كانت التكتلات في النظام الدولي أيدولوجية، ولفشل جدواهها وانعكاساتها السياسية والإقتصادية والعسكرية على أصحابها وعلى العالم، سقطت واستبدلت بالمجموعات الجغرافية والإقتصادية، وهذه التكتلات الجديدة كما في سابقتها الأيدودلوجيه ليست “تكيات” تبحث عن مصالح الغير بل تبحث عن مصالح دولها وشعوبها وقضاياها، وسياسات بلدانها تحددها حاجاتها الوطنية المتطورة أو أطماعها.
التكتل الأيدولوجي السوفييتي المنقرض أنتج وخلف مفاهيم سياسية جديدة أصبح ضررها حكرا علينا من ناحيتين، الأولى، رسَّخ مفهوما جديدا لليسار واليمين مختلفا عن مفهومه التاريخي الذي وُلِد في اوروبا، ومعاكسا له في الأسس التي قام عليها، حيث أصبح اليسار في مواجهة لليبرالية ويتقبل الإرتباط الإنتقائي بالدكتاتوريات وقبضتها الحديدية على حساب حرية الشعوب والحرية الشخصية، ويبتعد عن أولوية الديمقراطية لصالح الإصطفاف الأيدولوجي.
الثانه، جعَل من الدين عنصرا متناقضا مع مبادئ وسلوك للأيدولوجية الشيوعية، وكان لذلك تأثير سلبي على الساحة العربية. فمن ناحية صنع متلقفين نشطاء للأيدولوجية الشيوعية في بلادنا على أسس غير سياسية ولا سليمة، نسبتهم المئوية مرتفعة عند إخوتنا في الأقليات الدينية والعرقية تحت ضغط عدم شعورها بالآمان على حقوقها واستقرارها في غياب الديمقراطية . ومن ناحية ثانية صَنع رفضا شعبيا عاما للشيوعية أدَّى لتكاتف شعبي كبير مع الأنظمة العربية الموالية للغرب على أسس غير سياسية أيضا، وذلك من واقع التمسك بالعقيدة والحفاظ عليها، وليس قناعة بالأنظمة .وأصبحنا لحقبة طويلة أمام أكثرية شعبية تقف مع الأنظمة على حساب فكرة الديمقراطية وسلطة الشعب والتحرر من التبعية الأجنبية .وأمام أقليات دينية وعرقية مترددة في عملية الاندماح .
ففكرة اليسار التي طورها الاتحاد السوفييتي وتبناها ثم دفنها ليس لها ابوين شرعين ولا حاضنه في الوطن العربي .وإن تجاوز عقيدة الأمة أو التدخل فيها بشكل أو أخر يشكل مقتلا سياسيا وأخلاقيا لصاحب هذا التدخل في بلادنا، فالأمة العربية في كل اقطارها هي كغيرها من الأمم تعتز بقوميتها، وإن الاسلام الذي صنع لها تاريخا وحضارة وفتوحات هو رسالة شاء الله ان يحمل العرب أمانتها، فالإسلام ليس مجرد عقيدة الأكثرية الساحقة فيها بل هو أيضا هويةْ وثقافة لهذه الأمة تدافع عنها، تماما كغيرها من شعوب العالم التي تدافع عن هويتها وثقافتها . ومن العدمية وجسيم الخطأ الإعتقاد بإمكانية القفز عن هذه الحقيقة، والتاريخ يشهد بثبات العقائد الدينية كلها، مهما تقلص انتشار بعضها وحجم أتباعها أو اتسع .
الفكرة الشيوعية أو الإشتراكية العلمية، تخلى عنها أصحابها كأيدولوجية وكنهج . وروسيا وريثة الاتحاد السوفيتي دخلت في سباق مع الولايات المتحدة باستخدام المبادئ الرأسمالية وممارساتها المتعارضة مع الأخلاقيات السياسية والانسانية المرتبطة بالأيدولوجية الاشتراكية على مذبح مصالحها الوطنية والقومية. إلا أن اليساريين العرب المرتبطين بتلك الأيدولوجية لم يحذوا حذو أصحابها ولم يستبدلونها،.. ولم يبحثوا عن تشكيل كينونة سياسية وطنية قومية مستقلة وناجزة من رحم حالة أقطارهم وشعوبهم والقضبة القومية. ورحبت الأنظمة العربية بهذا الموقف من باب عدميته السياسية، وأشركت بعضهم بالحكومات كمسوقين لنهج الأنظمة، مع بقاء لأخرين معارضين كيافطة بذات الأيدولوجية.
ومن المؤسف أن كل الأحزاب العربية اليوم على اختلافها تلتقي على عامل مشترك واحد هو الهجوم على الاسلاميين والأحزاب الاسلامية التي وحدها استطاعت تشكيل قواعد شعبية قادرة على تشكيل معارضة في الدول العربية، ووحدها التي قدمت وتقدم الملموس للأمة والقضية، ووحدها الواقعة تحت هجمة الأنظمة العربية بلا استثناء وبدعم غربي وشرقي . وليس هذا بلا تسبيب أعمق سنأتي اليه . فهل موقف الأحزاب هذا هو من قبيل الإستغلال لتلك الهجمة والاستقواء بها ؟.، ونرجو أن لا يتعدى سبب هذا الموقف التغطية على فشلها.
