كنَّا ضحيتها بجهلنا بها وضعفنا لا بمكرها.. وسيطيح الجهل بملعوب مبادئها بالسيادة العربية التاريخية على دول الخليج.. إنها الأمم المتحدة… لنتعرف عليها

أكتب هذا المقال توطئة لمقال قادم عن قرارات مجلس الأمن بشأن القدس.. وإن كنت أتلمس عذرا لأمة كانت مستعمرة حين أسس نظام عصبة الأمم المنبثق عن الحرب الكونية الأولى أرضية المشروع الصهيوني في فلسطين والأردن، فإني لا أتلمسه لها في نظام الأمم المتحدة الذي انبثق عن الحرب الكونية الثانية والذي يحكم العالم منذ عام 45 من خلال مجلس الامن بقواعد عمله واختصاصاته التي لا حصر لها في الميثاق. ومرت ثلاثون عاما عجزت فيها الدول الأعضاء من إحداث تغيير فيه، وقد لا يحدث هذا إلا بحرب ثالثه.
مصطلح “الأمم التحده ” لم يكن من فراغ، فهو امتداد لمصطلح “اعلان الامم المتحدة ” الذي أصدرته 26 دوله بزعامة الولايات المتحدة في 1 – 1 – 1942 تعهدت فيه بمواصلة القتال ضد دول المحور. حيث عندما تراءى لها النصر وشارفت الحرب على الإنتهاء ارادت امريكا وبريطانيا استمرار هذا التحالف بنفس الاسم. فالمصطلح مضمونه عسكري ونهجه تحالفي، ولكن ضد من هذا التحالف الجديد ؟ فدول المحور سقطت، إنه بالتأكيد من اجل التسيد على العالم وأخذ مستحقات نصرها في حرب عالميه من العالم كله ما استطاعت اليه سبيلا.
مسلخ بشري
وللتأمل. عندما تأسست الامم المتحدة كان مقرها في لندن. وحين تقرر نقله الى نيويورك قام روكفلر وتبرع بشراء ارض شرقي نيويورك لبناء المقر وكانت هذه الارض مجمع مسالخ حيوانات. وكأن في ذلك إشارة لوضع مسلخ بشري مكان مسلخ حيواني./. ولكن الإستهداف يكون للجهلاء ومنزوعي الأنياب من السمان، بعيدا عن فكرة الأمن الجماعي، وكنا نحن.
وإن غياب ثقافة الامم المتحدة عند العرب على المستوى الرسمي سمة. وحتى حين يكون الامين العام عربيا وسأتي لذلك بمثال لدى الحديث عن مجلس الأمن. إنها سمة ضعف تُسَهل الخيانة.
شرطان وأداتان لسيطرتهم على العالم
لقد حرص المنتصرون بالحرب الثانية لدى صياغتهم للميثاق على أن يمسكوا بزمام العالم من خلال مجلس الأمن وكان عليهم أن يؤمنوا شرطين. الأول، أن لا يدخلوا بحرب ساخنه مع بعضهم فكانت الأداة لذلك هي “الفيتو ” ووضعوه وسنتحدث عنه. والشرط الثاني أن يجردوا الجمعية العامة من صلاحياتها المفترضة بصفتها الجهاز الأم الذي يمثل إرادة المجتمع الدولي وفعلوا ذلك.
حيث جعلوا الجمعية تولد مسلوبة الارادة من خلال المادة 24 التي اعطوا فيها انفسهم كمجلس أمن وكالة من الجمعية العامة لينوب عنها بمسائل حفظ السلم والامن الدوليين. وهذه الوكالة غير قابله للعزل بموجب فيتو خفي على قرار الجمعية بتعديل الميثاق أو تلك المادة وغيرها، وذلك من خلال المادة 108 منه. حيث تنص على أن أي تعديل في الميثاق يتم بموافقة الجمعية بواقع الثلثين ولا يصبح القرار نافذا إلا بتصديق عواصم نفس الثلثين على التعديل على أن يكون من بين المصدقين الأعضاء الدائمين بمجلس الامن جميعهم. فلو صوتت الجمعىة على تعديل ما، فإن دولة واحده من الدول الدائمة العضوية تستطيع إبطال مفعول القرار من خلال عدم تصديق عاصمتها عليه.
فوكلاند وجبل طارق يلاحقان عروبة الخليج
ثم جعلوا قرارات الجمعية العامة مجرد توصيات كما ورد في المواد 11 و14 و18 من الميثاق. لتصبح منبر خطابة وتنفيس احتقانات. إلا أنها بنفس الوقت استطاعت أن تصبح مكانا لطرح الدول قضاياها وتسويقها اعلاميا وسياسيا. ففيها تطرح وجهتي نظر طرفي النزاع وتكتمل حقيقة القضية. بخلاف ما يفعله الاعلام العربي من تضليل حين يتبنى وجهة نظر واحده للقضية كما يفهمها هوى الأنظمة فتغيب الحقيقة عن شعوبنا وعن الدول الجاهلة و قد تدفع لذلك الأوطان ثمنا.
