عقدة ملكي صادق Melchizedek والهيكل والتابوت تلاحق وتهدم الصلة اليهودية بالقدس كما جاء بالتوراة

القسم الثاني
وصلنا في السيرة التوراتية الى ان داوود تمكن من دخول القدس برضاء اليبوسيين ومشاركتهم في ادارة المدينة بطريقة لا توضحها السيرة. وهنا كان هم داوود هو نقل تابوت العهد Ark of covenant الى القدس. وهذا التابوت كان في حينه في موقع اسمه بعله في منزل شخص في قرية بعاريم. وكانت رغبة داوود بنقله للقدس بقرار شخصي لمصلحته في التقرب من سكان الكيان الشمالي ( اسرائيل ) لا لأهمية في القدس ولا بطلب من الرب. وقد فشل لسببين، الأول، أن نقل تابوت العهد الذي يرمز الى وجود الهتهم يهوه وبداخله لوحا حجر موسى وكلمات الرب يحتاج لطلب أو موافقه من الرب، بمعنى أن القدس لم تكن ضمن اهتمام يهوه. والسبب الثاني أن اليبوسيين (حسب التوراة ) رفضوا ادخال آلهة غير آلهتهم للقدس. ولحرص داوود على عدم اغضاب اليبوسيين فقد نقل التابوت الى جبل صهيون مدينة داوود. والنص بالفقره 12 إصحاح 6 من سفر صموئيل الثاني تنص ” فذهب داوود وأصعد تابوت الله من بيت عويد أدوم الى مدينة داوود بفرح.
لكن داوود (جريا على العادات الكنعانية وأساطيرها ) استمر بالتفكير في بناء بيت ليهوة الرب في القدس أو هيكل Hekal ككلمه كنعانية تطلق على المعبد، ونقل التابوت اليه. وتتحدث التوراة هنا بأن الرب وافق فيما بعد على فكرة بناء الهيكل كبقية الآلهات ولكنه لم يحدد القدس او يختارها.والنص بالفقرات من 4- 6 في الاصحاح 7 من سفر صموئيل الثاني. إلا أن داوود مات دون أن يتمكن من بناء الهيكل ونقل التابوت لانشغاله بالحروب.
جاء سليمان وبنى الهيكل بناء على وصية والده ونقل التابوت اليه وأصبحت القدس مقرا للكيان دون أن توضح النصوص التوراتية كيف تم ذلك فجأة ودون سياق، بل بدأت النصوص تسرد أن سليمان بعد البناء تخلى عن دينه وهيكله واستئنافه لعبادة آلهات الكنعانيين بتفاصيل ليس من المستحسن ذكرها بدءا بالفقرة 4 من الاصحاح 11 من سفر الملوك. ثم استرسلت السيرة في اسفار متأخرة بالحديث عن مملكة سليمان وعظمته بالمنطقة دون توثيق في نفس النصوص. وبما يتعارض مع رأي التاريخ الحقيقي المكتشف والذي ينظر اليها ككيان اجتماعي محلي خاضع لسيادة الدول المركزية في المنطقة. وتوفي سليمان بعد اربعين عاما من حكمه وانقسم الكيانان ودامت الصراعات والحروب بينهما مايتي عام وكان خلالها الهيكل عرضة للتدمير ونهب التابوت والمحتويات. وجاء ملوك لم يكن لهم تعلقا لا بالقدس ولا بالهيكل، ووصل الأمر مع يهواش ملك يهوذا الى استرضاء حزائيل ملك ارام بمنحه خزائن الرب واقداس الملوك حسب الفقرة 18 من الاصحاح 12 من سفر الملوك. وبالمحصلة زال الكيان الشمالي على يد الاشوريين وتم سبيهم الى مناطق مختلفة في شمال العراق بينما زال كيان يهوذا بالجنوب على يد الكلدانيين بحملتين ( الدولة البابلية الأخير) واحرقوا الهيكل واخرجوا اليهود من القدس سبيا لبابل.
