الفراغ السياسي في الساحة الشعبية تنسفه الأحداث غير المريحة، وهو سمة مزمنة في الانظمة الشمولية، ومع تزايد الوعي لدى الناس والانفتاح على العالم وعلى خطابات العصر ومكافحة الدكتاتورية، اتجه النظام الأردني منذ أكثر من ثلاثة عقود بتشجيع من الدول الغربية الى خدعة تصميم هياكل ديمقراطية رسمية وشعبية بمضمون يخدم بقاء شمولية النظام ويستوعب الرغبات والمطالبات الشعبية بالتحول الديمقراطي، فهبطت علينا المجالس النيابية والاحزاب والهيئات والنقابات والإعلام ومنظمات المجتمع المدني عامة لتمثل ديكورا ديمقراطيا بالنسبة للعالم الخارجي، ووسائل لتكريس الدكتاتورية بالنسبة للنظام، وإعاقة للتحول الحقيقي للديمقراطية بالنسبة للشعب،
تعايَش الاردنيون مع هذه الحالة ونتائجها السلبية على الدولة وحياة المواطن، ولدى ازدياد الضغوطات والاختلالات وتعميم الفساد بدأ يطالب بالاصلاح، إلا أن المسألة في حالتنا ليست مسألة إصلاح ولا مجال فيها للإصلاح، ذلك أن الأسس التي طورها النظام لتقوم عليها مؤسسات الدولة ومضامينها وأهدافها هي أسس فاسدة تعتمد مقدمات ثابته مرتبطة بالنهج الدكتاتوري ولا يكون الاصلاح إلا بتمتينها وتمتينه وتعميق الاختلالات وتعميمها مهما كانت النوايا، وقد وصل الفشل والخراب والفساد مع هذا الاصلاح لكل مؤسسات الدولة عموديا وأفقيا،
فالإصلاح مفهوم مرتبط بالأنظمة الديمقراطية وسيرورتها، ولا يعمل في نظام شمولي، ولن يكون الاصلاح المنشود إلا بتغيير تلك الأسس، وهذا مرتبط بالارادة السياسية التي جاءت بتلك الأسس المبنية على النهج السياسي القائم على سلب ارادة وحقوق الشعب بأي وسيلة، ليصبح المطلوب هو تغيير هذا النهج.
وكدولة ملكية فإن التغيير المطلوب لا يكون ولا يعني الا التحول الديمقراطي من خلال تحقيق وتفعيل الملكية الدستورية، والمنسجمة في حالتنا مع الدستور وخاصة دستور عام 1952 الذي لا أجد تفسيرا للإنقلاب عليه ولا أجد تفسيرا لصياغته في دولة دور إلا في سياق أخر لسنا بصدده.
لو تركنا التطورات السلبية السريعة خلال العقدين الأخيرين، وأخذنا السنتين الأخيرتين من حياة الأردن لوجدنا أن التحديات التي تواجه الاردن اليوم تخطت مجرد الدكتاتورية والاستبداد ونبذ وتشويه الدستور وفقدان العدالة الاجتماعية والتخلف والفقر والبطالة الى تحديين وجوديين اثنين غير نمطيين، خارجي وداخلي يتطلبان التغيير في ظل أي نظام أو ظرف.
ففي الشأن الداخلي وصلت الدولة الى حالة أقرب الى الانهيار المستند لجدار مصطنع، ماليا واقتصاديا واداريا واجتماعيا، وانفرط عقد الدولة وتحول الصراع ما بين النظام والشعب الى صراع بقاء لا بناء، وأصبحنا في الأردن كشعب نعيش حالة انحلال وتحلل بلا دولة ولا حكومات ولا قيادة حكم واضحه ولا قانون، وتفككت الجبهة الداخلية، ولم يعد الملك ممثلا حقيقيا للنظام ولا صاحب السلطة المطلقة أو القرار النافذ، بل حلت مكانه مركز قوة خارجية كدولة عميقة خفية بأدوات محلية تأخذ هي الأخرى شكل مراكز قوة تنفيذية تُصدر القرارات المملاة من الخارج باسم الملك سواء كانت هذا القرارات خارجية أو داخلية بما فيه القرارات التي تُفقد الملك مصداقيته لدى الشعب حين يتخذ قرارات ويتعهد بمحاربة الفساد ويُمنع من القدرة على تنفيذها، بل ويجري توريطه به، أو حين يتخذ قرارا وهميا مثل قرار وقف العمل بملحقي الباقورة والغمر استنادا لنصوص معاهدة وادي عربه.
أما التحدي الخارجي فيتمثل في انتقال المشروع الصهيوني في فلسطين بالذات الى مراحله النهائية التي تنتهي في الاردن، وجاءت صفقة القرن لترسيخ تصفية مكونات القضية الفلسطينية بالاجهاز على حق العودة بالتوطين والوطن البديل، وهو ما يواجهه الاردن اليوم ويواجهه الشعبان الفلسطيني والأردني،. فصفقة القرن جاءت بصفتها الاقتصادية كفرشة تفترضها الصهيونية أساسا مغريا لهذا الغرض. والأردن يعيش اليوم حالة تنفيذ المشروع الصهيوني على أرضه التي تعتبرها الصهيونية جزءا من فلسطين ومن وعد بلفور جغرافيا وسكانيا، ويدخره كمكان مخصص ليمارس الشعبين الفلسطيني والأردني حقهما في تقرير المصير،
وكل طوبة سياسية أو مادية أو فكرية او ثقافية بنيت في الأردن هي لخدمة مرحلة وتمر، واليوم كلها محل هدم ونسف وتغيير لصالح التوطين والوطن البديل، فالكيان السياسي الأردني يواجه تحديا بلا متحدي، ولن يفلت النظام من استحقاقات الوطن البديل في نزع سلطة الملك المطلقة وقراره، وصولا للتخلص منه، فأي اصلاح نواجه به كل ذلك،
الحالة القائمة في الاردن فيها فراغ سياسي شعبي متزامن مع عجز رسمي يأخذ شكل الإنتظار لقدر يصرح عن نفسه، وفيها غياب لسلطة الملك التقليدية الحقيقية، واستمرار لعمل هياكل الدولة الرسمية السلبي في خدمة انهيار الدولة وتسليمها، وفيها استمرار لغياب تأثير هياكل الدولة الشعبية من أحزاب ونقابات ومؤسسات مجتمع مدني،.
