويد وفيه الشعب ما زال يعتقد وهما بأنه في دولة وطنية ونظام وطني. وإن كان الوطن يخلو من شعب صاح، فهل هذا الوطن يخلو من الرجال الوطنيين القادرين على مواجهة الملك بدوره وبما يجري، أم انتهى دورهم عند خداع الشعب وتوقيع اتفاقيات التهويد والاذلال وتعبئة الجيوب؟
لماذا تغيب عنا محاكاة المشهد الفلسطيني الوطني في الثلاثينيات والاربعينيات ونحن في أحسن حال منه؟ أم نحن باعة أوطان بالفطرة.
ولكن هل أتفاءل بوديعة كيسنجر الى بيغن “أسلمك أمة تنام ولكن مشكلتها أنها لا تموت، استثمر نومها ما استطعت فإنها إن استيقظت ستعيد بسنوات ما أخذ منها بقرون” .