ومثال ذلك مسألة جزر فوكلاند. والذي كان واقعها هو التضارب بين مبدأي حق السيادة وحق تقرير المصير، حيث عندما احتلت بريطانيا الجزر رحّلت اليها مواطنيها واصبحوا مواطنين فيها وشكلوا بالنتيجة الأكثرية وتمسكت بريطانيا فيما بعد بمبدأ حق تقرير المصير للشعب بينما تمسكت الارجنتين بمبدأ حق السيادة بعد فوات الأوان. وذات السيناريو كان في مسألة جبل طارق بين اسبانيا وبريطانيا. فحق تقرير المصير أشمل من حق السيادة ويحتويه لأنه يشمل حق الشعوب في اختيار شكل الحكم ونظامه وكذلك السيادة التي يريدون الإنتماء اليها. وهذا خطر يجب أن تنتبه اليه بعض الدول الخليجية التي جعلت من الجنسيات الأسيوية أكثرية سكانية على حساب العرب. ولو أثيرت هذه المسأله الأن في بعض الامارات أو دول الخليج وتبنتها بلدان الرعايا الأجانب والأمم المتحدة فستفقد تلك الدول عروبتها بحكم القانون الدولي.
قرا ري القدس وكوريا ” الاتحاد من أجل السلام “وخدعة السلطة.
وفي سياق الحديث عن الجمعية العامة، هناك حادثه تاريخيه مرتبطة بقرار الجمعية العامة الشهير في عام 1950 بعنوان “الاتحاد من أجل السلام ” والذي شنت بموجبه امريكا الحرب على كوريا. حيث قامت السلطة الفلسطينية زيفا وامتصاصا لردات الفعل العربية والدولية إثر اعتراف أمريكا بالقدس عاصمة لدولة الاحتلال باستصدار قرار من الجمعية العامة تحت رقم 2017 يحمل نفس عنوان القرار الكوري “الاتحاد من أجل السلام “.
ولكن شتان ما بين القرارين شكلا وموضوعا فالقرار بشأن كوريا كان سياسيا توافقت عليه الدول الكبرى ومضمونه يتفق مع عنوانه ويطلب صراحة من الدول استخدام القوة العسكرية ضد كوريا لاعادة الوضع لما كان عليه قبل العدوان، كما سمي، معطين الجمعية العامة هنا حقا لها غير منصوص عليه بالميثاق، في استخدام واضح للجمعية العامة حين يحتاجون اليها. بينما جاء قرار القدس مفتقدا لكل هذا، ولا يتضمن سوى التذكير بقرارات المجلس السابقة حول القدس والمطالبة بتنفيذها ( بولشيت )، ولا يتعامل مع الحدث الجديد وهذا ملعوب إعلامي امتصاصي من السلطة. وممثل فلسطين بالمنظمة هو يساري وخبير سياسي وبالأمم المتحدة ومعروف بصلابته ووطنيته وزاملته سنيين في لجانها، وإني إذ اوجه له التحية لأستغرب كيف مشى مع تلك الصياغة. وسيجد القارئ نص فقرتي القرار الكوري في باب التعليقات للمقارنة، ولضيق المساحة هنا.
الجهل العربي الرسمي بثقافة الأمم المتحدة ومجلس الأمن
الجهل العربي الرسمي بثقافة الامم المتحدة تجاوز أثره فقداننا مزايا خبراتها الفنية ومساعداتها إلى فشلنا في الحفاظ على القرارات السياسية التي اتخذتها وخاصة قرارات المجلس لصالح القضية الفلسطينية وتفعيلها، وكأنها تؤخذ مزاحا رغم أنها لا تلبي العدالة والطموحات. فقرارات مجلس الأمن لم تسقط ازاء أية قضية سوى قضيتنا بسبب سقوط حكامنا. ولو عرفنا كيف نتعامل مع الميثاق والقرارات التي اتخذت بشأن القدس والاحتلال واللاجئين لما تجرأت أمريكا اليوم على تجاوز تلك القرارات بطروحات سوقية والعالم من حولها صامت، وكأن الأمم المتحدة والقانون الدولي لا يشملنا.
