القانون الإسرائيلي الأخير بقومية الدولة المصطنعة يجب أن تتناوله النخب الحرة بعمق سياسي وروية . وتستثمره بحكمة وإقدام، إنه خطأ صهيوني استراتيجي يأتي في غمرة سكرة النصر وجنون متطلبات صفقة القرن لتصفية القضية في غياب إرادة الشعوب العربية وتأثيرها وشيوع اليأس فيها، فاسرائيل تتخبط في رقصة موت يمكن لطبولها أن توقظ العقل العربي وسبات جسمه الممتد.
إذا لم نواكب مسلسل التاريخ السياسي للدول والشعوب ونتفاعل مع مفرداته بالطريقة التي تحمينا وتؤمن مصالحنا فستسحقنا نحن الشعوب العربية عجلة التاريخ، احتكار الحقيقة انغلاق وعزل وفشل .. لقد فشلت وسقطت فكرة التفوق العرقي واستخدام الدين في أقامة الدولة المستقرة والقابلة للاستدامة والتقدم في اوروبا والعالم . وحلت محلها الدول القومية بمفهوم جديد بعد مخاض وحروب سببت التدمير الشامل ومئات الملايين من القتلى، والتخلف الحضاري، ولم يعد العرق أو الدين يتسلطان على دساتير الدول، فارتقت القوميات بإنسانيتها وسما الدين برسالته، وعن دنس السياسة .
وقد أسهم ملايين متهودي الخزر من حيث لا يدرون ولا يرغبون في تعزيز وتطوير مفهوم الدولة القومية المنفتحة هذه في اوروبا من خلال حربهم الشاملة لقرون داخل أوروبا استطاعوا فيها نخر مجتمعاتها حتى تمخضت عن التخلص منهم بالتعاون مع الحركة الصهيونية باحتلال فلسطين وتدمير الجسم العربي في غياب القوة العربية، لكن الصهيونية اليوم تقع في نار هذه الدولة القومية.
فمهوم الدول القومية الجديد الذي تبناه الغرب وتأسست عليه الدول الحديثة ، يقوم على عنوان ومضمون ترتبط فيه الدولة بالأسم الجغرافي للدولة وبمواطني هذه الجغرافيا كلهم على اختلاف تنوعهم العرقي والديني ومنابتهم . وذلك في نظام ديمقراطي تحافظ فيه الأكثرية على حقوق الأقلية من أجل صنع شعب في الدولة مستقر بلا متناقضات في المشاعر والمصالح والطموحات ودون محددات عقدية أو عنصرية ، وبما يؤهل لإيجاد أمة في الدولة يربط فيها المواطن طواعية مصالحه كاملة ومصيره وكيانه السياسي طوعا بمصير الدولة واعتباراتها لتصبح دولة أمه.
لقد كانت الدول الغربية و اوروبا الشرقية وروسيا متفقة على انشاء دوله لليهود في فلسطين قبل اصدار وعد بلفور وقبل سايكس بيكو بل و قبل مؤتمر كامبيل . فكلها محطات لكيفية إخراج الدولة اليهودية في فلسطين بالطريقة التي تخدمهم جميعا في منع العرب من إقامة دولتهم القومية كغيرهم، وكانت صياغة وعد بلفور كمحطة أخيرة قد تمت بعناية لا تَحسم أو تكشف عن طبيعة هذه الدولة القومية المطلوبة لليهود . فالدولة القومية العنصرية تحتضن بذور نهايتها، والدولة على الطريقة الغربية غير ممكن تحقيقها في الحالة الصهيونية مهما كان المدى الزمني طويل لعدم تو فر شروطها انها شروط لا تتعلق بقوة اسرائيل ولا بضعف العرب، وأهمها هي:
1 – أن مثل هذه النموذج للدولة القومية يبدأ بوجود دولة من حكامها وسكانها الأصليين ، وهم وحدهم الذين يقوموا بالمهمة لأنها مهمة فيها تضحية سياسية وتنازل عن حقوق أصيله تقليدية كفدية من أجل الخلق الإنساني ومصالح سكان الدولة وكراماتهم . ورفعة وتقدم ورخاء الدولة ومنعتها.