..نعم هناك حراك عفوي منذ سنة لكنه قام أعرجا وعلى أسس التعامل مع مظاهر الازمة المعيشية لا على أسسها السياسية، وكان هذا بتشجيع قد بدأ بتشجيع النظام المسَير، وفشل هذا الحراك في تشكيل قيادة واعية له وفي تحديد أهدافه وترشيد خطابه، ولذلك فشل في استقطاب الجمهور، وما زال حراك في سجن مساحته لا تتجاوز الدونم الواحد وتجري تصفية ناشطيه، ومع قصور نتائج هذا الحراك قامت حراكات مناطقية وعشائرية بريئة وغير منضبطة على خلفيات القمع الذي يتعرض له ناشطيها، تزيد من تعميق انقسام اللحمة الوطنية وتشتت الحراك وتخصخصة وتسهم من حيث لا تقصد في تغييب الوعي السياسي على التحديات الحقيقية وشموليتها، وفي وتغييب اسلوب مواجهتها وإضعاف الهوية الوطنية الجامعة، وبما قد يخلق الفوضى المطلوبة خارجيا، ولا بد من تجميع الحراك وتوحيدها وتعزيزه على أسس وأهداف محددة وترشيد خطابه، وهذه يجب أن تكون من أولويات التجمع الوطني، والى أن يتم ذلك تبقى مسئولية كل مواطن أن ينضم للحراك في الرابع حتى لا يتوقف
أمام هذه الاخطار الخارجية والداخلية القاتلة، والوضع الداخلي للنظام والدولة، وأمام الحالة الشعبية المترابطة الفشل بسبب ترابط اسباب الفشل، وأمام غياب المرجعية الوطنية أو الشعبية، والفراغ السياسي الشعبي المؤثر، تداعى نفر من ابناء هذا الوطن من أصحاب الخبرة من مختلف أطيافه بقدر ما أمكن من واقع المسئولية الوطنية، للخروج من هذه الحالة الوطنية المنهكة بتشتتها وباختراقاتها، وللحشد المنظم الواعي والجماهيري لإنقاذ الوطن والدولة والمستقبل من خلال تشكيل بوتقة وطنية جامعة على شكل تجمع يطمح بجمع كل الهياكل الوطنية الشعبية القائمة بأشكالها وأسمائها دون استثناء وكل شخصية وطنية مستقلة راغبة، للعمل في جهد جماعي مشترك يسعى لتشكيل مرجعية وطنية شعبية منها جميعها تكون مقنعة للشعب ليتحرك بهدي منظم وواع، وهذا التجمع لا يشكل بديلا أو نقيضا عن أي حزب او نقابة أو مؤسسة مدنية، إلا أن هذا التنظيمات ومبادئها وأهدافها ورؤيتها تكاد تكون نسخة واحده ولا ينقصها سوى جمع الأصوات والأوزان المشتتة والضعيفة والمعطلة،
وقد اعتمد المبادرون اسم التجمع لهذه الغاية التي تستوعب الجميع، واتفقوا على مبادئ وأهداف عامة تمت مناقشتها والتوافق عليها مبدئيا في حوارات مفتوحة على مدى أشهر شملت ما أمكن من مختلف أطياف الوطن وهي ليست طبخة جاهزة أو مغلقة بل مفتوحة للنقاش والتطوير المستمر، مبادئ وأهداف تأخذ التحديات الخطير المستجدة على محمل الجد لتتبلور وتتكامل بحوارات اوسع واشمل لا تترك طيفا وطنيا أو سياسيا، وهيئتها التأسيسية مفتوحة لتكتمل ولجنتها التحضيرية مؤقتة وستسعى للوصول لكل حزب او تيار او جبهة او نقابة وكل مؤسسة مدنية،
وهذه المرجعية الوطنية التي يسعى اليها التجمع ليست في مواجهة الملك ولا النظام بل هي في مواجهة من يحاولون الانقلاب على الملك وتسخيره لمآربهم تحت الضغط، وفي مواجهة الهجمة الصهيو أمريكية على الدولة واستضعاف شعبها والقضية، فهذا التجمع يهدف مما يهدف الى إحياء كتلة الشعب الحرجة لتكون حليفة للملك تمشي أمامه لا خلفه هذه المرة، فهذه الكتلة الحرجة وحدها القادرة على مواجهة أمريكا والصهيونية وكل مراكز القوة الدخيلة وكل الساعين لتنفيذ المخطط الصهيوني على أنقاض الأردن وفلسطين وشعبيهما، والملكية الدستورية التي يسعى اليها الاردنيون هي المخرج الوحيد والملح لحماية مُلك الملك وانقاذ الدولة وكيانها السياسي والشعب والقضية، وبما يحافظ على حق الشعب الفلسطيني بفلسطين وحماية حقوقه غير القابلة للتصرف،