لم يمر الأردن منذ تأسيسه عام 1921 بحالة أسوأ وأخطر مما يمر فيها اليوم، تواجهه فيها تحديات استراتيجية خارجية وداخلية شديدة التعقيد في آن واحد، بحجم الاستهداف. والأسوأ أن هذه التحديات التي تحشر الملك في زاوية، تغذي وتعزز بعضها. وهي نتيجة تراكمات لم يَحسب حسابها ولم يتوقعها. ما نشهده، أن الملك يتعامل معها كلها بطريقة نمطية تقليدية عبثية، فات زمانها ومكانها وجدواها. بمعنى أنه غبر قادر على اتخاذ موقف استراتيجي من أي منها. ليس لعدم وضوح الصورة أمامه بل لخطورة اتخاذ مثل هذا الموقف في غياب أسسه. فما يحمله من ارث وما يعلمه من أشكال الضغوطات والتهديدات قد لا يعلمه غيره. ولا هو بالموقع الذي وصل اليه الملك حسين رحمه الله. إنه بلا مظلة، يسير في جو عاصف ماطر محاولا أن يمر بين حبة المطر والأخرى بلا هدى.
الأردن قصة استهداف لها نهاية. نشأت مع انشائه كدولة دور سياسي أمني مارسته القيادة التاريخية على خلفية وأمل الانقلاب عليه من خلال تثبيت وتعزيز حضور الاردن دوليا كدولة شريكة وحليفة للغرب. الا أن ما تعزز هو القيادة عندما جُعل حجمها أكبر من حجم الأردن. وبقي لذلك الاستهداف القائم على إبقاء الدولة في غرفة الانعاش اقتصاديا وسياسا قائما، وصولا لمرحلة مستقرة تحاصر فيها القيادة نفسها مع الدولة وهما كسيحين.
فمع مرور الزمن سيقت الدولة لتوسيع أجهزتها ومؤسساتها ونفقاتها بلا أسس، واشتد معها الحصار الاقتصادي والمالي، ولجأت الى صندوق النقد للحصول على القروض. وجاء مردود شروطه سلبيا على المواطن والخزينة والأمن المجتمعي، فلجأت للخصصه المنطوية على بيع المقدرات، وأدخل معها الفساد كظاهرة في الصف الأول. وتفاقم الوضع مع اللجوء العربي غير المنضبط والمغطى. فاتجهت الدولة للمواطنين بهجمة ضريبية قاسيه على شعب فقير، وبرزت المشاكل الاجتماعية والأمنية باطراد. وتغيرت طبيعة العلاقة بين الشعب والملك الذي آثر الهروب لعدم تمكنه من فعل شيء. وانقلبت نتائج السياسية الداخلية التي صممت ظلما لتخدم السياسية الخارجية، لتصبح الآن محل ابتزاز، وعبئا عليها.
القيادة الأردنية التاريخية والحاضره تسبح في بركة ثلاثة أطراف. الأمريكي والاسرائيلي والسعودي، بثلاثة خطابات محورها المال والسياسة، وهدفها العميق هو النجاة بالدولة الأردنية لتثبيت ملك العائله. والبركة اليوم باتت ضحلة جدا وتجف بوجه القياده. التي اصبحت في مواجة فتحتها الأطراف الثلاثة معها، معا، في تنسيق واضح. وجاء هذا على خلفية المستجدات العربية والدولية في المنطقة ووصول المشروع الصهيوني لمرحلة متقدمة أسقطت فيها قواعد اللعبة التفاوضية وحل محلها فرض الحلول للإجهاز على القضية الفلسطينية ومكوناتها بمعزل عن اتفاقيات السلام والشرعية الدولية وعن حل الدولتين، الذي على اساسه يتعاطى الأردن مع عملية السلام بصفتها تضمن بقاء الدولة الأردنية ونظامها وأصبح كل ما قدمته القيادة لامريكا واسرائيل لعقود من خدمات استراتيجية بمثابة المجان للقيادة كما للأردن.
ووجد الملك نفسه أمام المشهد لأخير الذي تصادمت فيه أهداف القيادة الهاشمية مع الهدف الصهيوني فيما يشبه انتهاء الدور الذي كانت القيادة التاريخية تحاول الانقلاب عليه. وليجد الملك نفسه اليوم أمام خيارين كلاهما قاتل مهدت لهما الصهيونية في أسوأ وضع داخلي، هما، إما أنت بدور جديد في الضربة القاضية، وإما تركك لتلاقي مصيرك. فما هي خيارات الملك ؟.
سعوديا، فإن القيادة الهاشمية التاريخية في الأردن لم تكن وحدها العربية التي ارتبط وجودها بالمشروع الصهيوني. بل ولِدت قبلها القيادة السعودية بالجزيرة. ومن ينبش الوثائق التارخية ويقرأها، يقف على عمق طبيعة ارتباط ذلك النظام كنظام دوره لا ينتهي، وجاء مرتبطا بالمشروع الصهيوني وتنفيذه على الساحة العربية والاسلامية بعيدا عن الانخراط في لعبة المواجهة مع اسرائيل. بينما القيادة الهاشمية في الأردن فدورها قيد الإنتهاء ووجودها مرتبط بالشكل والمضمون الذي ستؤول اليه الدولة الأردنية التي لم تتشكل فيها هوية سياسية اردنية أو فلسطينية للأن. كما لم يُسمح لها أن تكون دولة قابلة للبقاء (viable state ).
