هناك واقع سياسي عالمي تبلور في القرن العشرين وفرض نفسه على صعيد تشكيل طبيعة دول العصر القابله للحياة والقادرة على حماية نفسها ومصالحها وتحقيق ذاتها من خلال ما سمي National State.. وهذا المصطلح لا يعني الدولة الوطنية كما نفهمها بل يعني الدولة القومية بلغتنا.. ولكنها تستوعب بقوميتها أعراقا أخرى وتحتضن بداخلها الدولة الوطنية المدنية، لقد كان قيام مثل الدولة القومية national state مرعبا للأوروبيين فيما لو تحقق للعرب، وشكل هاجسا ومحل تحد لسياسيهم، وكانه Creature Nightmare يجب وأده قبل أن ينهض.
وهذا التفكير عند الأوروبيين كان بمعزل عن المشروع الصهيوني. وعقدت لأجله المؤتمرات الأوروبية لبحثه وكيفية منع قيام الدولة القومية للعرب، ولم يكن هذا على خلفية المبدأ الاستعماري والأطماع، بل على خلفية الخوف على مصالحهم ومستقبلهم من العرب فيما لو تحققت لهم الدولة القومية الواحده على جغرافيتهم الحساسة بمواقعها وثرواتها الحيوية وسكانها، واضعين في حساباتهم الماضي العربي كما يقرأونه، والحاضر العربي الضعيف جدا آنذاك.
ومن هنا كانت خطة الغرب أن لا يتمتع العرب بالاستقلال وبالدولة القومية- الوطنية الواحده، ولا أيضا كفرادى، وجاءت فكرة استعمار الدول العربية بالوكاله لتحطيمها وتحطيم شعوبها وثقافتهم وتجيير حطامها وسكانها لخدمتهم، ومن هنا أيضا جاء الدعم الغربي قويا لاحتلال الصهيونية لفلسطين وقيام اسرائيل وحمايتها والذي كان قديما على خلفية التخلص من يهود الخزر في اوروبا . وقد كان للصهيونية دور أساسي في بث فكرة تخويف الأوروبيين المنتصرين والمتحالفين آنذاك من الدولة العربية القومية، ووراء كل مؤتمرات التآمر على العرب في وقت كانوا فيه بلا وزن ولا قيادة ولا دول مستقلة، وكانت باقي دول العالم مشغولة بنفسها، بعضها لا يعنيها ألأمر وبعضها وجد في استباحتنا وقيام الدولة الصهيونية مصلحة له.
إذاً، العالم الحديث بنى دوله على أساس قومي وكانت ترجمتنا العربية لنص وعد بلفور صحيحة عندما ترجمنا عبارةthe establishment in Palestine of a national home for the Jewish people الي (اقامة وطن قومي لليهود في فلسطين)، وإن الصراع والتنافس في العالم هو صراع وتنافس قومي عنوانه تحقيق القوميات لذاتها في كل الدول وفي كل قرار أو فعل لها وعلى أي صعيد . وإنه على مذبح تحقيق المصالح القومية تختفي كل المثل والقيم التي تنتقص من العنوان . وما سعي الدول لمصالحها الإقتصادية الا لتعزيز الدولة القومية .
وأضرب أمثله حيه يعيشها القارئ، على أولوية الهدف والهاجس القومي في دول العالم وشعوبها ليعلم كيف يحرم الأوروبيون علينا دولنا ومشاعرنا القومية ويحللونها لأنفسهم وللعالم على الخلفية الزائفة المار ذكرها.
— المونديال الرياضي هو مونديال للصراع والتنافس القومي والروح به قومية لا رياضية، إنه حدثٌ يخترق اجتماع الحلف الأطلسي كما شاهدنا، ويلغي بروتوكولات قادة الدول ويستنفر شوارعها ويوحدها . ويخلق مع خروج كل فريق اصطفافا تشجيعيا قوميا مبنيا على مواقف الدول السياسية.
— المانيا مزقتها الحرب العالمية وخلقت فيها أيدولوجيتين متناقضتين، لكن المشاعر القومية اسقطت الأيدولوجيات ووحدت المانيا ثانية، وجوازات سفر الدول الأوروبية معنونة بتحريك الأساطيل والقتال حتى أخر جندي لمن يعتدي على مواطنها اعتزازا وتأكيدا على الروح القومية.
— وأمريكا التي قامت على انقاض شعب وصنعت شعبا أخر من الشتات كبلد للفرص الهاربه نحوها قد اضطرت لصنع قومية لها لتبقى وبنت من نخب الشتات وغنى القارة القوة الأولى في العالم، لكنها مهددة بمشكلة ضعف انتماء مواطنيها لارتباط مشاعرهم القومية بدولهم الأصلية، وإذا لم يحلها مرور الزمن وتعاقب الأجيال فستنهار.
— وتركيا الاسلامية تاريخيا وحاضرا تسحق كغيرها من الدول الاسلامية شعبا مسلما وتمنعه عن لغته وثقافته وقوميته التي خلقه الله عليها، لانتقاص ذلك من قومية تركيا أولا، وتعيد تحالفاتها التاريخية على هذا الأساس و تصنع معارضة سورية هدامة وزائفه وتستغلها ثم تبيعها لهدف قومي وبالمقابل فإن الأكراد نفسهم تخلوا عن كوتتهم الدينية وتمسكوا بكوتتهم القومية، ولكني لا أملك إلا وأن أحيي شخص أردوغان الذي استطاع تخليص تركيا من حكم عسكر الدونمه اليهود وصنع دولة المواطنة الاسلامية الديمقراطية وترك للانسان حريته على أي دين كان وأية مفاهيم خاصة كانت، وسبق في هذا أوروبا، بعكس أحزاب الاخوان في الدول العربية التي تريد فرض مفهومها للدين وإقحامه في السياسة وتقيد حريات الناس ونبذ القومية.
