لماذا وجود الأحزاب في الأردن لعبة سياسية خطيرة.. ولماذا عليها حل نفسها لصالح بناء إطار سياسي وطني شامل على قواسم مشتركة محددة لمواجهة الأخطار المصيرية؟

انطلاقا من كون تلك الأنظمة العربية الملكية أو الجمهورية التي تحتكر السلطة وتُحَرّم تداولها وتحارب الديمقراطية وفكرة المواطنة، وتحافظ على وضعها هذا بالقوة العسكرية\ الأمنية وبالوسائل الأخرى الخارجية والداخلية المعروفة، وانطلاقاً بالمقابل من كون الأحزاب والفكرة الحزبية هي سمة مرتبطة بالنظم الديمقراطية والتي في طريق التحول الديمقراطي وبسلطة الشعب، وتقوم على توعيته سياسياً وتعبئته وتوجيهه وصولاً للسلطة وتداولها باسمه وبإرادته ونيابة عنه، فإننا نسأل لماذا يَسمح نظام شمولي بتشكيل الأحزاب، ولماذا تُقْدِمُ النخب على تشكيل الأحزاب على هذا المفهوم المتناقض مع مفهوم وهدف وبيئة الأحزاب وبموجب قوانين وأنظمة تمنع أو تتعارض مع إمكانية تحقيق فكرتها وغاياتها، وتتعايش مع الخضوع للملاحقة الأمنية لمنتسبيها وضبط نشاطهم؟
هذا المشهد الذي لا يبدو منطقيا، لا يمكن أن نعتبره مشهداً عبثياً لأي من الطرفين الواعيين (النظام والأحزاب ). فنحن هنا أمام توافق قائم على معادلة مختلة من طرفيها، بين جهة قوية متمثلة بنظام مستبد بالسلطة واحتكارها، وبين جهة ضعيفة هي الأحزاب التي تتعارض أهدافُها المفترضة مع أهداف النظام ولا مجال لتحقيقها. بمعنى أننا أمام توافق فاسد بين الطرفين بُني على معادلة فاسدة. والمهم في هذا هو أن هذه المعادلة والتوافق الضمني عليها لا يمكن منطقياً أن ينطوي على تقاطع مصالح بين الطرفين، بل بالضرورة ينطوي على وجود مصلحة مختلفة لكل من الطرفين في قيام هذه الأحزاب، وبأن لكل طرف منهما (النظام والأحزاب ) استراتيجيته المصلحية الخاصة به والمستقرة بوجود الأخر وفي علاقته مع هذا الأخر. إلا أن تعاون الأضداد وخاصة في هذه الحالة لا يكون إلّا على حساب طرف ثالث هو بالضرورة مصالح الشعب والوطن. فنحن أمام حالة نهايتها بيد الطرف القوي حين يُستنفذ الغرضُ ليتشكل غيره.
وإذا تلمسنا مصلحة كل فريق من هذه المصفوفة غير المنطقية وبدأت بالأحزاب والمنافع التي يتوخاها أو يحصل عليها منشئوها وطليعة منتسبيها سواء العقائدية أو البرامجية، وأخذت بلدي الأردن كمثال ً. فإني من واقع تجربتي وملاحظاتي أحصر أهمها بالتالي
1 – البعض يتخذ من الحزب كإطار قانوني، وسيلة أمنة لنشر التوعية السياسية بين المواطنين من خلال المحاضرات والندوات والبيانات. ولها في هذا وجهة نظر إيجابية مع أني لم أعثر إلَا على القليل منها كحزب الشراكة والإنقاذ. وهذا النوع من الأحزاب هو الأكثر ملاحقة، ولكن ماذا بعد يمكن لها فعله أمام الحالة القائمة؟
2 – والبعض يتخذ من الحزب كإطار قانوني لحماية مؤسسيه وناشطيه الشخصية من ملاحقة السلطة كونهم مستهدفين كسياسيين معارضين للنظام وسلوكياته، إضافة لتحقيق ذاتهم السياسية في اطار منظم وقانوني.
