إذا كان الانسحاب الروسي حقيقيا وجاء دون طارئ ، فمن المفترض ان يكون مرتبطا بانتهاء مهمته او بعدم القدرة على اتمامها أو نتيجة تقييم يشير الى عدم انتاجية هذا التدخل ماديا أوعسكريا أوسياسيا ، وهذا الاخير مرتبط بالأهداف الحقيقية التي تختبئ خلف مجمل الأسباب المعلنة لهذا التدخل . وبغيرالسببين الباقيين يكون الانسحاب تكتيكا وشكليا وبمضمون اعادة هيكلة العملية ، جاء على خلفية مستجدات سواء كانت في الحساب او لم تكن . فإذا قلنا أن مهمة التدخل الروسي كانت لإعادة التوازن العسكري على الارض وانقاذ النظام السوري من السقوط فهذا بالضرورة هو مطلب امريكا ايضا حيث ترى الوقت مبكرا لاستواء المخطط ولا بديل جاهز لنظام الأسد يخدم هذا المخطط . ولنتذكر بأن حرصها على النظام في هذه المرحلة هو الذي كان وراء تجاوبها السريع مع وساطة روسيا لعدم توجيه ضربة له اثر استخدامه الاسلحة الكيماوية وهو القرار الذي صرح اوباما مؤخرا بأنه غير نادم عليه . وعليه ومنطقيا يكون التدخل الروسي في سوريا جاء بالتفاهم مع الولايات المتحده ، أو بتفهم وترحيب منها وهو ما دل عليه الموقف الأمريكي المتهاون من العمليات العسكرية الروسية ضد قوات المعارضه وكذلك موقفها الدبلوماسي وغير المؤيد لتركيا بحادث اسقاط الطائره . والمعنى هنا أن روسيا دخلت من الباب الواسع ولن تخرج من الشباك .
على ان يكون مفهوما بأن سعي الدولتين الكبرتين للحفاظ مرحليا على الأسد وعلى التنظيمات المناوئه وبالتالي على التوازن لا يعني بأن أسبابهما واهدافهما في ذلك. فالروس حريصون على استخدام وجوده لما يخدم تأمين مصالحهم في في اطار التسوية النهائية . وأمريكا حريصة على بقائه لتنفيذ خطوات تحقيق مراحل سيناريو الشرق الاوسط الجديد القائم على تفتيت واخضاع المنطقه العربية خدمة للمشروع الصهيوني المرتبط بمصالحها .فالدور الروسي ووجوده في سوريا متكامل مع الأمريكي وليس عبئا عليه
وعليه يمكن القول أنه رغم نجاح روسيا في تثبت النظام في دمشق وأعادة سيطرته على بعض المناطق الحساسة وكلها على حساب المعارضه ، الا أنها تعلم أنه لا ضامن لعدم عودة اللاتوازن وتراجع النظام ثانية ، كما تعلم بأن وقف تدخلها العسكري في هذه المرحلة سيفقدها تحقيق هدفها الأساسي الذي سيترتب على المفاوضات النهائية . ومن هنا نستطيع الحكم بان روسيا لم تنه مهمتها لتنسحب . وإنها لا تقبل الفشل في تحقيق مصالحها الحيوية المشروعة أمريكيا لتلغي تدخلها العسكري التي كانت محسوبة لديها كلفته في مراحله المختلفة. كما تعلم أن مصالحها لا يلغيها سلوك سياسي او اعلامي لنظام الاسد ولا ضغوطات ايرانية عليه . أما ما تركته وراءها من قوة عسكرية أساسية عالية التقنية فله دلالاته لاستمرار التدخل وللجم تركيا وايران إذا ما تطورت اهدافهما لدول المنطقه ومنها اسرائيل .
من هنا يكون الانسحاب الروسي هو انسحاب تكتيكي وشكلي ومجرد اعادة هيكلة لعملها العسكري . دفعها اليه ثلاثة أسباب متزامنه وإن امريكا تعلم بالخطوة بل اشتركت في صنعها وإن لم تكن تعلم بساعة الصفر .
