ثلاثة عشر عاما والبلاد العربية جَهنم دنيا ، وما زالت . وكان العراق هو البداية لمسلسل اسمه “النهاية “، حين احْتُلَ وسُلّمَ للفرس على أن يكون للصهيونية فيه مكان وقاعدة انطلاق . ولا يعنيني توكؤ الفرس على فلسطين حين يكون السلوك على أشلاءِ كل من قال أنا عربي، وعلى ركام ما يطالونه من أقطار العرب ومقدراتها . ولا أتقبل عِداءهم لقادة العرب عندما يكون قائما على الطعن في شرعيتهم لحكم بلاد هم يدَّعون بها جهارا ويتطلعون لحكمها كحُكْمِهم للعراق. ولا اسلامهم عندما يصنعون منه ثقافة وثنية تُكَفر الفكرة والمسجد والرموز ، في حرب لمحو رسالة أعزت العرب وأوصلتهم يوما .
ذبَحَتنا (…) ذَبحتنا الصفوية ذبحتنا العقائدية ، حملوا عبء الصهيونية . ذبحتنا دروشة تتعاظم وتعزل الأمة عن واقعها ، نسخوا الإنسان والوطن والرسالة حين مسخوا الاسلام الى قيام وسجود وتُرّهات . ذبَحَنا طغاة العرب ، وليس فيهم من يعطي شعبه فرصة للنهوض من تحت البسطار، فحُكْمِهم حُكْم العبيد للأحرار . كانت في أعناقهم شعرة من وجل ، سقطت مع سقوط صدام ، والشاعر يقول بلهجته العراقية ” أتارِيها الشوارب هاي لا شَيْ ، قَبُل كلْها متعلقه بشارب صدام ) .
خاطرتي في صدام ، أبقى الله ذكراه ذكرى كرامة للحاكم العربي في زمن هانت واهينت فيه . نحن لا نتحدث عن أخطاء لا رادَّ لها ، فعقل الدكتاتور ومعرفته وحسه ، اختزال لعقول ومعارف وحس الناس حتى لوكان وطنيا ، ولكنَّ هذا ليس بالتحديد ما أفقد صدام الحكمة التي كانت ستؤهله لحسابات تستشرف المستقبل ، بل أن ما أفقده إياها وكان الحاسم في قراراته ، هو ما يتلَبَسُه من فروق فردية لا نجدها في دكتاتور ، وإلا لربما كان بإمكانه أن يصنع فرقا في المأساه ، ويُبقي على الأقران متعلقين بشاربه .
أمهد بسلوك سياسي لصدام عايشتُه ميدانيا ، أذكره لعدم ذكره من قبل وكرابط لما بعده . فمع كل إتلاف للأسلحة المستهدفة ، كانت دبلوماسيته العراقية على صعيد الأمم المتحدة والعالم تُدخِل الشك لدى العدو والصديق بأن العراق ما زال يمتلك الكثير منها ، فبينما كانت الدبلوماسية العراقية تَعتَمِد سياسة إدخال الشك باليقين ، كانت أمريكا وبريطانيا بصدد البحث عن مسوغ قانوني وسياسي لتدمير العراق ، فكانت السياسة العراقية معينا لهما ، ومُرَسِخة للشك بوجود الأسلحة رغم الشواهد العلمية التي تنفي وجودها، حتى لجَأتا لفبركة الأفلام تقنعان بها مجلس الأمن والعالم .
ولا أرى تفسيرا لسلوك صدام هذا إلا اعتقاده بأن الإيهام بامتلاكه لتلك الاسلحة سيردع امريكا عن غزو العراق . والعراق كما نعرف كان في حساباتهم صاحب مشروع يواجه المشروع الصهيوني من خلال السعي لإيجاد توازن استراتيجي . وبتقاطع المصالح على تدمير العراق أصبحنا امام تحالف ثالوث الصهيونية والصفوية والوهابية .
نأتي إلى ما لم يفعله صدام ، وكان ممكنا أن يصنع فعله فرقا دون أن يتعارض مع الطبيعة الدكتاتورية . فلقد كانت لديه خيارات أكثر أمانا لوقف العدوان أو تغيير مساره ، أو لاختراق سياسة التحالف ووحدته، ومن حق قائل أن يقول بأن الذرائع لا تُعجٍز أمريكا، لكني أقول ، إن إحداث مثقال شعرة في المتغيرات قد يُحدث فرقا كبيرا ، فمن منا لا يعرف كيف أن دخول أو ادخال الارهاب لسوريا كان كافيا لقلب الموازين السياسية الدولية إزاء الأزمة وأطرافها ، .
أما عن تلك الخيارات أقول ، كان مُمْكِنا لأي دكتاتور وطني في حالة صدام والعراق يرى حياته في خطر حقيقي ودولته تواجه خطر التدمير على أساس مزيف ، أن يعتمد الشفافية ويتوجه للدول العربية بخطاب أخر ، ويمنحها دورا أساسيا في عملية التحقق ، والصلاحيات الكامله ، ويجعل من العراق قضية ومسئولية عربية . حيث ليس في هذا ما يخالف طبيعة الدكتاتور طالما الأمر يُنقذ بلده وينقذه ، وربما يُنقذ حكمه في النهاية . فما الذي منع صدام من هذا ؟ .
من المرجح أن ما منع صدام يكمن في الفروق الفردية التي يتميز بها عن غيره من الحكام . فكيمياء جسمه وخصائص الرجولة فيه والاعتداد النادر بالنفس والكرامة والعروبية وصورة القائد العربي كلها كانت راسخه فيه وغالبة على الحكمة في قراراته . فكيف وقد كان كافرا بحكامنا وبمسار القضية الفلسطينية ويرى نفسه القدوة ، فكان أن أصبح دكتاتورا على نفسه ، فمات شهيدا ومات العراق . الرحمة على كليهما، فحزام بنطال الدكتاتور ناسفا .
إن الدكتاتورية بنوعيها الوطني وغير الوطني، تصنع دولا فاشلة ونتائجها في المحصلة تدميرية. وحفظ الأوطان لا يكون إلا بدولة الأمة. ولا سبيل امامنا الا الديمقراطية ، إنها مسألة حياة او موت للدول ، وليس الاستجداء طريقها ،