ما يجب استحضاره هنا أن الهيكل اليهودي المزعوم لا يشكل أساسا لخصوصية القدس عند اليهود كما نسمع منهم اليوم. فهذا الهيكل أو المعبد بحد ذاته لم يكن يشكل محلا عقديا لليهود كغيرهم من القبائل فهو علاوة على أنه كان معبدا من بين عشرات المعابد للمعتقدات الأخرى في القدس، فإن قدسيته لا تنبع منه ولا من مدينة القدس بل من تابوت الرب الذي احتضنته خيمة الإجتماع في مواقع ومدن أخرى في سيناء وفلسطين لمئات السنين ولم تكن تلك المواقع مقدسة عندهم، وهذا ما يفقد الهيكل معناه الحقيقي كمعبد، فهيكلهم ليس بمثابة كنيسة او مسجد مقدس لذاته بل لمحتواه ( تابوت الرب ) فهو ليس أكثر من بديل عن خيمة الإجتماع تلك. كما لم يقم هذا الهيكل على أسس مرتبطة بتقديس المدينة نفسها من خلال نصوص عقديه كالتي جاءت في الاسلام مثلا حين ذكر ” سبحان الذي أسرى بعبده ليلا ِمن المسجد الحرام الى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله ُ” فالتقديس هنا واضح للقدس التي هي حول الأقصى بل لفلسطين كلها وجعل القبلة في الصلاة نحو القدس. وبالنسبة للمسيحية واضحة ايضا ففلسطين وبيت لحم عتبة القدس مهد المسيح والميسيحية وتحتضن الكنائس التي قامت بحد ذاتها من أجل العبادة، ناهيك عن ربط تقديسها بملكي صادق كما سيلي.
المهم أن هذا التابوت الذي هو حسب السيرة صندوق خشبي طوله ذراعان ونصف، وعرضه ذراعان ومجنحا ليرمز ليهوه، وبداخله لوحان من الحجر مكتوبا عليهما الشريعة التى أنزلت على موسى، أقول أن هذا التابوت لا يُعرف مصيره لليوم وهو ما يفترض باليهود والصهاينة البحث عنه خارج فلسطين استنادا لسيرته التوراتية المرتبطة بالهيكل الذي كان عرضة للنهب أو الحرق أو التدمير عدة مرات من قبل الدول التي تناوبت على حكم فلسطين لو صدقت النوايا..
أما الإهتمام المتأخر لليهود في القدس من خلال السيرة التوراتية التي امتدت كتابة أسفارها لقرون فقد قام على أساس مختلف تماما عن الأساس الذي قام عليه المتهودون الجدد وحركتهم الصهيونية. فاليهود القدامى جاء اهمامهم المتأخر بالقدس في سياق استدراكي لربط القدس بالعقيدة التوراتية في اطار المقارعة العقدية مع المسيحية على خلفية تشخيص المسيحية لطبيعة ملكي صادق ملك القدس وكاهنها حين بارك ابراهيم في سياق الاصحاح 16 من سفر التكوين مستخدما الخبز والخمر بدل من ذبح الحيوانات، وجاعلا من ملكي صادق بمنزلة عقدية تعلو على عقيدة ابراهيم حيث بدلا من توضيح هذه السقطة التوراتية كرر كتبة التوراة ذكر ملكي صادق ثانية ومجدته كقدوة عقدية تنتقص من العقيدة التوراتية وفلسفة وجودها من خلال المزمور 110 من سفر المزامير ونصه ” اقسم الرب ولن يندم انت كاهن الى الأبد على رتبة ملكي صادق ” ولا نعلم من المقصود هل هو داود أم غيره.