وهذا ينقلني لمثال الوزير العربي الذي كان أمينا عاما للأمم المتحدة ويجهلها أو يتلبس الجهل لسبب ما. حيث حينما كان يمر ذاك اليوم بردهتها تقدم منه الصحفيون وسأله أحدهم لماذا لم يُنفذ القرار 242، وكان جوابه ” إنه قرار غير ملزم لأنه لم يصدر بموجب الفصل السابع”. وهذا الكلام طبعا هراء وتأبط للجهل وينافي الميثاق والمركز القانوني لقرارات المجلس. كيف ؟
المركز القانوني لقرارات مجلس الأمن
وبهذا أقول، إن قرارات مجلس الامن كلها ملزمه وعلى نفس الدرجة من الالزامية والقوة تحت اي فصل صدرت سابع أو سادس أو غيرهما ولا يوجد بالميثاق نص مباشر او غير مباشر على وجود وزنين لقرارات المجلس. بل ان من شروط قبول الدول بعضوية الامم المتحدة ان تقدم تعهدا خطيا بموجب المادة 25 تتعهد فيه بقبول وتنفيذ جميع قرارات مجلس الأمن دون تمييز بينها أو تخصيص. لكن كاتبي الميثاق وضعوا في الفصل السابع منه آلية لتنفيذ بعض القرارات التي تخدم مصالحهم بالقوة العسكرية والعقوبات وتركوا لأنفسهم تحديدها بالاشارة فيها للفصل السابع لدى صياغة مشروع القرار، واخرى لا يضعوا لها تلك الإشارة. وهذا لا يفقد تلك القرارات التي تخلو من الإشارة للفصل السابع إلزاميتها ولا ينتقص من أثرها القانوني قيد أنمله. بل جاء ذلك الفصل ليتمكنوا من الانتقائيه في تنفيذ ما يريدون وترك أخرى بما يخدم اهتماماتهم الاستراتيجية على حساب الشعوب الضعيفة والجاهلة وقضاياها. ولذلك فكل قرارات المجلس حول القدس أو النزاع العربي الاسرائيلي ملزمة وجزءا من القانون الدولي.،.
أنواع القرارات التي يتخذها المجلس
طور المجلس لنفسه من خلال الممارسة ثلاثة انواع من القرارات من خارج نصوص ومقاصد الميثاق للتغطية على عدم مصداقيته كان علينا أن نفهمها ونكون حريصين ومتمسكين بحقوقنا القانونية وهي
1 – قرارات يصدرها ولا يقصدها ولا يعنيه تنفيذها لأن عدم تنفيذها يقع بدائرة اهتمام أحد الأعضاء الدائمين في حين لا يقع تنفيذها بدائرة اهتمام اي من الأعضاء الدائمين الأخرين. وهذه القرارات يصدرها المجلس على خلفية خرق صريح لمبادئ الميثاق فيه تهديد للسلم والامن الدوليين بطلب من الطرف الضحية ولا سبب لاصدار المجلس لها سوى التخلص من الإحراج وتمكين حكامنا من الضحك بها على شعوبهم. ومثل هذه القرارات لا تنفذها الدولة المعنية بذرائع كثيرة بل يكفي أن تتلكأ بتنفيذها حيث لا يوجد اليات بالميثاق لمتابعة التنفيذ او معاقبة الممتنع عن التنفيذ. وللامثلة على مثل تلك القرارات، هي كل قرارات مجلس الامن بشأن القدس.
2 – قرارات يقصدها المجلس ويعنيه تنفيذها فيصدرها تحت اشارة الفصل السابع سواء كانت المسألة على خلفية تهدد السلم والأمن الدوليين ام لا. وتتخذ هذه القرارات اذا كان الامر يخص المصالح العليا لاحد الأعضاء الدائمين او لحليف استراتيجي له من خارج المجلس دون ان يكون للطرف الاخر بالقضية حليف استراتيجي في المجلس. (ولم يكن للعرب يوما حليفا استراتيجيا فيه ). ويقع في هذا الاطار كل القرارات التي يأخذها المجلس وينفذها بآليات الفصل السابع.