أحزاب الإخوان ليست استثناء من الفشل الحزبي العربي العام،لكنا لا نستطيع التجني عليها والتجاوز عن انجازات لها لا نلمسها عند غيرها . إنها سباقة في عملية المراجعة الذاتية . ودخلت في حوارات ساخنة مع نفسها بغية تصحيح وتطوير مسارها ومواءمة نهجها لمتطلبات الواقع والمتغييرات . وكانت وما زالت رائده في مقاومة الإحتلال والحلف الصهيو أمريكي وفي تقديم قوافل الشهداء، ودفعت وما زالت تدفع ثمن هذه المراجعة وثمن مقاومتها ووقوفها ضد تسخير الأنظة الامبريالية والعربية للإسلام واستخدامه كحربة للإرهاب،ولن يقف هذا الثمن عند شيطنتها وتطويع القوانين والتضييق عليها . وآن الأوان كي ترفع الأحزاب العربية القبعة للإسلاميين وأن تدرك أن من يرمي حجرا منها على اسرائيل والصهيونية أو يشكل منها استراتيجية لمقاومة المشروع الغربي الصهيوني ستكون النظرة اليه كالنظرة للإسلاميين ؟ *
اسطوانة مهادنة الإخوان للغرب واتهامهم بالعمالة وتشويه صورتهم، اسطوانه أسهمت في صنعها وعممتها أمريكا والصهيونية. فتعامل الإخوان مع المعسكر الغربي تم تشويه طبيعته ومقاصده وحدوده. فهذا التعامل في واقعه لا يمكن أن يكون إلا على سيبيل الاستثمار أو الاستخدام، ولم يكونوا تبعا له أو متعاونين إلا في نطاق اللعبة السياسية. فأمريكا والصهيونية تعلمان بأن الاسلاميين هم الأعداء الاستراتيجيين لهم وللغرب عامة من واقع مشروعهم المناهض للمشروع الغربي، والمتكامل مع المشروع العربي، والمطبوع بالذاكرة الغربية في هذا هو الدولة الاسلامية الواحده بركنيها المادي والروحي .وهو المشروع المنافس لمشروعهم وحضارتهم المادية . فهاتين حضارتين بثقافتين متصادمتين. والاسلاميون وحاضنتهم العربية حاملة الرسالة هم التناقض الأساسي للغرب .وما صُنع الغرب للوهابية إلا لهدم الإسلام بأيد عربية .وبنفس الوقت كان المعسكر الغربي الرأسمالي بتعامله مع الاخوان يبغي اختراقهم واحتواءهم واستخدامهم لا من أجل تسليمهم السلطة بدلا من الأنظمة القائمة، ومن هنا كانت العلاقة بين الإخوان والغرب يتخللها الصدام والعناق.
بصرف النظر عن ملعوب إخوانية قطر، ووصمة عار مرسي بإرسال سفير للكيان الغاصب تحت ذرائع محرمة لا تعنينا، فإن الفكر الإخواني والإسلامي يَعتبر الصراع العربي الاسرائيلي صراع وجود، ولا يعترف الا بفلسطين عربية من البحر الى النهر، وهذا لا ينسجم مع مفهوم أكبر أصدقائنا وحلفائنا المناهضين للغرب، لا نختلف بأن الصهيونية والكيان المحتل عدونا الوجودي، والامبريالية الأمريكية والغرب عامة عدونا الحضاري والتاريخي. ولكن هناك خطوطا حمرا يجب أن تحكم صداقاتنا أو تحالفاتنا مع الروس وغيرهم . فنحن ليس لنا ولا بقدرتنا منع الروس من الإعتراف بالكيان الاسرائيلي والحفاظ عليه والتعاون معه، ونرحب بتأمين مصالحهم بأوطاننا مقابل دعمنا، ولكن بشرطين هما، عدم استغلال الصداقة لكشف ظهرنا وتقديم تنازلات لاسرائيل على حساب حقوقنا ومصالحنا وقضيتنا، والثاني،عدم الوقوف بوجه مشروعنا واحترام قرارنا السياسي والسيادي.
وفي الختام،فإننا في الوقت الذي نتطلع فيه لعودة اليسار العربي لمفهوم اليسار التاريخي، فإننا لا نحن ولا الحركة التصحيحية داخل الاخوان مع دخول الأحزاب الدينية في المعترك السياسي في هذا العصر وكل عصر، ليس لأنها اقصائية في مسلماتها ولا تقبل الرأي الأخر، فكل حزب غير برامجي هو إقصائي بالمفهوم السياسي . بل لأن الدين يقوم على قواعد اخلاقية وسلوكيات ومبادئ تخلو من الدنس ولا تتعامل معه، وتتعارض مع قواعد اللعبة السياسية الدولية وسلوكياتها، ومع ومفاهيمها التي تعزل الدين عن السياسة.
ولعل المتنورين الإخوانيين حاليا ينحون الى تشكيل أحزاب سياسية تشاركية تنخرط باللعبة السياسية وقواعدها العامة منفصلة تماما عن الجماعة الدعوية، منفتحة على قيم ورسالة الاسلام الانسانية وعلى الرأي الأخر والحريات الشخصية ونفع الناس.
كاتب وباحث عربي