3 – الوصولية لمؤسسي الحزب سواء كان عقائدياً أو برامجياً، ومنها الوسطية التي تُعلن دعمها وتأييدها للنظام وكأنها أذرع حزبية له. بينما الأحزاب اليسارية والقومية هي غالباً من يفوز منظروها بحظوة الوصول والانخراط في حكومات النظام. وهذه ظاهرة لدى مختلف الأنظمة العربية فالزعيم اليساري أو الشيوعي ( ليس كلهم بالطبع )عندما يصبح وزيراً ينشط أكثر من غيره باستخدام قدراته لتبرير برامج النظام مهما كانت مكشوفة. وكذا القومية ولكن بمستوى أقل نوعاً وكماً، ولا أريد التفصيل كي لا أحرف القارئ عن الموضوع وفكرته.
– إلا أن هناك فئتين من الأحزاب لهما خصوصية. ويجمعهما عدم أولوية الشأن الأردني الداخلي، وبأنهما تحت المراقبة والملاحقة في سلوكهما ونشاطهما. الأولى تلك الأحزاب التي لها صلات تقليدية بالتنظيمات الفلسطينية والكفاح المسلح، وهذه الأحزاب ليس من اهتماماتها أن تكون جزءاً من الحكومات ولا أن تكون معادية أو مصادمة للنظام. والثانية تلك التي تعتبر الذراع السياسي لجماعة الاخوان المسلمين ( جبهة العمل الاسلامي ) فما يحكم علاقتها بالاتجاهين هو علاقة الاخوان بالدولة. فالإخوان ليسوا حزباً وطنياً بقدر ما هو قطرياً، ولا قومياً بل أقرب للأممية. ولم يسعوا يوما للتصادم مع النظام الأردني، ويقايضونه بحيادهم عند الشدة. بل النظام هو من يسعى للتصادم معهم طبقاً للظرف الدولي من ناحيه وطبقا لمدى توسع نشاط الجماعة الداخلي من ناحية أخرى، وغالبا ما تكون مشاركتهم في الحكومات بقرار حزبي داخلي ونتيجة تفاهم مع الدولة ويبقى المشارك ملتزما برؤية الجماعة. ولعل أهمية القرار الأخير بنزع الشرعية القانونية عن جماعة الإخوان هو في توقيته المتزامن مع توقعات ردات الفعل على مخطط الضم والصفقة. إذ أن لتلك الجماعة ثقل شعبي كبير لأسباب تحدثنا عنها كثيراً ولقواعدها وبعض قادتها التصاق كبير بالقضية، وإن نزع الغطاء القانوني عنها يتيح سهولة ملاحقة قياداتها ونشطائها وضبطهم..
والآن نأنتي لمصلحة النظام من وجود هذه الأحزاب، كجهة هي من تسمح أو لا تسمح بتشكيلها، أو بتشكيل هذا الحزب أو ذاك. وتتراوح مصلحته في الجوانب التالية :
1- الأردن كدوله يطرح نظامُها نفسه مقلداً للغرب والحياة الغربية وبالحكم المدني والدولة المستقرة ليحظى بقناعة وبرضا العالم الغربي، فإنه يسعى لتشكيل مظاهر الديمقراطية من تعددية الأحزاب ومجالس النواب وانتخابات شعبية، وذلك على سبيل الإستخدام لتحسين صورته أمام العالم وهذا أمر بالغ الأهمية للنظام. وفي نفس الوقت والمفهوم فإن من مصلحة القيادة الهاشمية كقيادة وافدة من منطقة عربية أخرى أن تظهر أمام شعبها بأنها غير متسلطة وبأن الخيارات السياسية والفكرية متوفرة للشعب من خلال تلك المؤسسات (الصورية ).
2- هناك العديد من الدول المانحة والداعمة سياسياً تشترط قوانينُها عدم منح مساعدات أو دعم سياسي للدول غير الديمقراطية وليست على التحول الديمقراطي. والحكومات الغربية التي تعلم بشمولية النظام وتعاونه معها سياسيا تطلب وتستغل وجود هذه المظاهر المؤسسية والديمقراطية (الوهمية) لتبرر لشعوبها تقديم الدعم.
