كانت القدس قديما تعج بعشرات الاديان الوثنية وتحتضنها بأتباعها ومعابدها، وكانت رمزا لتعايش تلك الاديان ولا يقترب من المدينة غاز أو فاتح. وحتى اليهود عندما اقاموا مشيختي اسرائيل ويهوذا بقيت القدس مملكة او مشيخه مستقلة تفصل المشيختين اليهوديتين عن بعضهما . الى أن دخلها داود سلما بالاتفاق مع اليبوسيين على خلفية طلبه بناء معبد إلى يهوه إله اليهود أسوة ببقية الآلهات بعد أن كانوا يسكنوه في خيمة متنقلة ( من السيره التوراتيه ). واالهيكل هي كلمة كنعانية تلفظ Hikal وتعني معبد .
أما بعد نزول الديانات السماوية فقد حرص أصحابها على تعميدها بربطها بالقدس . وكان ذلك على خلفية زيارة سيدنا ابراهيم الى ملكي صادق كاهن القدس وطلب البركة منه ( حسب النص التوراتي ) دون تفسير توراتي كيف لابراهيم ان يطلب البركة من كاهن لديانة أخرى أو وثنية . وبقيت المفارقه قائمه حتى جاءت المسيحية وقام رسلها بازالة الغموض حين ذكروا أن ملكي صادق الذي بارك ابراهيم كان هو المسيح . وهو تفسير منح المدينة قدسيتها ومنح المسيحية أولويتها على اليهوديه . فانتبه كهنة اليهود باثر رجعي للتفسير واصبحوا يهتمون بالقدس من باب المنافسه للمسيحية حيث لم يكن للمدينة ذكر في السيرة التوراتية لموسى وابراهيم والاسباط إطلاقا . ثم جاء المسلمون وقدسوا المدينة من واقع النص القرآني .
والمحصله أن المدينة تطورت عبر القرون الى واقع اصبحت معه وكأنها رافضة كمكان جغرافي لاحتضان الأديان السماوية معا , وبدا التعايش الروحي والمادي في كنفها صعبا بين مقدسيها . ثم تحولت الى هدف مادي بغطاء ديني تسبب في صراع سياسي وعقدي ودموي تاريخي ومعاصر بين اتباع تلك الديانات . إنها مفارقة جديرة بالدراسة في اطار فلسفة اصحاب الأديان التي تمس عناصر تتراوح بين المصداقية في الإيمان واحتكار الحقيقة التاريخية والعقدية ، وبين الفكره الاستعمارية والسطو على المدينة . مما يفرض علينا ان نواجه الحقيقة لنستطيع تفعيل العقل والمنطق ووضع الأمور في نصابها الروحي والمدني والتاريخي معا ، للخروج من المعضلة .
عندما نستحضر صراع أصحاب الأديان على المدينة ، نستحضر بأن المطلعين على نصوص كتب الديانات الثلاث يدركون انها تتكلم عن ثلاث آلهات مختلفة في الطبيعة وفي الإسم والمضمون ومخرجاته بصرف النظر عن عبارات المجاملة التي لا وجود لها في النصوص . فهل هذا هو الأمر الذي يجذر الصراع تحت الأرض وينتج فوقها ثمار التطرف والتعصب ؟ . لكن علينا ان نتذكر وجود عشرات الألهات في القدس قديما دون أن يؤثر ذلك على تعايش اصحابها . فهل الديانات غير السماوية ذات العشرات من الآلهات أكثر تسامحا من السماويه ،.أم نحن أمام موضوع أخر ؟
إن العقل البشري لا يمكنه الوصول لحكمة الخالق في كثير من االمعتقدات والأحكام والتعليمات النصية في هذا الدين أو ذاك . ويكتفى أتباعها بالإذعان لها بصرف النظر عن عدم تفهم عدالتها ومنطقيتها , فهي بالنسبة لأتباعها كلام منزل لا يقبل النقاش ولا التشكيك ، والكثير منها لا يتفق مع معتقدات الآخر ولا مع المنطق الذي تستوعبه عقولنا القاصرة عن فهم ما وراء الطبيعة ، ولا عن فهم طبيعة العدالة السماوية المدعى بها من قبل هذا الطرف أو ذاك حين نراها تلحق ظلما غير مبرر بالغير ,.