أما الأول ، فنستدل على فكرته من مثال عاصفة الحزم في اليمن كمهمه حيوية جدا للسعودية والدول العربية باكثريتها ، اضطرت قيادتها بعد فترة أن تعلن عن انتهائها بزعم تحقيق اهدافها . بينما الواقع أنها لم تكن قد حققت أهدافها ، والعملية لم تنتهي بل استمرت بقوه وبهيكله جديده . وكان السبب في هذا هو اعلامي وسياسي لتغطية تداعيات عدم تحقيق العاصفه لأهدافها في الوقت المحدد حسب الوعود المقطوعة للداخل من الناس وللخارج من الدول .
وعليه فإن الاعلان المضلل لسحب الروس لقواتهم ما هو الا استحقاق اعلامي وسياسي ، شعبي للروس وسياسي لدول العالم جاء أولا في ضوء العجز عن تحقيق المهمة المعلنه( داعش ) ضمن المدة التي اعلنها بوتين ، وجاء ثانيا لمتطلبات الاستمرار بالمهمة الحقيقية في دعم النظام ضمن الحدود دون ضجيج سافر .
السبب الثاني يتضمن ثلاثة دوافع
( أ ) أن الهدنة التي جاءت بضغط اوروبي على روسيا في الامم المتحدة وخارجها ، ولد رغبة وقرارا روسيا امريكيا عربيا لتنفيذ الهدنة لأساب تختلف من طرف لأخر تتراوح بين البعد الانساني الضاغط وانجاح عقد المفاوضات ، في حين ان الاسد لا رغبة لديه في الهدنة حيث كان يطمح لكسب الوقت للتمدد قبل واثناء المفاوضات وقد وجد الروس صعوبة في لجمه وتوريطا لهم في خرق الهدنة لمساعدته فكان موعد الاعلان عن الانسحاب رسالة في وقتها .
( ب ) تعلم روسيا بأن الأسد يريد من حملتها العسكرية مساعدته على اعادة سيطرته على كل سوريا ، في حين ان الهدف الروسي هو في تثبيت نظام الاسد واعادة التوازن العسكري. وأنها اي روسيا انهت زخم المهمة المكلف ومستعدة لاستمرار التدخل العسكري لصالح الاسد كلما اختل التوازن بكلفة أقل . فهذا التناقض في الهدف بين الاسد والروس يحسمه الاعلان الروسي بالانسحاب على الشكل الذي تم به .
(ج ) تعلم روسيا بأن ليس للأسد وحلفائه رغبة بعقد مفاوضات يعرفون بانها لن تؤمن له العودة للحكم ، في حين ان روسيا تريد المفاوضات لإعطاء الاسد رسالة بأن رحيله مطلب عالمي وأن تمسكه بروسيا هو وحده ما يمكن ان يحقق له وللطائفة العلوية مخرجا إذا كان هذا المخرج في دولة علوية مثلا
السبب الثالث . هو أن التلويح العربي الاسلامي الجاد بالدخول الى سوريا والذي لا نتمنى حدوثه فعلا ، قد أفسد الحسابات الامريكية ، وقلب بنفس الوقت الطاوله على روسيا . حيث في هذه الحالة ستجد روسيا نفسها في مواجهة على الارض مع دول صديقة لها وحليفة لأمريكا . وأن هذه الدول ستواجه خططها العسكرية في سوريا وتصطدم معها . وحيث أن روسيا لا يمكن ان تدخل في صدام عسكري مع السعودية مثلا ودول اخرى عندما تهاجم قوات الاسد ، فإن خلطا هائلا من الاوراق سيتبع ذلك وربما يقضي على المسعى الروسي المرعي امريكيا الى حد كبير أو يعجل بتدمير المنطقة . وحيث أن روسيا تعلم بان اعلانها عن الانسحاب بالشكل الذي تم فيه سينزع فتيل التدخل العربي الاسلامي فقد اقدمت عليه .
من طبيعة الاسباب الثلاثه أعلاه نخلص الى أن نظام الاسد من غير الممكن أنه كان على علم مسبق بالقرار الروسي رغم انه قرار شكلي لن يتخلى عن الاسد ولا عن توازن القوى قبل التسوية . لكن فيه رسائل له ، منها أن الدعم الروسي محدود ومرتبط بالمصالح الروسية