لا أتفهم أن عربياً يصطف مع أي دولة اصطفافا سياسيا بشيك أبيض. فنحن أصحاب أقدس قضية لأقدس وطن. تستحق أن تكون بوصلتنا السياسية والأخلاقية والأمانة الكبرى في أعناقنا. النظام والقانون الدوليين معوّمان في أقطارنا، مما يجعل من تدخل القوى الخارجية فيها أمراً طبيعيا. ولكن طالما نحن كشعب عربي غير قادرين على منع هذا التدخل السافر أو متمنعين، فإنه يصبح علينا التعامل مع هذه التدخلات على أساس درء التدخل “الأفسد والأخطر” منها وإفشاله بمساعدة التدخل الذي يكون في مواجهة معه. منتبهين إلى أن المتدخل الذي نستعين به ونحالفه لا يضع استقرار ووحدة وسلامة اراضينا كهدف متقدم على مصالحه، ولا من مصلحته أن تستقر الأمور وتعود المياه لمجراها أو لمجرى أفضل وهذا موضوع خطير يمكن تداركه من خلال أسس التحالف.
إذاً، يصبح السؤال أمامنا، ما هو المعيار الذي نعتمده لتحديد التدخل الخارجي “الأفسد والأخطر”. حيث من هذه النقطة يمكن أن ننطلق لبناء موقف أقل ضرراً وأكثر سلامة في اصطفافنا كشعب وتحالفنا كأنظمة وطنية. وهنا نأخذ ليبيا كمثال ساخن. فما يحدث فيها من تطورات ليس معزولا عن سياق ما يجري في الدول العربية الأخرى. فما ينسحب على ليبيا من مبدأ لموقف اصطفافي نتخذه، ينسحب على أية دولة عربية نازفة.
وأقول في سياق هذا الطرح وطبيعة السؤال بأن المعيار لتحديد التدخل الخارجي “الأفسد والأخطر” ليس بالضرورة هو الذي يصب في مصلحة الدولة المتدخلة أو يحمي مصالحها او الذي يحقق أطماع لها، ولا الذي يتقاطع مع مصلحة “اسرائيل “، بل إنه التدخل الذي يَعمل لحساب نقيضنا الوجودي الكيان الصهيوني، كوظيفة. أي دون أن يكون هذا التدخل مدفوعاً بمصلحة وطنية لصاحبه ودون حاجته اليه ولا مطمع له. ويصبح السؤال المحوري هو، من هي هذه الدولة المتدخلة التي ينطبق عليها المعيار
وبهذا نضع في اعتبارنا أن وسيلة التدخلات الخارجية في ليبيا لتحقيق أهدافها هي دعم وتوجيه طرف على أخر من الطرفين الوطنيين اللذين يقودان الحرب الأهلية المفتعلة في صراعهما على السلطة على من خلال تحالف، وهما السراج وحفتر، واللذان بدورهما يسعيان لاستقطاب داعمين دوليين. ولدينا الأن تحالفان أحدهما يأخذ جانب السراج وتقوده تركيا والثاني يأخذ جانب حفتر وتقوده الامارات…. مما يعني أن هاتين الدولتين هما اللتان تحاولان سوق ليبيا باتجاه هدفيهما. بينما على الساحة يوجد دول أخرى متدخلة بالشأن الليبي بصورة مباشرة أو غير مباشرة تبحث عن تحقيق اهدافها أو أطماعها أو مصالحها. وتحدد تحالفها أو موقفها أو سلوكها طبقا لرؤيتها. وحيث أننا أمام السؤال المحوري عن صاحبة التدخل “الأفسد والأخطر فأمامنا من الدول على الساحة الليبية في الاطار العام أمريكا وروسيا وفرنسا ودول اوروبية، وتركيا ومصر والامارات وبعض دول الخليج والأردن.وهناك من هذه الدول من ترى موقعها مع أحد التحالفين القائمين، وهناك من ترى في أحدهما يشكل خطراً على مصالحها أو أهدافها , لكن الرقم الأصعب من بين هذه الدول هي روسيا التي تبدو كأنها تنزلق نحو الفكرة الاستعمارية واقتناص الفرص كغيرها.
نستثني أولاً روسيا وتركيا وفرنسا ودولاً أوروبية من احتساب تدخلاتها واصطفافاتها مع أحد الفريقين على أنه “الأفسد والأخطر” وذلك على قاعدة عدم انطباق المعيار عليها لكون لها إما مصالح خاصة أو مصالح تريد حمايتها، أو لها أطماع تخصها. أما أمريكا صاحبة الموقف المموج مع الطرفين الليبيين وغير الشفاف فنستثنيها بالدرجة الثانية لأنها في تدخلاتها في كل الأمكنة العربية تعمل لحساب مصالحها ومطامع “اسرائيل” بنفس الوقت. على أن يكون هذا الاستثناء لأمريكا متلازماً مع تحريم التعاون معها تحت أي ظرف وذريعه فهي نظام الوجه الأخر للكيان الصهيوني.
