غياب مفهوم التمثيل الخارجي

يقوم العمل السياسي والدبلوماسي للدول على ركيزتي التمثيل الثنائي والمتعدد الأطراف ، وتضطلع االسفارات بالأولى ، في حين تضطلع بالثانية المندوبيات الدائمة في نيويورك وجينيف في اطار الأمم المتحدة . وتبقى بقية المنظمات الحكومية الدولية والتجمعات الجغرافية مجالا للتنسيق والحشد السياسي . وفي سياق العنوان لهذا المقال أسلط بعض الضوء على بعض الملاحظات لا بهدف الانتقاد بل للتذكير بأن مصالح ومزايا نخسرها وحقوقا وقضايا نضيعها في عدم التعامل الجاد هيكلا ومضمونا مع أدوات العمل السياسي الدولي بشقيه الثنائي والمتعدد الأطراف.

وابتداء فإن غياب عامل مفهوم الدولة الحديثة في دولتنا ، الذي يفترض غياب الديمقراطية والمؤسسية وشيوع الارتجالية والنفعية ، إضافة إلى كون سياستها الخارجية ليست شأنا عاما يخص الشعوب ولا يخص الحكومات أيضا ، ولا هي بسياسة راسخة واضحة المعالم تقوم على تحقيق الأهداف والحاجات الوطنية ، فإن هذا الغياب لمفهوم الدولة الحديثة وإن كان سببا في قصور التمثيل ، لكنه لا يعني بالضرورة غياب مفهوم السفارة والمندوبية وعزل الدولة عن سياسات محيطها العالمي . فليس هناك ما يمنع من استخدام الأدوات السياسية التي نمتلكها استخداما صحيحا وغير صحيح في أن واحد على قاعدة أن لا يموت الذئب ولا تفنى الغنم . بل هناك ما يمنع من إحلال دولة طبقة متراجعة عن نقطة دكتاتوريات العصور الوسطى الى نقطة لا يجد الباحث لها وجودا في ألاف من السنين خلت. وغني عن القول أنه نهج كتب على مختلف الدول العربية ، وحول المصالح والأوطان الى جزئيات في سلات المقايضة ، وحولت الشعوب العربية الى لاجئين في أوطانهم والشتات . لكنا في الاردن أصحاب قضية ، وبلد مستهدف بالسر والعلن.

فعلى الصعيد الثنائي ، لدينا وزارة خارجية تعمل بمعزل عن مفهوم التمثيل الخارجي وغاياته في الساحة الدولية الحاضرة ، وسفارات مسخ صممت وأجبرت على أن تعمل وفقا لمفهوم منشئيها وبمعزل عن مفهوم عمل السفارة المفترض . واستحالت هذه السفارات الى ديكورات دولية وجزء من سياسة الاقطاع الوظيفي ومستحقاته . وأختصر الكلام بجملة هي ، أن من ينظر من نوابنا الى موازنات وزارة الخارجية عبر السنين فلن يجد فيها بندا واحدا تحت عنوان سياسي أو اقتصادي أو اعلامي أو سياحي . وتحولت هذه السفارات في غالب الأحيان الى محطة باصات يكون فيها السفراء مأموري حركه ، ودبلوماسيين اثنين أو ثلاة أوخمسة يقومون بإعمال ادارية لا تختلف عن أعمال أية مؤسسة خدمية او تجارية بسيطة باستثناء مهمة الترويج ، أما العمل السياسي الحر من قبلهم فهو محذور ومطب وظيفي وأمني . والسفراء هؤلاء يتم تجاوزهم فيما يفترض بأنه من عملهم الموضوعي والأساسي ، حتى لو كان ذلك بنقل رسالة سياسية ، فهذه المهمة لو تخلى عنها الوزير أو من في مرتبته أو مسئول في مؤسسة أعلى فلن يبقى لهم من عملهم الموضوعي المفترض شيئا ، والملك يمنح السفراء لدى تعيينهم وسام الاستقلال وهو لا يعرفهم . والاتصالات الرسمية غالبا ما تجري بين المسئولين الاردنيين والحكومات المعتمدين لديها السفراء عبر الهواتف والرسائل مباشرة في أمور ثنائية التعاون دون علمهم المباشر . أما عملهم الإجرائي فيتم في كثير من الأحيان تجاوزهم فيه من قبل “من بيدهم لهم ” كمراكز قوة مهما صغرت وظيفتهم عن وظيفة السفير في كثير من الامور، فيتم تغييبهم عن هذه المسائل الاجرائية التي تمسهم، شكلا وموضوعا في البلدان التي يعملون بها ، وعلى سبيل المثال حين يعلم بعض السفراء عن زيارة ملك أو رئيس بلدهم من دائرت مراسم البلد المضيف قبل دائرة مراسم بلده . أما الاحراجات الي يتعرضون لها نتيجة سلوك بعض وزراء الخارجية ولا أقصد الحالي الذي لم أعايشه ، فذكر الأمثلة عليها في مقال هنا أكثر احراجا . فبعضها لا يصدقه عقل لكني ذكرتها في كتابي المشهد الأردني – من ارث الثقافة الى مفهوم الدوله .