3- ما أراه الأهم أن هذا الديكور الحزبي الديمقراطي الفاشل بتصميم مسبق من النظام، أقول أن النظام هذا يستغل ويستثمر هذا الفشل لإقناع عامة الشعب بفشل الفكرة الحزبية أولاً ثم إظهار مؤسسيها ونخبها بأنهم مخادعون وغير جادين، ومد هذا المفهوم إلى النخب الوطنية والمعارضين لسياسة النظام، وبأنه ما على الشعب إلّا أن يفقد ثقته بكل صوت وطني ويُصَدق ويتبع النظام والحكومات. وتتعزز مصداقية هذا الكلام حين يرى الناس أن هذه النخب الحزبية والوطنية المستقلة تصبح بين يوم وليله جزءاً فاعلا في الحكومات وأجهزة الدولة الحساسة ومسوقة بارعة لبرامج الدولة الجدلية.
في ضوء المقارنة بين اهداف النظام وما يحصل عليه من فوائد لوجود الأحزاب، وبين ما تحصل عليه الأحزاب من مصالح كما مر معنا بعيداً عن أهدافها المفترضة وعن الفكرة الحزبية، وقاربنا بين الفائدة التي يحصل عليها النظام من وجود الأحزاب وبين الفائدة التي تحققها الأحزاب من وجودها، نجد أن الشعب وقضايانا الوطنية هي التي تخسر من وجود تلك المصفوفة. ونجد بأن فشل هذه الأحزاب هي نتيجة لمقدمة فاسده، وأن وعدم قدرتها على أن تتغير بتغير المعطيات السياسية والأقتصادية التي تعصف بالدولة والوطن وشعبه هي نتيجة طبيعة للمصفوفة التي تجعل من وجود هذه الأحزاب واستمراره على حاله وطعنة في قلب النضال السياسي الوطني الأردني وتهزيئا وذبحاً للفكرة الحزبية ويلحق الضرر البالغ بالمسألة الوطنية وبمتطلبات المرحلة وبمعنويات وخيارات الشعب، وتمنح شرعية لنهج للنظام وخدمات تعتبر حيوية وأساسية لدعم سياساته وترسخ الدكتاتورية والاستبداد بالقرار.
إن بقاء هذه الأحزاب على الخارطة السياسية الأردنية في معادلة فاسدة هي لعبة سياسية خطيرة بانعكاساتها السلبية التي تتجاوز شراكة النظام في ترسيخ نهجه. وفي ضوء استحالة تحقيق شيء ً من الأهداف السامية في ظل البيئة السياسة والقانونية والأمنية سوى الكم الكبير من الأضرار، وفي ضوء فشل كل المحاولات لتشكيل تجمع حزبي وطني متجانس وضاغط دبلوماسيا وشعبيا وسياسيا لتغيير النهج، ولاستحالة تحقيق هذا الهدف حزبياً نظراً لاستقرار كل حزب على سياسته المشار اليها أعلاه وفقدان المواطنين لثقتهم بها، فإن الخدمة الوحيدة والأجَلَّ والأسمى التي يمكن لهذه الأحزاب تقديمها لنفسها وللشعب وللأردن والقضية هي بحل نفسها حلاً جماعيا معلناً ومسبباً ومرتبطاً بتحقيق النظام للبيئة السياسية والقانونية التي بها تحقق رسالتها وهو ما لن يتم ولكنه يعري النظام ويفضح نهجه ونواياه.
أما عن البديل والمطلوب بإلحاح فأقول، إن التطورات على انواعها على الساحتين الأردنية والفلسطينية هي نوعية وغير نمطية ومترابطة ومتكاملة. وتحتاج لعمل غير نمطي لا يتمثل بأقل من مشروع سياسي وطني شامل وعاجل يقوم على قواسم مشتركة وواضحة تستثني كل ما هو خلافي أو جدلي أو اجتهادي وخارج النص، وتكفل إعادة ثقة المواطن وقناعته بالحركة الوطنية، وقادرة على استقطاب الجمهور الأردني بكل أطيافه وألوانه. على أن تضطلع به شخصيات وازنة وخبيرة ومضحية وصلبة، هذا هو وقت نكران الذات وتحييد الأيدولوجيات والإصطفافات .