لم يستطع نظام عربي واحد من النهوض بدولته وجعلها قادرة على حماية ترابها الوطني عسكريا، ولا تحقيق التحول الديمقراطي فيها، ولا تطوير دولة صناعية أو ذات اقتصاد انتاجي، ولم تستطع هذه الأنظمة تحقيق طموحات شعوبها القومية في مواجهة المشروع الصهيوني واحتلال فلسطين، فانتقل الصراع ليصبح بين هذه الأنظمة وشعوبها على حساب الصراع مع المشروع الصهيوني ومع عوائق النهوض بالدول العربية، واستعانت معظم الأنظمة العربية في هذا الصراع بطريقة أو بأخرى بأمريكا والصهيونية وتحالف بعضها معها .وانتهى الصراع اليوم باذلالها وبتدمير ما انجزته الدول العربية والاستيلاء على قرارها السياسي ومقدراتها وتحطيم جيوشها وتكبيل شعوبها بأولوية إطعام نفسها، وملاحقة رموز المعارضة والرفض والتوعية فيها.
وباتت المراهنة في الصراع اليوم بين تحالف لأنظمة العربية والصهيونية من جهة وبين رموز الرفض العربي المشتت من جهة أخرى . ومحل هذه المراهنة هي الشعوب العربية بين هدف التحالف في اخضاعها وهدف النخب المعارضة في إيقاظها . واتخذ الصراع شكلا مفتوحا (بالأفعال ) بالنسبة للأنظمة ومقيد (بالكلمة ) بالنسبة لرموز المعارضة . فميزان التكافؤ مخسوف بكفة واحدة لولا مساندة أحرار العالم لأصحاب الرأي الأخر من المعارضين العرب، لا سيما في الغرب كمركز ثقل وتأثير، بل كان بالإمكان لولا خيانة الأنظمة أن نكسب دولا اوروبية لجانبنا لأن المشروع الصهيوني هو مشروع الصهيونية المتهودة وحدها ولا أعتقد أن الغرب والشرق جزء منه، بل جزء من اقامة وطن لمتهودي الخزر في فلسطين تخلصا منهم، حتى لوكان لبعض الغرب مآرب أخرى.
لكن علينا أن نتذكر بأن الشعوب تُقمع وتُغفو وتنام، ولكنها لا تخضع، والشعب العربي ليس طارئا على التاريخ فلا هو خلطة متواضعة الحجم من القبائل والأجناس تاهت في الصحاري واعتاشت على قطع الطريق وبيع نفسها عبيدا والتجنيد في خدمة الأقوام وأقامت مشيخة في فلسطين في ظل حكم وسيادة الامبراطوريات ثم انقرضت، ولا هي مجموعات متواضعة من الهنود الحمر في أمريكا يتم غزوها وابادتها.
فالشعب العربي ما غاب عن التاريخ البشري الحضاري والسياسي والعقدي يوما، ولم يختلف اثنان من مؤرخي وأثاريي وباحثي وعلماء الأوروبيين والغرب عامة على أن الأمبراطوريات التي أقامت الحضارات في بلاد ما بين النهرين وفلسطين وسوريا بأسمائها القديمة المعروفة هي من الشعوب العربية التي خرجت من الجزيرة (باستثناء السومريين)، وأن مصطلح السامية لا يعني في واقعه سوى الشعوب العربية كقومية قوامها وحدة المكان والنشأة والثقافة بمكوناتها وجذور اللغة وطريقة التفكير والنظرة العقدية وليس وحدة الجنس أو العنصر بالضرورة، والحاكم الذي لا يقرأ التاريخ من أساسه ويبحث به هو حاكم فاشل في أحكامه على الشعوب ومصائرها.
نعود الى المعارضين وأصحاب الرأي الأخر في مواجهة الأنظمة العربية كصوت يخاطب الشعوب بحقوقها والتزاماتها وشمعة خافتة تضيء الطريق أمامها. فحيث أن هذه الأنظمة بعضها قد فشل في بناء دولة معاصرة وقادرة على حماية نفسها أو تحقيق طموحات شعوبها وأصبح هاجسها السلطة، والبعض الأخر زاد على هذا الفشل بتحالفه رسميا وعلى المكشوف مع العدو والمشروع الصهيوني، كالنظام السعودي، فإننا كشعب عربي أصبحنا أمام بعضين انتهى صراعهما أو لعبة صراعهما مع اسرائيل ومشروعها في فلسطين والوطن العربي، ومن الطبيعي عندها أن يتحول صراعهما ليصبح مع شعوبهما ممثلة بالمعارضين، وفي حين أن الأنظمة العربية تواجه خطر المعارضة الذي قد يحرك الشعوب ضدها، فإن إسرائيل اسرائيل تواجه خطر المعارضة في تعرية سلوكها واحتلالها وأهدافها الصهيونية لا سيما عندما يكون خطاب المعارضة وازنا وعاقلا ويعتمد الخطاب الذي يفهمه الغرب ويتقبله .