أما ركيزة العمل السياسي على الصعيد المتعدد الأطراف في الأمم المتحدة وهي الركيزة الأهم ، فالمصيبة أن هناك اصرار على استمرار غياب ثقافة الأمم المتحدة عن مسئولينا ، فغاب عنهم معه مفهومها ومفهوم عمل المندوبيات أيضا وبالتالي غابت فلسفة وجودنا في المنظمه . ومسخت المشاركه وهدفها، واقتصرت على الشكلية والمنظره . فهذه المنظمة تتعامل مع جدول اعمال المجتمع الدولي من خلال المختصين في الدول على كل الصعد من سياسية واقتصادية وقانونية وعلمية واجتماعية وثقافية وانسانية ، وتمثل محفلا تطرح فيها الدول مشاكلها المزمنة واحتياجاتها الطارئه في كل مجالات الحياة ومستجداتها من خلال لجانها المختصة وبرامجها وصناديقها ووكالاتها ومؤتمراتها ، إلا أن مندوبياتنا ليست مصممة على اساس فهم طبيعة عمل الامم المتحدة ، ولا لما يؤهلها للمشاركات المنتجه او الاستفادة من الامكانيات المتاحة للدول .

إن للعمل في الأمم المتحدة طبيعة فنية احترافية تحتاج لبعثات عليها رئيس محترف في العمل الدولي والسياسة والاداره ، وأعضاء مختصين في حقول عمل المنظمة المختلفة .لكن مندوبياتنا تخلو من العناصر القادرة على المشاركة والانتاج من اصحاب الاختصاص و الخبرات والكفاءات . وتصر الوزارة على استبدالهم بموظفين دبلوماسيين من الوزارة يقضون سنواتهم الاربع يتلمسون طريقهم ولا يستطيعون القيام بدور أكثر من التغطية الجسدية لبعض المقاعد في اللجان وتغطية ما يتيسر لهم من الأخبار عما يفعله الأخرون فيها ، مع أن الشرائح المطلوبة متوفرة في بلدنا في القطاعين العام والخاص ولا يتم انتدابهم او الحاقهم في بعثاتنا في مجال اختصاصاتهم كما تفعل بقية دول العالم التي تريد ان تستفيد من الامم المتحدة ومفهومها.

رؤساء البعثات أو المندوبيات لدينا يعينون على نفس أسس تعيين السفراء ونفس المؤهلات دون التفريق بين طبيعة العمل والهدف بين السفارة والمندوبيه . ولا تتجاوز مهماتهم وسلوكهم مهمات وسلوك السفراء ، هم بثقافة الموظفين ، يسألون الوزارة ماذا يفعلون وما المطلوب . في حين ان الفكرة من وجودهم في الامم المتحدة هي ان يكونوا هم أصحاب الرأي والفعل والتنسيب من واقع طبيعة عملهم في الميدان وتحقيقا لمفهوم الامم المتحدة . فالأصل في عمل المندوبية هو التعاطي مع كل دول العالم ومع كل فروع الأمم المتحدة ولجانها ومؤسساتها من خلال آلياتها بهاجس المصلحة الوطنية على مختلف الصعد الحياتية . فليست الأمم المتحدة مجرد نظام سياسي يحتكره الكبار ، وليس مجلس الأمن ولا السياسة الدولية الا جزءا من لعبة الكبار، إن لم نحسن التأثير بها عمليا بغية الدفاع عن قضايانا السياسية ، فلذلك أسباب ليس الاستخدام الأمثل للإنسان إلا واحدا منها . وعلينا أن ننظر للجانب الخدمي للأمم المتحدة كمنظمة عالمية ونجيد استغلالها والاستفادة منها مالا واقتصادا وتنمية وخبرات ،ومعينا في حل مشاكلنا ، وهنا يكون الاستخدام الأمثل للإنسان هو العامل الحاسم .

ومع حترامي الى دول بوركينا فاصوا وبنغلادش وجزر القمر ، فإن الدور يأتيها حكما لتصبح أعضاء غير دائمين في مجلس الأمن ، ويأتيها الدور حكما لتترأس جلسات المجلس مرة أو مرتين حسب الترتيب بحكم نظام المجلس . ولدى مسئوليها المقدره على الهرولة لنيويورك للمنظره . ولكن هذا فقط ما تكسبه ، ولا نريده لنا ، فشعبنا لا يستحق الاستغفال.