إن ما يهمنا في هذا السياق هو تمكن الطرف الاسرائيلي من جرنا للتعامل مع مسألة القدس على أسس دينية – عقدية مستنبتا غيبياته وجزئيات تاريخه التوراتي ، وتمكنه من تطوير الصراع لحرب استحواذ وتملك لهذه المدينة على اسس اقصائية يتسيد فيها الادعاء الديني على الإدعاء المدني والتاريخي القائم على مبدأ السيادة . وذلك في تغيب كامل لمبادئ وأسس التسويه التفاوضية التي ينص عليها ميثاق الامم المتحدة . مستغلا في ذلك مظلة الظرف الدولي وميزان القوة الغاشمة غير المقنع. لتصبح القدس بالتالي كالبركان في سكونه ونشاطه اللذين لا ينتهيان .
إن المعنى والنتيجة هي أن لا تسوية ممكنة لمسألة القدس ما لم توضع وتطرح في اطارها الصحيح كنزاع مدني سياسي على خلفية احتلال ارض من قبل احد طرفي النزاع مدعيا بالسيادة عليها على اسس دينية – معتقدية تخصه , وهي الأسس التي لا توصل لنتيجة ولا يعتمدها ميثاق الامم المتحدة في فض النزاعات وتسوية الحقوق لكونها لا تقبل النقاش والتفاوض ولا تفرق بين مستحقات حرية العبادة وبين حق السيادة والمستحقات المدنية المعاصرة والتاريخية على السواء . فالعاطفه الدينيه المتطرفه وحدها القادرة على وقف إعمال العقل وإلغاء مبدأ النقاش والتفاوض .فطبيعة النزاع هي التي تحدد طبيعة التسوية ، وليس هناك من مسوغ قانوني أو تاريخي للإدعاء بالسيادة أو الملكية على اسس معتقدية
فهل يدرك حكام الكيان الاسرائيلي صعوبة استمرار تقبل المجتمع الدولي المتمدن لادعاءات الملكية والسيادة على اسس دينية غيبية ، واستحالة تقبل الطرف الآخر من واقع ايمانه هو الآخر بمعتقده وبحقه التاريخي في القدس كجزء من الوطن ؟ وهل يدركون ان الاعتماد على اختلال ميزان القوة لا يشكل ضمانة للسلام . وهل سيدفع ذلك الإسرائيليون للإنتقال من استراتيجية التملك على الطريقة الإستعمارية المغلفة بغطاء الدين الإقصائي الى عنصر الملكية المادية والتاريخية للمدينة في اطار مقومات مبدأ حق السيادة والأسس المشتركة المتعارف عليها للتسويات السلمية التفاوضية بمعزل عن السيرة التوراتية المتناقضة مع التاريخ المكتشف , وبمعزل أيضا عن استغلال هذه الثقافة من قبل حكامهم الطامحين للوصول , والذين أصبحوا اسرى لمتطلبات أصحاب ثقافة التطرف الديني ؟
إن العرب مطالبون بالاصرار على المرجعية المدنية لتسوية مسألة القدس ، وفي حالة استمرار التعنت الاسرائيلي فالرفض العربي هو البديل عن أي قبول أو مصادقة على أمر واقع تفرضه اسرائيل . وسيكون الأمر بعد الرفض خاضعا إما لنضوج الظرف الذي يهئ لتوازن القوة والمصالح كلحظة تاريخية طبيعية , وإما لتسيد الحكمة في تفعيل مبدأ الأمن الجماعي في سياسة مجلس الأمن . فغياب مبدأ الأمن الجماعي عن سياسة الأمم المتحدة هو السبب وراء فشلها في تسوية العديد من المسائل الدولية المطروحة على جدول أعمالها ومنها القدس . ومن المعروف أن فشل عصبة الأمم في تحقيق هذا المبدأ كان هو السبب في سقوطها ..