درج الأردن طيلة سنوات عمره كمملكة ولغاية سنوات معدودة، أن تعمل الحكومات بتوجيه من الملك مع هامش محدود للقرارات التي يتخذها رؤسا تلك الحكومات، بمعنى أنه كان للحكومات مشاركة في الولاية العامة على صورة لا تتعدى قرارات ادارية واقتصادية، واستعانة الملك الاستشارية بها في بعض الأمور، الا أن الحكومات الأخيرة أو الحالية أصبحت شكلية لمقتضيات المنظور الدولي ولمقتضيات شكلية الدستور، حيث انتقل مركز الحكم وصلاحيات الحكومات الى الديوان الملكي، فكل ما يصدر عن الحكومة من قرارات ادارية واقتصادية اليوم هي قرارات حكومة الديوان ومركزها مكتب الملك.
فتوجيهات الملك وأوامره في الشأن العام أصبحت توجه الى مكتبه أو للديوان معظم الأحيان والذي بدوره يتولى الطلب من الجهة المختصة بالدولة بتنفيذها، كما أصبح مكتب الملك أو جهاز الديوان يصدر التوصيات والتوجيهات من عنده في بعض الشئون الإدارية ويطلب من الجهة المختصة في الدولة تنفيذها ومنها الرئاسة الشكلية آخذا بهذه الجزئية دور الحكومات التقليدي في الشأن العام، تماما كدور رئاسة الحكومة في السنين الخوالي عندما كان لها هامش في الولاية العامة، وحتى لو كان الملك لا يعلم أو لا يرضيه بعض التوصيات والتوجيهات التي يصدرها مكتبه أو جهاز الديوان للأجهزة المختصة لتنفذها، إلا أن تلك الأجهزة تعتبرها بأنها بعلم الملك ورغبته … وتمر.
علينا أن نشير بأن هذا التحول الذي عُطلت به الحكومات وقُزمت لامتداد تنفيذي للديوان الذي احتكر الولاية العامة، هو المسئول الرئيسي عن القرارات الخاطئة والمدمرة اداريا واقتصاديا وسياديا للدولة ومواطنيها، فهذا التحول شكل الأرضية لاحتكار أشخاص واعين على أجندات خارجية يحملونها بكل توجيهاتها في طبخ القرارات بالتعاون مع تنفيذين في الداخل وتقديمها للملك دون مشاركة أصحاب الإختصاص أو مراعاة للمسئولية الدستورية، وبمعزل عن مشاركة أصحاب الباع الوطني في العمل العام وعن الجهات الرقابية الحرة، فهذه القرارات المدمِرة لم تأت نتيجة أخطاء وجهل بل نتيجة عمل سياسي واع ومستورد بالأساس، وفتحت الباب لاستشراء الفساد وتعميقه حتى أصبح نهج حكم يصعب وقفه بدون معادلة جديدة تقلب المعادلة القائمة.
ما أريد أن يفهمه كل اردني منتمي لهذا الوطن ويهمه مستقبل الدولة، هو أن ما يجري في الأردن كحالة ظرفية نعيشها ليس عملا بريئا ولا سببه مرتبط بالفساد الاداري والاقتصادي والمالي والاجتماعي، بل أن هذا الفساد بأنواعه هو نفسه المرتبط بهذه الحالة ومطلوب لها كحالة ظرفية وليس العكس، وبأن السياسة وراء الوضع المأزوم، وإن ما يجري عندنا هو هدم لما أنجز، وعملية تصفيه وتفكيك وإفلاس للدولة ونزع ملكيتها وسلطانها على مواردها ومؤسساتها، ونزع هيبتها وتماسك نسيجها الاداري والاجتماعي وفك المنظومة القيمية والخلقية وكله لحساب المشروع الصهيو- أمريكي في دولة تأخذ شكلا ومضمونا جديدين في إطار تطوير دورها الوظيفي طبقا لتطور الخدمة المطلوبة للمشروع الصهيوني، وقد تم انجاز الكثير من المطلوب ولم يبق الا القليل والمتعلق بوعي الشعب على الحقيقة، وبالتأكيد فإنه لا مصلحة للملك ولمُلكه واستقراره في هذا.
السؤال هو عن أسباب هذا التحول في سلوك أو سياسة الملك، وهل لهذا ارتباط بضغوطات أجنبية عليه للإنقلاب على عمق التحول والإنجاز الذي حققه المرحوم الملك حسين لنفسه وللدولة بما شكله من خطر على المشروع الصهيوني؟
كلازمة لكل مقال يتصل بالأردن والقضية، أقول كان المطلوب مع بداية المشروع الصهيوني تأمين مكان مقبول وممكن لخدمة إفراغ فلسطين من سكانها أولا، وثانيا تأمين المساعدة السياسية العربية المطلوبة لمختلف مراحل المشروع الصهيوني في المنطقة والمبتدئ بفلسطين، فكان شرق الأردن هو المكان، وكانت القيادة العربية التي تم التفاهم معها هو الأمير عبدالله بن الحسين، فهذه الدولة قامت بموجب سياسة خارجيه متفق عليها وتطلبت تطويع السياسة الداخلية لها، وهنا يجب أن يكون مفهوما ان ما قرأناه في الوثائق عن ما قدمه الأمير عبدالله بن الحسين من خدمات للمشروع الصهيوني، لم يكن تبرعا بل كان الأمير يطمح بالمقابل إلى حكم دولة عربية مستقلة تشمل شرق الأردن والقسم الذي كان مخصصا في فلسطين للعرب بخطة التقسيم . والمشكلة أن وعيه السياسي لم يكن كافيا لإدراك أن المخطط الصهيوني لا يسمح ولا يحتمل أن تتخطى الدولة في شرق الأردن أو نظامها الدور الوظيفي والاستغلالي المتطور، وأن آماله لا أساس لها، وبهذا يقول آفي شلايم في الصفحة 25 من كتابه ” كان أمل الملك عبدالله بن الحسين هو تقسيم فلسطين بينه وبين الوكالة اليهودية وعزل الحاج أمين الحسيني حيث كانت اجندتيهما مختلفتين فالحاج امين يرفض الدولة اليهودية فيما عبدالله اصبح يقبل بدولة يهودية”، ويكمل المؤرخ في الصفحة 26 ما نصه “لقد تواطأ colluded البريطانيون مع الملك عبدالله في إجهاض ولادة دولة فلسطينية “.
