يقال بأن النظام الصالح عادة ما يخرج من الفوضى، لكن هذا ممكن عندما تكون الفوضى طبيعية غير مصطنعة ولا موجهة حيث عندها ستكون هذه الفوضى خلاَّقة لمولود ميت أو مشوه، ويصبح على العقول المنظمة وصاحبة المصلحة أن تنهي حالة الفوضى، وفي حالتنا الأردنية يلاحظ المتابعون حالة حراك سياسي فوضوي عاجز عن تأسيس عمل وطني منظم وواع في الساحة الأردنية، بينما نحن في أدق الظروف وأكثرها تطلبا للوعي والتضحية ونكران الذات، والسؤال هل هذه الفوضى طبيعية أم مفتعلة وهل يمكن التغلب عليها؟
المنطقه كلها تمر في مرحلة تغيير، والأنظمه العربيه تتوسل بقاءها وتقايضه بالتطبيع المكشوف والاعتراف باسرائيل وخدمة مشروعها، والشعوب معزولة ولا تتمكن لتاريخه من فرض وجودها كطرف أساسي في المعادلة وصاحبة المصلحه التي يُتاجَر بها.
الملكية الدستورية هي مطلب الأردنيين وحق لهم، وحمايةً للأردن والأردنيين وقضاياهم وللملك وعرشه معا، وهي قادمه في نطاق التغيير المطلوب خارجيا في المحصله، ولا شك في ذلك، لكننا نريد هذه الملكية الدستورية قبل فرضها علينا وقبل التغيير الذي يريدونه في المنطقه، ليكون التغيير في الأردن كما يريده الشعب لمصلحته الوطنية والقومية، لا كما تريده امريكا وإسرائيل، إلا أن الأمور في الداخل الأردني تبدو ماضية بعكس هذا الإتجاه، وأن الوجود الأجنبي المقيم في دوائرنا الحساسة أصبح مؤثرا في توجيه السياسة الداخلية.
فملامح مشروع قانون الانتخاب الذي يناقَش ويُحبك بالسر تشير الى أن المؤامرة تتعمق في الأردن وتستهدفه كدولة وكشعب صاحب قضية، إنها ملامح لمشروع شيطاني لا مكان له ولا أدنى منطق في دولة كالأردن إلا منطق التأمر على وحدة الشعب وتفتيته لتمر المؤامرة، ملامح مشروع تُنسَخ فيه فكرة وجود شعب واحد في الأردن أو جود أردن لشعب واحد، وتقضي على فكرة الأحزاب والتحول الديمقراطي الذي يستلم فيه الشعب السلطة في الظرف المناسب، ملامح مشروع يصنِّف ويقسِّم شعب واحد بأجمعه الى كوتات وكأنه شعب لقيط ووافد وغريب عن بعضه وعن وطنه في لحظة هو فيها أحوج ما يكون للوحدة الوطنية كضمانه أساسية في مواجهة المشروع الصهيوني.
وفي المقابل فإن العماء والفوضى السياسية التي تعاني منها الساحة وغياب اللحمة الوطنية في الشارع الأردني يحول دون أي عمل وطني ناجح ومنتج، فهذه المرحلة التي تغيب عنها الصالونات السياسية التقليدية التي كان يقودها رؤساء حكومات متقاعدين خدمة لأنفسهم وللنظام، وتغيب عنها الأحزاب السياسية بحكم واقعها وعدم شعبيتها، وتغيب عنها ثقة الشعب بالحكومات والنظام، قد جعل من الساحة الأردنية اليوم سائبة لمن يشتري ويبيع مِن الصالح والطالح، تسعى فيها أعداد متزايدة من الأشخاص لتعبئة الفراغ بمبادرات متنافسة لتشكيل تكتلات وطنية وبناء مشاريع وطنية تحت مسميات مختلفة، بينما الشخصيات الوطنية التقليديه ورموزها انكمشت أمام ما تراه من تشرذم وقصور لدى رواد هذه المبادرات في فهم طبيعة العمل السياسي المطلوب.
هذه الحراكات الفوضوية القائمة بهيكليتها المنقوصة وطبيعتها التائهة تشكل بيئة صالحه للفشل وبث اليأس في النفوس، يتزاحم فيها قادة لا حصر لهم ما بين مجَند وهاوي سياسة وعاشق قيادة ، والدولة غير غائبة عن هذا المشهد، ونستطيع القول بأن الأجهزة الأمنية ودائرة المخابرات بالذات تسهم في صنع هذا التشرذم لاجترار الفشل واستغلاله ، وأن الدور الأساسي لها بات يعمل باتجاهين، يقوم الأول على اختراق وتوجيه هذه الحراكات السياسية في مهدها، بل تقوم أحيانا بصنع مثل هذه الحراكات والتحكم بنتائجها وإنهائها، أما الأخر والأخطر فيقوم على سياسة إسقاط القدوات الوطنية الواعية،التقليدية منها والمستجدة، كي تُفقد هذا الشعب بوصلته الحقيقية، وهي للآن ناجحة في هذا الدور، فالتشرذم قائم والفشل قائم ومركَب الضياع يسير بالأردن.
أمام هذه الحالة لا بديل عن مواجهة التحدي، فليست قوى الشد العكسي في أجهزة الدولة قادرة على اختراق شعب عندما يترجم وعيه عمليا بوحدته ووحدة مصيره كشعب واحد على قاعدة أن لا هدف له يتعدى تصحيح المسار بأيد وطنية والضغط السياسي باتجاه مساعدة الملك لصنع ارادة سياسية ينقلب بموجبها على الوضع القائم ويستبق ما سيُفرض عليه وعلينا، ولا بد من جعل خيار الملكية الدستورية خيارنا ومن تفصيلنا، فالحراكات وتجمعاتها القائمة ما زالت قاصرة وتقوم على حسابات تتجاوز الواقع والمستجدات، وعندما يتبناها لون واحد من الأردنيين يكون الصفر محصلتها، وعلى أصحاب العلاقة من أبناء العشائر والقبائل وراكبي سياسات الجهوية والمناطفية والإقليمية أن يدركوا بأنها ثقافة كانت قد فصلت حصرا للأردن، وهذه انتهى دورها وماتت ، ولم يعد حاضرهم كماضيهم.
من هنا، على الأردنيين جميعا أن يواجهوا الحقيقة ويدركوا بأن لا مصداقية ولا فاعلية ولا نجاح لأي تكتل أو عمل وطني ما لم يكن قائما على الوحدة الوطنية ونابذاً لسياسة العزل الوطني وإشاعة التفرقة داخل البيت الأردني، فهذه اللعبة الفاسده تتغير اليوم قواعدها بحكم مقتضيات المرحلة السياسية لا أكثر، وعلى الأردنيين أن يسبقوها بالتمهيد لمرحلة شراكة وطنية لمواجهة التحديات الأخطر في مرحلة يجري فرضها عليهم، إن المؤامرة إن مرت سيكون الجميع ضحيتها، فالقضية الفلسطينية بانعكاساتها هي قضية الأردن والأردنين تماما كما هي قضية فلسطين والفلسطينيين، وهذا الوطن للجميع وإذا لم يتسع حصرا للجميع فلن يتسع إلا للصهيونية.
كاتب وباحث عربي