أما الدول العربية فبعضها متورط ومصطف مع أحد الطرفين الليبيين بثقل مباشر كمصر والإمارات، وبعضها الأخر بصورة موقف سياسي واعلامي وبما يتيسر لها من امكانيات الدعم الأخرى كبعض دول الخليج والأردن. وقد يكون لمصر عذر تدعيه كدولة محاذية وبأنها معنية بالإرهاب على حدودها. ولذلك نستثني جميع هذه الدول بما فيه مصر على استحياء من صفة التدخل “الأفسد والأخطر” لوجود أعذار لبعضها أو لضعف قيمة تدخل ما تبقى منها، باستثناء دولة الإمارات لما سيلي. إلا أننا نحاسب ونُجَرم كل دولة عربية وغير عربية متدخلة وتصطف لجانب الدولة التي يُعتبر تدخلها بالشأن الليبي هو ” الأخطر والأفسد ” والذ ي يسميه التحليل بدولة الإمارات، لانطباق المعيار عليها وحدها. تماما كما نطبق نفس المعيار في سوريا ونُسمي السعودية وقطر بالتكافل والتضامن بالمتدخل الأفسد والأخطر. وهاتان الدولتان مطالبتان بكامل التعويضات المستحقة لسوريا وشعبها.
إذ ليس لدولة الإمارات أي سبب أو عذر أو مصلحة بالتدخل العسكري والمالي والمادي المباشر والقيادي في الحرب الأهلية في ليبيا، ولا مصالح تريد حمايتها في ليبيا ولا هي بحاجة لموارد تنقصها لتستحوذ عليها من ليبيا ولا لها أطماع باحتلال أرض ليبيا ولا بحكم شعب ليبيا ولا هي دولة عظمى أو استعمارية كي تقوم بهذا التدخل النوعي في الحرب الأهلية الليبية المفتعلة وتَشتري الحلفاء لها في هجمتها وتستأجر جيوش. ألا يحق لنا أن نحكم بأنها تقوم بوظيفة لحساب طرف ثالث هو بالمنطق والمرئي والمسموع والملموس ” اسرائيل ” ؟. وبالربط والاستنتاج والاستطراد يكون الطرف الليبي الذي تصطف معه الامارات والأطراف الأخرى المتحالفة معها سواء بالعمالة أو الشراء كمن يقدم خدماته لإسرائيل. فهذا الحلف الذي تقوده الإمارات والمسمى حلف حفتر هو استنادا للطرح في هذا المقال يغامر بليبيا وشعبها لصالح اسرائيل من أجل كرسي الحكم.
ومع أن التحالف الثاني الذي تقوده تركيا والمسمى حلف السراج قد يكون له محاذير ومآخذ لأن الأصل أن لا يكون في ظروف حرب أهلية وتحصيل شروط قد لا تحصل في الظروف الطبيعية. إلا أنه التحالف الذي يجب أن نَبني عليه وندعمه كعرب وكمسلمين في مواجهة التحالف الأفسد والأخطر الذي يعمل لحساب الكيان الصهيوني الخزري بالوكالة نقيضنا الوجودي، وبالتالي ضد الشعب الليبي والوطن الليبي.. ومن واجب كل عربي أو مسلم صادق وله قضية مقدسة هي فلسطين وروحها القدس، إن شاء الإصطفاف أن يصطف بشيك محدد لا أبيض مفتوح مع الحلف الذي تقوده تركيا. حيث في هذه الحالة يكون هو التحالف المطلوب والمشكور ما دام يأخذ باعتباره الحفاظ على سلامة الأراضي الليبية ووحدتها وعروبتها، واحترام للقرار الليبي السيادي والحفاظ على عدائها لاسرائيل راسخاً ومعلناً.
وأخيراً أتساءل عن الأساس أو الحق الدستوري أو السياسي الذي يستند إليه الملك بإلزام دولة بشعبها العربي صاحب القضية، بالإصطفاف مع عدوه ومستهدفيه في كل صراع على أرض كل قطر عربي. وعن دس أنوفنا في كل عرس حرام بلا طبلة ولا مزمار. وعن صنع حكومات ونواب وقوانين لتعمل ضد طموحات الشعب وإرادته.ومتى ستتبدل هذه السياسة وتتوقف قرارات وممارسات هدم الدولة وضياع الوطن وإذلال الشعب وتعريض مستقبله للخطر الوجودي. الشعب يتساءل لمتى؟. و”متى” هذه تتآكل. ومع أن المسألة ليست مسألة أفراد يمكن قمعهم، فالشعب كله رافض للطريقة والسياسة التي تُدار بها الدولة، إلا أني أتفق مع النظام بأنه لن يكون هناك احتكام للشارع على خطورته ما دام شعبنا مضمونه الفكرة العشائرية وأسيراً يهتز وينتفض للعشيرة ولما يمسها على وهميتها. أما الوطن فله رب يحميه.