فبخلاف ما يُساق ويُسَوق بدلالات سطحية تنطلي على الناس وعلى القيادتين السعودية والأردنية في كثير من الأحيان، فإن أسباب الجفاء الدائم المستدام بين القيادتين ليس مرده في الواقع الى احتلال الحجاز، فهذا شأن لغير الطرفين، إنه للسيد. ولا مرده الى رعاية المقدسات والشرعية الدينية فهذا ايضا ليس شأنهم ولا هدفهم الأسمى ولا هو قضية. ولا مرده للتضييق السعودي المالي على الأردن، فهذا مرتبط بأوامر السيد، بل إن العداء مرتبط بحيثيات تنفيذ المشروع الصهيوني التي يرسمها السيد، وبالأدوار المتضاربة التي يصنعها للطرفين، والمتفقة مع تنفيذ المشروع، ويتركهما على فهمهما ونزاعهما. ولو شاء هذا السيد لجعل العلاقة بين السعودية والأردن كعلاقة ا لسعودية والبحرين او الامارات بكلمة واحده.
إسرائيليا، نتنياهو والمجموعة الحاكمه تحمل الفكر الصهيوني التقليدي المتطرف، ويعتبرون الأردن جزءا من فلسطين، وفيه تفرغ مكونات القضية السكانية والسياسية. وليس في خطتها بقاء الحكم الهاشمي في الاردني نهائيا. وتعمل على عزلها سياسيا ولا تعتبر اتفاقية وادي عربه موجوده، ودأبت منذ عقدين على افساد الجبهة الداخلية الأردنية وفصل عرى العلاقه التاريخيه بين القيادة الهاشمية وبين الاردنيين والفلسطين وتصويرها بأنها قيادة لا تعمل لصالحهم ولا لصالح قضياهم.
امريكيا، لم تعد الادارة الأمريكية تعتبر او تتكلم مع الأردن او قيادته كعميل أو شريك أو كصديق، وكلها حالات لم يعد لها وجود. بل كجهة يجري تدجينها لنسيان الماضي والطموحات، وتطويعها لتقبل المسار الجديد والنتائج على المقاس الاسرائيلي، وأن تكون جزءا منه، مستغلة الحالة التي وصل اليها الأردن، ومُهدِدَة بكل صنوف الابتزاز المُمَهَد له بجبهة داخلية منهكة ومفككة ورافعة لأطرافها الاربعه، ومنها التهديدات الأمنية من الحدود باتجاه الداخل، والسياسية والاقتصادية – المالية وعنوانها الديون ومعادلة سعر الدينار. وعسكرها في الداخل، واستخدام السعودية لتصعيد عسكري مباشر وفوضوي.
في المحصله، لم يعد سهلا على الملك في هذه المرحلة المتأخرة والظروف المشار اليها تغيير نهجه السياسي واتخاذ موقف وطني استراتيجي، ولا باستطاعته بالضرائب على شعب منهك واستثمارات تَهرب وفساد يفتك وديون تتراكم ومستحقاتها السياسية تلوح، وجبهة داخلية مفككة، أن يبني او يحمي دولة ويعمر خزينتها واقتصادها ويؤمن استقرارا وأمنا وصمودا. لقد فاتته أولوية العمل السياسي كارضية اقتصادية، وفاتته الاعتبارات الشعبية، وفاته استخدام اورق الضغط، وأصبح أسيرا لأوراق ضغط الأخرين، وفاقدا لأسس اتخاذ موقف استراتيجي آمن. ومازالت مواجهته تقوم على خطاب رافض غير منسجم مع سلوكه السياسي وحجم المؤامره، بالتوازي مع حركات لا ترقى للتكتيكية على الصعيد الخارجي بعنوان سياسي على لعبة لهم هي رعاية المقدسات، يفترضها مركزية بينما هي أداة تجاوزتها المرحلة. وحركات داخلية عاطفية بعيدة عن عن الوزن المفروض والمطلوب،.
وبين قوسين أقول، إن الأردن بوضعه السياسي والاقتصادي الحالي، يشكل عبئا ثقيلا وربما محظورا على كل جهة من خارج محور امريكا يتطلع اليها مهما كبرت. لقد أصاب الملك حسين حين جعل من السياسة مهنته، ومن شعبه رصيدا عالميا لصموده في غياب الديمقراطية، وأخطأ الملك عبدالله الثاني عندما حارب ذاك النهج حتى فقد القدرة على أسس المواجهة والتصعيد مع الصمود. ولا حل له ولنا أراه ممكنا إلا بالعودة للشعب عودة استراتيجية تؤهل للقرار الوطني، تجنبه وتجنبنا ما هو ذاهب اليه.
كاتب وباحث عربي ـ عمَّان