أما تفسير المسيحية لطبيعة ملكي صادق فقد جاءت طامة على اليهود عندما وضحت هوية الملك بصورة تربطه بصلب العقيدة المسيحية باعلى درجات التقديس بل جعلت منه محل تجسيد للمسيح نفسه على أرض القدس، وجاعلة من القدس مركزا عقديا للمسيحية. وكان هذا جليا في رسائل الرسل التي منحت ملكي صادق منزلة تحير القارئ من حيث دمجها بالمسيح وأكتفي بمثالين من بين العشرات. الأول، ورد في رسالة بولس الى العبرانيين في الفقرات من 5 – 7 الاصحاح 5 ونصها ” كذلك المسيح أيضا لم يجد نفسه ليصير رئيس كهنة الى الأبد بل الذي قال له انت ابني انا اليوم ولدتك…انت كاهن الى الأبد على رتبة ملكي صادق الذي في أيام جسده..” والثاني في الفقرات من 1 – 3 من الاصحاح 7 ونصها “…..لان ملكي صادق…..ملك ساليم….بلا أب بلا أم بلا نسب لا بداءة أيام له ولا نهاية حياة بل هو مشبه بابن الله يبقى كاهنا الى الأبد… ثم انظروا ما اعظم هذا الذي اعطاه ابراهيم عشرا من الغنائم.” ولست هنا مناقشا للنصوص.
إن المسيحية حين فعلت ذلك إنما رفعت شأن عقيدتها على اليهودية ومركزت القدس في عقيدتها وهددت مكانة اليهود في المدينة كعاصمة مزعومة لليهودية. وهذا حفز اليهود على التركيز على أهمية القدس وربط عقيدتهم بها من جديد في محاولة للرد على الانتصار المسيحي العقدي ومحاولة الانقلاب عليه.. ولم يكن ربط كتبة التوراة المتأخر لعقيدتهم بالقدس موفقا بل مشوها بفقرات مجنونه ومتناقضة ولا تدل على علاقة فيها مصداقية. وأورد على ذلك مثالين اثنين مقابل اثنين من عشرات الأمثله النصية.
فاالفقره 28 اصحاح 16 سفر حزقيال نصها هو ” وزنيت مع بني أشور وإذ لم تشبعي فزنيت بهم ولم تشبعي ايضا وكثر زناك في ارض كنعان الى ارض الكلدانيين ولم تشبعي أيضا ما أمرض قلبك يقول السيد الرب إذ فعلت كل هذا فعل امرأة زانية سليطة ولم تكوني زانية بل محتقرة الأجرى.” والفقرة 1 اصحاح 16 مقززه جدا بالفاظها اكتفي بأول جمله نصها ” يابن ادم عرِّف اورشليم بنجاستها وقل هكذا قال السيد الرب….” أما المثالين المقابلين. فجاء في سفر أشعيا الفقرة 1 اصحاح 52 ” إلبسي ثياب جمالك يا اورشليم المدينة المقدسه لن يعود يدخلك فيما بعد اغلف ولا نجس ” والفقره 9 “أشيدي ترنمي معا يا خِرب اورشليم لأن الرب عزى شعبه فدى اورشليم “.
إلا أن ذلك كله ذهب هباء بخروج اليهود نهائيا من فلسطين على ىد الامبراطورية الرومانية المسيحية وحظر ديانتههم وتتشتتهم بالعالم الى أقليات متلاشيه الى أن ظهر متهودو مملكة الخزر التي تلاشت عن الخارطة في القرن 13 م وظهرت الصهيونية.
فجاءت الصهيونية على خلفية استعمارية وادعت بفلسطين مستخدمة التاريخ التوراتي من بعده الديني الساقط والدعم الغربي بخلفيته الثقافية وأطماعه الامبريالية. وبالطبع فإن الادعاء الديني لا يقيم سندا للسيادة على الأرض وإنما يقيمها أصحاب الأرض الأصليين، وقد عجز التاريخ الموثق بعلمائه الغربيين أن يعرف أصحابا أو سكانا أو بناة لفلسطين والقدس سبقوا الكنعانيين العرب، فالسيادة على المدينة محسومة ولكنا نخاطب اليهود والصهاينة من واقع منطقهم الديني بدعواهم حصرا، لأنها ساقطه. وما استخدام التاريخ التوراتي الا للتغول على الحق السيادي العربي. ولوكان العرب أقوياء لما جرى ذلك.
كاتب وباحث عربي

Leave a Reply