3 – قرارات يخرجها المجلس بصورة توفيقية بهدف اماتة او تجميد المسألة. تقبله أطراف النزاع كافضل المتاح امامها بما فيه الطرف المعتدى عليه حتى لو كان على خلفية حالة احتلال قائمة. يصدرها المجلس تحت ضغوطات دوليه ومن داخل المجلس، وتحت مقتضى إصداره. وتصاغ مثل هذه القرارات بشكل يرى فيه طرفي النزاع مزايا له. وهي قرارات يصعب وربما يستحيل تنفيذها لانه لدى التنفيذ تظهر التفسيرات المتناقضة لكلا الطرفين وتظهر المطبات. ومن الامثلة على مثل هذه القرارات، القرار 242 الذي يتضمن مبادئ عامة فهي قرارات ليس فيها تقرير او قرار. ورغم أن المبادئ التي ينص عليها القرار هامة وتشكل سندا للحل الا أنه يسكت عنها وتضيع في غمرة الاختلاف على التفصيلات
الفيتو
أما الفيتو، فهذه الميزة التي منحتها الدول المنتصرة لنفسها تمثل سر بقاء الأمم المتحدة والنظام الدولي القائم برمته وعدم انهياره. فليس معقولا أن يمرر المجلس قرارا يصيب مصلحة عليا لدولة عظمى. فذلك سيلغي فكرتهم من الأمم المتحدة ويؤدي لحرب. ففكرة الفيتو عمل واع جدا ويخرق مبدأ المساواة بين الدول الأعضاء، ومبدأ الديمقراطية. ولذلك ليس لهذه الكلمة ذكر في الميثاق، ولم يأت هذا الحق بنص مباشر وصريح في الميثاق، بل مرر بطريقه غير مباشره بحيث يستخلص استخلاصا من خلال نص الماده 27 عندما حددت طريقة اتخاذ القرار بالمجلس بتصويت كذا أعضاء (والان تسعة اعضاء) لصالح القرار على أن تكون اصوات الدول الدائمة العضوية فيها متفقه أي دون معارضة أحد منهم. (واعتبر الغياب والتصويت بالامتناع ليس فيتو بل تمرير غير مباشر للقرار). ويُستخدم الفيتو عادة عندما يكون في القرار مساس بمصالح إحدى الدول الدائمة العضوية او بمصالح حليف استراتيجي لأحدها. وللتذكير فإن طبيعة العلاقة الأمريكية الإسرائيلية تختلف عن طبيعة العلاقة العربية السوفيتية او الروسية ولذلك استخدم الفيتو الأمريكي على خلفيات تمس صلب القضية الفلسطينية دون حساب للسوفييتي او الروس. بينما استخدمه السوفييت على خلفيات لا تمس هذا الصلب كي لا يقع التضارب الساخن. فالفيتو كان ركيزة اساسيه في الحرب الباردة. اما فيما بعد ولليوم فأصبحت المسألة رهن المقايضات بين الأعضاء الدائمين.
الخلل في المشاركة العربية
تنبع عدم سلامة مشاركتنا العربية في الامم المتحدة من عدم التفريق بين طبيعة العمل الثنائي المتمثل بالسفاره وطبيعة العمل المتعدد الاطراف المتمثل بعمل المندوبية الدائمة في الامم المتحدة ويشمل الخلل
1 -.على مستوى حقول اللجان الست للجمعية العامة وهي التسليح ونزع السلاح والاقتصادية والاجتماعية الثقافية والمسائل السياسية الخاصة والمالية والقانونية.. فهناك نقص في العنصر البشري وخلل في نوعيته وفي طبيعة التواصل بين البعثات والعواصم. فنحن امام مئات البنود المتخصصة والعدد لا يغطي والنوعية غير موجوده. فبعثاتنا تحتاج لفنيين واخصائيين للتعامل مع كافة اعمال الجمعية العامه وهذا يتوفر في القطاع الخاص وفي مؤسسات الدولة الاخرى غير وزارة الخارجية. والدول عادة تستعين بهم. بينما دولنا ترسل أميين ليجلسوا مع خبراء.
2 – أما على المسوى السياسي فنحن اصحاب قضيه، وعندما نتعامل مع الامم المتحدة فانما نتعامل مع سياسات دوليه لا مع سياسة دوله ومع قضايا دوليه وقرارات دوليه وخلافات واختلافات دوليه ومع تشابك سياسي ومقايضات سياسية ومع مركزعالمي للأحداث وتسويق القضايا وتكوين راي عام دولي. وهذا بحاجه الى مندوبين سياسيين ورئيس بعثه عالي الثقافة السياسية والحضور والقدرات الشخصيه والتفاوضيه والقادره على التأثير بالحدث او صنعه، فهذا المنصب ليس لتكريم الشخصيات ولا هو أعطية ولا للمنظرة ولا الفشخرة كما هو الحال في معظم الدول العربية.
3 – إن سهم انسياب المعلومات والتوصيات وصنع القرار يجب أن يكون من المندوبية في الامم المتحدة الى العاصمة وليس العكس كما يحدث في بلداننا. وإلا ستفقد المندوبية معنى وجودها. ذلك أنها ورئيسها هم من في الميدان يعيشون الاحداث ويطلعون على تفاصيل الأحداث والقضايا ووجهات النظر ومواقف الدول ويحددون أين تكون مصلحة الدولة أو قضايانا وبالتالي أصحاب الرأي والتنسيب بالقرار.
وأخيرا فإن عدم وجود موقف موحد وتصويت موحد للمندوبين العرب ازاء القضايا الدوليه أفقد الصوت والتصويت العربي وزنه بما لذلك من تاثير سلبي على قضيتنا الأساسية.