ايران الاسلامية يستفزها في المحافل الدولية النطق بعبارة (الخليج االعربي) ويأخذ مندوبوها نقطة نظام يؤكدون فيها عبارة (الخليج الفارسي)، وترفض مقترحا لتسميته بالخليج الإسلامي، وتقمع الإثنيات والطوائف الوطنية لصالح القومية الفارسية، وأحيي هنا هذه الدولة على موقفها الرافض رقم واحد في العالم من الكيان الصهيوني مهما اختلفت الأراء بأسباب موقفها وبحدوده، ولم نلمس دولة في العالم ماضيا وحاضرا تدعم حركة التحرر الفلسطيني بهذا الزخم والاصرار .
إن استخدام الدين، والصراع بالعنوان الديني داخل اوروبا والعالم انتهى مع تقدم وعي الشعوب والديمقراطية وظهور الدولة القومية المدنية، وما الصراع بين الايرلنديين والانجليز وسفك الدم في واقعه الا على خلفية قومية، وكذا كان الصراع الدموي في يوغسلافيا حين تفكيكها قوميا، لكن أعداءنا استخدموا الدين كأحد أهم الوسائل الاستراتيجية في الحرب على العرب وتحطيم دولهم وإنسانها، فالباحثون الدوليون يسجلون أن العرب أكثر شعوب العالم تدينا، ويسجل أخرون بنفس الوقت العرب هم الأقل من بين دول العالم غير المسلمه تمسكا بواقع الدين الاسلامي وتعاليمه، وهذا صحيح، ولكنهم لا يسجلون بأن ذلك في الحالتين منتوجا هادفا لمخطط استعماري متخصص ما زال يفتك فينا.
لقد ابتدأوا يدعمون الأحزاب الاسلامية دون التدخل بمعتقدها لأنها لا تحمل مشروعا قوميا، ولكنها تحمل مشروعا اسلاميا لا يقبل الهيمنة الأجنبية، ولذلك كانت تلك الأحزاب لهم مجرد مرحلة قبل أن يشيطنوها، حيث لدى اتمامهم مخطط تجنيدهم أو إخضاعهم الحكام العرب وتوجيه سياساتهم وفرض القطرنة الهدامة لعرى القومية، ابتدأت هجمتهم على الشعب العربي عقيدة وثقافة وانتماء وذاكرة تاريخية، ليصنعوا من إنسانه إنسانا جديدا مبرمجا بمفاهيم جديدة، فقاموا بصنع أزهر أخر وقم أخرى وجعلوا أرض الكعبة محجا للكفر ووكرا للردة، وجيشوا أتباعهم للارهاب وخدمة الصهيونية واستخدموا الاسلام لضرب القوميه العربيه التي حملت رسالة الاسلام للعالم، واصبح العربي المسلم يقاتل في افغانستان بينما فلسطين على مرمى حجر منه والآلة الصهيونية تستفرد بمقاومتها.
المطلوب من الشعوب العربية أن تَصدق القول بالفعل وتنهض، فليس حكامها هم المستهدفون بل هي واوطانها حاضرا وماضيا، وما لم يقفوا وقفة الشعب الواحد والوطن الواحد والهوية الواحدة فلن يكون لأحدهم دولة ولا شعب ولا وطن ولا هويه، ولن يكون لأبنائهم وأحفادهم الا حياة الذل والعبودية أينما اتجهوا وتوجهوا، مفهوم الخيانة عند حكامنا أصبح اليوم خيانة للصهيونية وتحاسبهم عليها، وخيانة المواطن العربي هي اليوم خيانة للشعب والوطن العربي ولعهد الله، لنترك كل هوية فرعية لحساب هويتنا العربية، ونسقط من ثقافتنا ونفوسنا وخطابنا كل ما فُرض علينا من حدود وسياسات وحكام، ونُغني نشيدا قوميا واحدا رسالة رفض وتحد واصرار على البقاء.
لا ترتبطوا بحكامكم من نخاسة الصهيونية وعبيد السلطة وتمسكوا بعروبتكم، فلا أذار سوريا ولا تموز العراق يدرج في مرابعها، ووهران ما عادت تعرف حلبا، والشهب صهيونية فوق غزة والنقب، والشريعة تتهود في شرقها وغربها، والقدس نبكيها شعرا ونتجه بسيوفنا لافغانستنان والكعبة يحتلها يهود خيبر، ونحج اليهم، ونخب الجزيرة أحفاد حملة الرسالة نيام بلا عاديات، وقيام في الحجرات والصالات.
ليس من الواقع وخصائص المرحلة أن تكون الوحدة مطلبا لشعوبنا، بل أن تجهد في دولها لفرض نفسها وصولا للتغيير الذي يصنع دولا وطنية ديمقراطية قوامها الأساسي هو الرابط القومي، وبهذا فإن المطالبة بالإصلاح في دول دكتاتورية دعاره سياسية، فأدنى إصلاح هو على حساب سلطة الحاكم ونهجه، والأحزاب في غير الأنظمة الديمقراطية أو المتوجهة للديمقراطية فضيحه سياسية، وليس أمام شعوبنا في كل دولة عربية إلا مؤتمر وطني شعبي واحد مؤطر للتعبئة الوطنية والقومية، وأن تعتبر فلسطين قضيتها وتقدس مقاومتها، فوالله إن رضخت شعوبنا للمشروع الصهيوني في تصفية القضية الفلسطينية ليعيش العرب سابقة تاريخية قد لا تخرجهم منها قرون الزمن.
كاتب وباحث عربي