وهنا علينا الانتباه الى أن حدود المعارضين العرب كانت وما زالت تقف عند الالتزام بالكتابة والكلام دون العمل المباشر او الاخلال بأمن الانظمة، بينما كانت حدود الطغاة العرب تقف عند التضييق والعزل والسجون، إلا أن قاعدة الاشتباك هذه لم تعد كافية لبعض الأنظمة العربية التي تحالفت مع اسرائيل على المكشوف كالسعودية، ولا كافية لاسرائيل، فأصبح المعارضون هدفا مشتركا لسياسة تصعيدية تماهت فيها حدود طغاتنا مع حدود اسرائيل في التصفية الجسدية للمعارضين والتعاون المشترك في هذا الارهاب النوعي .
ولا شك أن للجهة التي استهدفت الخاشقجي سببها سواء كانت السعودية وحدها أو بالتعاون مع غيرها، إلا أن هذا السبب ليس هو الأهم لنا في سياق شخصي، ولا طريقة وكيفية الاستهداف محور اهتمامنا، وإنما ما يهمنا نقطتين الأولى، هي سياسة استهداف المعارضين للأنظمة العربية أو اسرائيل بالتصفية الجسدية كتطور ارهابي نوعي له أثره النوعي، والثانية أن تكون اسرائيل ضالعه في هذا الاستهداف بالتنسيق مع السعودية أو أي نظام عربي أخر .حيث أن تكامل الأهداف السياسية والمعلوماتية لبلد المنشأ العربي مع القدرات الاستخبارية والفنية لإسرائيل والصهيونية من شأنه أن يحدث فرقا، ويشكل خطرا كبيرا لا على المعارضين العرب لأنظمتهم فقط بل على كل صوت عربي ضد اسرائيل في دول الغرب خاصة .
وإذا طبقنا النقطتين المشار اليهما على مسألة استهداف الخاشقجي، أقول بأن طبيعة المعارضه التي مارسها مؤخرا ضد سياسة بلده كانت ناعمة جدا ويمكن استيعابها ومعالجتها ولا أعتقد بأنها تستحق لدى النظام السعودي مغامرة التصفية الجسدية بعملية ارهابية كبرى وتداعياتها وخيمة عليها. بل أن ما يستحق الانتباه اليه هو حوارات الخاشقجي العميقة والمعتدلة والأمكنه التي كان يعقد فيها الحوارات وكيف كان يتطرق لاسرائيل وللحقوق الفلسطينية والعربية بخطاب يفهمه ويتقبله الغرب، فمن تابع ذلك يجزم بأنه خطاب مقنع ومؤثر على المطامع الصهيونية وسياساتها في وسط حساس جدا لاسرائيل وهو الوسط الأمريكي والأوروبي، فإسرائيل لا تتحمل سماع صوت عربي في امريكا وأوروبا بحجم يمزج الفكر بالسياسة وبالأكاديمية وقوامه حريات الانسان وحقوقه وحريات الشعوب وحقوقها . ولا النظام السعودي يرضيه ذلك وانعكاساته على النخب العالمية والنخب السعودية وشعب الجزيرة ولا هو قادر على رفض طلب لاسرائيل، ومن الطبيعي أن تلتقي المصلحة الاسرائيلية- السعودية هنا على هذا الجرم المرتكب ضد الخاشقجي، وفي تركيا بالذات.
ومن هنا فإني لا أستبعد بل أرجح ضلوع الموساد في التخطيط والتنفيذ لهذه الجريمة، وبهذا فلعل المتابع لما رشح من معلومات عن اجراءات التحقيق التركية، يتذكر بنفس الوقت والقرينة سيناريو وإخراج عملية الموساد في اغتيال الشهيد المبحوح في دبي، ويجزم بأن بصمة الموساد مطبوعة على طريقة استهداف الخاشقجي في استانبول .ويرجح بأنه حتى لو كان ما زال حيا فقد أصبح من المستبعد إثر تداعيات الاتهام وسعة الإدانة أن لا تقوم الجهة المسئولة بتصفيته.
إن سياسة تصفية المعارضين العرب إذا أصبحت جزءا من تعاون طغاة العرب مع اسرائيل، وسادت في الدول العربية فستكون خطيرة جدا على القضية الفلسطينية وعلى مصالحنا ووجودنا ومشروعنا في التحرر، شعوبنا تنام وتصحى على البحث عن رزق يومها وأمن يومها والعدو الخارجي والداخلي لم يعد يراهن على صحوتها وأصبح يراهن على التخلص من ظاهرة المعارضين التي تقرع أجراس الصحوة في الخارج والداخل.. والمهمة الأساسية لنا هي أن لا تمر هذه العملية الارهابية بامتياز.
كاتب وباحث عربي