2- الدولة القومية الحديثه لا تقوم إلا على الديمقراطية والنظام الديمقراطي الذي تذوب فيه القوميات والعرقيات والمعتقدات الدينية أمام الدستور وتصبح دولة أمه خالية من كل أنواع التمييز يقبلها الجميع ويدافع عنها وعن اعتباراتها.
ولدى اسقاط هذه الشروط على الحالة الصهيونية الاستعمارية في فلسطين نعرف عبثية الجدوى ونكشف عن حقيقة المشروع وطبيعة المغامرة الصهيونية والاستغلال والاستخدام المشترك مع الغرب . وإن محاكاة الصهيونية للتجربة الأمريكية في اقامة الدولة القومية لا أساس لها من الوقع، فأمريكا هي الدولة الوحيدة في العالم كحالة استعمارية استطاعت اقامة الدولة القومية المنفتحة لأنها قامت على أنقاض شعب أبادته، وهذا الأمر غير متوفر ولا ممكن في الحالة الصهيونية مع الشعب الفلسطيني او العربي، وستصل اسرائيل لهذه النتيجة متأخرة.
وبناء عليه لم يكن أمام الحركة الصهيونية ممثلة بالوكالة اليهودية حينها إلا الإتفاق مع الأوروبيين ممثلين ببريطانيا على اعتماد الدولة القومية بمسمى عرقي او ديني دون الاعلان عن ذلك لمحاذير سياسية وقانونية وعملية ، فجاء نص وعد بلفور حائرا وملتبسا بين النموذجين للدولة القومية . على أن يصار الى البدء بسيرورة استعمارية إحلالية تدريجيا في فلسطين بالاستيطان لخلق شعب ودوله جديدين بمسمى اسرائيل على أن تستوعب مرحليا الفلسطينيين الذين تعجز عن تهجيرهم ، وتدمجهم في هامش الحياة السياسية وتمنحهم الحقوق المدنية مع إيجاد وتفعيل قوانين عنصرية لتغيير الديمغرافيا.
وحيث أن الكيان المحتل وصل اليوم لمرحلة متقدمة جدا في مواتاتها على الأصعده العربية والدولية والفلسطينية ، وقطع مرحلة كبيرة جدا في تثبيت احتلاله لفلسطين ، ومنهمكا حاليا بتصفية مكونات القضية جميعها في اطار صفقة العصر التي يتم التفاوض عليها في ظلمة الكواليس ، فإن هذا بحد ذاته فرض على هذا الكيان في هذه المرحلة أولوية تقنين يهودية الدولة لارتباطه الأساسي بمتطلبات تصفية القضية في صفقة القرن . وهنا أدخلت اسرائيل نفسها في طبيعة الدولة القومية التي تريدها علنا وبمتطلباتها . وهو خيار صهيوني فاشل ومدمر لمشروعه في محصلته . فعلاوة على أنه قانون بلا أم ولا أب فعلا ، فإن اسرائيل تعلم خطورة التحول الى دولة عنصرية ومواجهة رفض المجتمع الدولي ولا تقبل به ، ولا هي قادرة على ابادة الشعب الفلسطيني الأصيل ، فإلى أين تسير.
وعليه سيكون إصرار دولة الاحتلال على تنفيذ قرارها الأخير في الدولة القومية الفاقدة مقوماتها بتداعياته الخطيرة جدا على الطرفين العربي والصهيوني مَدخلا لاختراق تاريخي إيجابي وحاسم على صعيد القضية الفلسطينية ، حيث إذا لم تتراجع وتُراجع اسرائيل حساباتها جذريا فيستمخض تفعيل القانون عن وضع نفسها أمام خيارين في المحصلة كبديل تتدارك فيه المسمار الأساسي الذي سيُدَق في نعشها إلى حاوية التاريخ المزور ،
الأول .إما قبولها بدولة ديمقراطية من البحر للنهر تشتمل على الفلسطينيين واليهود في إطار تحديد هوية اليهودي المؤهل لمواطنية الدولة ، ومراجعة ومعالجة ووقف الهجرة اليهودية غير المشروعة الى فلسطين..