وجاء الملك حسين رحمه الله وتعاون يافعا بكل الأشكال المطلوبة تحت القبضة الأمريكية البريطانية، ومع تنامي شخصيته ما كان أمامه سوى تبنى سياسة جده الملك عبدالله بن الحسين، ووقف على طبيعة العهدة السياسية للدولة والتزامات النظام، لكنه أدرك بخلاف جده بأن النظام وظيفي وسينتهي، وأن الدولة وظيفية ومستهدفة، وأنها ستبقى تحت الحصار الاقتصادي والأمني الغربي الصهيوني وتحت الإبتزاز، وكان هذا يتعارض مع طموحاته وتوجهات الشعوب العربية الوطنية والقومية، لكنه كغيره لم يكن باستطاعته فعل شيئ وخسر الضفة الغربية وفشل في استعادتها.
وفي المحصلة النهائية، اتخذ الملك حسين لنفسه هدفا يقوم على أن سلامة مُلكه والنظام هو من سلامة الدولة كمملكة، واستطاع بناء دولة ناهضه وراسخة دوليا وداخليا رغم الحصار الأجنبي والعربي، وأن يصنع علاقة أبوية بينه وبين الشعب بفئاته شكلت بدورها جبهة داخلية خلفه نادرة الصلابة، واجه بها الغرب واسرائيل وفرض نفسه صديقا ندا لهم بدلا من موقع المتعاون، وبقي يعمل ويتحين كل فرصة للخروج الآمن من التحالف الصهيوني ولم يسعفه الزمن.
إلا أن شهور الملك الأخيرة، ومراسيم وداعه وطبيعة المشاركة الأمريكية فيها كان يحمل إشارات واضحة على بداية مرحلة سياسية جديدة في الأردن تُنسَف فيها الأرضية التي وصل اليها الملك حسين كشخصية سياسية ندية وطامحة للنجاة بالأردن، وتُنسَف المملكة الناهضة المستقرة، ومؤشرات على تدخلات خارجية مقبلة تعيد التمسك بالدور الوظيفي للنظام وللمملكة من أضعف نقطة لهما، وتستأنفه من عند المرحلة التي وصلها المشروع الصهيوني، فالتآمر كان مبيتا على الملك الجديد وعلى المملكة من واقع بوادر المرحلة الخطيرة على المشروع الصهيوني التي وصل لها والده المرحوم.
وجاء الملك عبدالله الثاني وهو لا يبدو قادرا على التمسك بالإرث السياسي الذي وصل اليه والده، ولا البناء عليه والإنطلاق منه، وانشغل في بداية حكمه بتثبيت ملكه وبلفتات شعبية تعطي الانطباع بأنه امتداد لسياسة والده المحبوب، وأظهر تعاطفا مع الشعب واحتياجاته ومع القضية الفلسطينية، إلا أن ذلك لم يستمر طويلا، حيث ما ان انتهى من هذه المرحلة الوجيزة حتى اختط نهجا معلنا تقريبا لا يقيم وزنا للسياسة، ومبديا اهتماماته بالشأن الاقتصادي . وهذا الأمر شكل علامات استفهام خطيرة ليس لأن السياسة هي محور أساسي للإقتصاد وحماية الدول، بل لأن هذه الدولة أنشئت لغرض سياسي وأن تحديها الأساسي هو سياسي وكل التحديات الاقتصادية وغير الاقتصادية التي تواجهها منشؤها سياسي . وتركنا للسياسة لا يعني أقل من تركها للعدو وتركنا كمتلقين.
السؤال الذي قد يطرحه القارئ هنا هو، هل النهج الذي اختطه الملك عبدالله الثاني هو من واقع ضيق مساحة التجربة وغياب الناصحين والمستشارين الأمناء، أم من واقع الإستسلام للإرادة الصهيو – أمريكية، والجواب هو، أن لا طائل من هذا السؤال الآن، فقد أتى هذا النهج حصاده كما جاء بالفقرة الرابعة من هذا المقال وأخذت التدخلات الخارجية من أجنبية وعربية لعينة تجد طريقها سالكة في التدخل بقرارات الدولة وإدارتها، ولا إمكانية عادت لاسترداد الدولة ومنظومة القيم وتحجيم المشروع الصهيوني الا بثورة ملكية بيضاء ينتظرها الشعب من الملك الهاشمي عبدالله، وسيقف معه ويرفعه حينئذ على أكفه الطاهره، ويتحمل كل كلف التحول بنفس راضية ومضحية . وإما بانتفاضة شعبية شاملة هدفها تشجيع الملك ومؤآزرته لتحقيق هذا المطلب الحق. فلا خيار آمن عند الشعب سوى الملك، لكن خيار الشعب بالانتحار غير موجود.
كاتب وباحث عربي