الثاني ، أو هو قبولها بدولة فلسطينية على الاراضي الفلسطينية في اطار تفصيلات القرارين 181 و 194 وباقي القرارات الدولية التي تحدد طبيعة وكيفية تسوية كافة مكونات القضية الفلسطينية.
وهذه النتائج والخيارات مرهونة بالتصدي العربي والدولي والفلسطيني لمتطلبات وتداعيات تنفيذ القرار الاسرائيلي بحيث تكون مترابطة ومتفاعلة ، وهذه المتطلبات والتداعيات يمكن تلخيصها كتحديات أمام العالم والعرب وإسرائيل، وهي كالتالي، عناوين لا تفصيلات
— على صعيد الفلسطيني بداخل الخط الأخضر ستتغير مصالح ومفاهيم الفلسطينيين العرب هناك ممن كانوا قانعين بحياتهم ومواطنيتهم الاسرائيلية ، وسينضموا بزخمهم السكاني إلى مفاهيم الحراكيين والرافضين والناشطين هناك لمواجه الاحتلال الإسرائيلي، مما سيولد انتفاضة في داخل الخط الأخضر بثقله وهويته النوعية كأزمة سياسية اسرائيلية داخلية ليست سهلة، واكثر خطورة على اسرائيل من انتفاضات الضفة.
— على صعيد الفلسطينيين في الضفة والقطاع ، سينتهي أي أمل لهم في اقامة الدولة الفلسطينية في اطار لعبة حل الدولتين. وستنتهي أية قيمة أو أثر لاتفاقية أوسلو ولوجود سلطتها ومعالمها. مما سيخلق ارتباكا دوليا- عربيا
– وستتغير بموجبه اصطفافات الشعب الفلسطيني باتجاه التوحد على قاعد الرفض والمقاومة . ووحدة القضية والخطاب بين فلسطيني الداخل والضفة والشتات . وسيصار الى اعادة صياغة وتشكيل المؤسسات الفلسطينية السياسية والنضالية والخطاب الفلسطيني على قاعدة فشل خطاب التفاوض الدولي والعربي والحلول السلمية المعزولة جميعها عن أوراق الضغط الحقيقية وعلى رأسها المقاومة بأشكالها
— على المستوى الدولي سيعود العالم مسرحا الى تداعيات القضية الفلسطينية غير المنضبطة ،ا وسيصبح هذا العالم أكثر جدية في التعامل مع الاحتلال والحقوق الفلسطينية ، وسترشد الأنظمة العربية خياناتها.
— على الصعيد الأردني مع هذا القانون، تصبح اتفاقية وادي عربة بالنسبة لاسرائيل منتهية ولا أثر لها، ويصبح حل الدولتين منتهيا بكل المقاييس، وستعود اسرائيل لإعلان أن الاردن جزءا من فلسطين أرضا وشعبا والحل في دولة فلسطينية منزوعة السلاح في الأردن، ولن يعود الملك في وضع مريح للمناورة السياسية. وستعمل اسرائيل على تفعيل سياسة التهجير بوسيلتي الضغوطات والتشجيع، وينشط الترويج لفكرة الوطن البديل بطريقة خاطئة وجعلها مشكلة أردنية – أردنية، وتنشط معها الصهيونية في بث الفتن على أسس غير واقعية، وسينشط عملاء اسرائيل وضعاف النفوس لخلق وتوسيع الفوضى السياسية والاجتماعية مما يتطلب وعيا سياسيا وأخلاقيا ووطنيا عند مكونات الشعب الاردني للانقلاب على المشروع الصهيوني والحفاظ على وحدة الجبهة الداخلية، وسيكون بالتأكيد هناك تفهم عام لهذا، ودور فلسطيني أردني مشترك في وحدة خطاب مكونات الأردنيين في مواجهة أي مخطط اسرائيلي في الأردن، مما يعطي دعما كبيرا وأساسيا لنهضة القضية الفلسطينية على نهج جديد.