دخل الأردن في العقدين الأخيرين في مرحلة نهايات الدور الوظيفي للنظام والدولة معا والتحضير لسيرورة تنفيذ وعد بلفور فيه، وأدخل الفساد إلينا بكل أشكاله كسياسة هادفه وبصفته أنجح وسيلة لإفشال الدولة وهدمها وتطويع شعبها لتتويج المشروع الصهيوني في فلسطين وافتتاحه في الأردن. وكان ذلك برعاية النهج السياسي القائم، ولذلك كان الديوان الملكي أول من دخله الفساد حين اختُزِلت الدولة به وأصبح مركز الحكم والقرار ويعمل من خارج الدستور.. وأصبح الفساد نهج حكم ومحمي بالقانون. فبِيعَ ما بناه الاردنيون في الدولة من مؤسسات وما طوروه من مقدرات اقتصادية أو خدَمية كبضاعة مسروقة، وهُدِم ما هدم وحُمِّلت الدولة ديونا لا يمكن سدادها الا بثمن سياسي، ثم فَكَّ النظام ارتباطه بشعب الدولة وتركهم مهمشين تحت الفاقة في دولة فاشله لا تملك نفسها. ولعل أبشع ما خلفه لنا جبهة داخلية مفككة بعد أن جهد بتغييب اللحمة الوطنية.
الأردن اليوم وبعد ماية عام ما زال للشرق أردنيين هو شرق الأردن، أي كما كان قبل قيام الدولة، مجرد وحدات من مدن وقرى وجهويات وعشائر، بفارق إفقادها لما كان يجمعها من لحمة التواصل والهم القومي ومقاومة المشروع الصهيوني. فالنظام من خلال نهجه المبني على الدور الوظيفي له وللدولة لم يصنع من تلك الوحدات حالة وطنية أردنية بهوية سياسية وطنية ولا شعبا، بل فتت تلك المدن والقرى والجهويات وعشائرها وأفسدها من داخلها، وزعزع ارتباطها ببعضها وبعروبتها وأفقرَها وشوه القيم. وفرق فيما بعد بين مكونات الدولة السكانية وفرقها عن بعضها مستخدما ذبح حقوق المواطنة من خارج القانون، واليوم الدور على الأردن لتنفيذ وعد بلفور.
لا يوجد في الأردن صراع على السلطة، بل صراع مع السلطة على حقوق المواطن والوطن حاضرا ومستقبلا. لسنا ضد الملك ولا ضد مُلْكه وليس لدينا في هذا الظرف بديلا وطنيا جاهزا. ولكننا مع انفسنا ووطننا ودولتنا وقضيتنا ومصالحنا ومعاشنا، ولذلك يجب أن نقف ضد سياسة النظام ونهجه السياسي الذي يحكم كل النهوج والمسئول عن كل السياسات الأقتصادية والضريبية والادارية والقانونية المدمرة ووراء كل فساد وكل معاناة للدولة والمواطن بهدف هدم الدولة وتركيع شعبها للمشروع الصهيوني.
فالملك هو من نتعامل معه واقعيا ودستوريا. وما دونه من أشخاص وحكومات ومجالس نواب هم مجرد أدوات مأجورة بمال الفساد، تُشكل جسم النظام الهش، ومخاطبتها للإصلاح فيه إمعان بالجهل أو الجبن أو النفاق السياسي، العلاقة بين الاردنيين كمحكومين وبين الملك كحاكم تطورت الى غير سليمه، وعلاقة نظامه بمشروع الدولة وشعبها وبالوطن سلبية. فهذا النظام اليوم شريك فاعل باستغلال موقعه وسلطته بصنع الحاضر المر والمستقبل الخطير، ويذهب بنا وبالدولة للهاوية.
قد لا يكون الاردنيون كلهم يعتقدون بأن الملك منسجما مع ما يجري أو جزءاً وشريكاً فيه، ولكنهم كلهم بجاهلهم وواعيهم يعلمون بأن الملك قادر على التغيير ومتمنع عنه. ولم يعد مقبولا أن يزور مجلس الوزراء في كل مناسبة ويوصيه بفعل شيء إزاء فعل خرجت رائحته، أو بمراعاة حاجات الشعب وتخفيف الضغوط عنه ويمشي ولا نرى استجابة. ولمن يقول أن الملك لا يستطيع لأنه مكبل اليدين بالضغوطات أقول، إذا توفرت له الارادة السياسية الحرة والانتماء للأردن وشعبه وللقضية، كانتمائه لنفسه ولأسرته الصغيرة، وتوفرت له نية تنفيذ استحقاقات أمانة المسئولية في وطن وشعب، فإن اشارة منه للشعب بقرار التغيير كافية لصموده وللتخلص من أية تبعية. فالتاريخ لم يُحَدثنا عن مواجهة أية قوة غاشمه أجنبية لإرادة شعب، بل الاستكانة لها، ونحن كدوله لا نعيش في فراغ سياسي دولي. ومن يعجز عن تحمل مسئولية الأمانة واستحقاقاتها لا يسلمها لغير أصحابها.
من الأخر، ما لم ندرك الحقيقة الكبرى لن نفعل لأنفسنا ولبلدنا شيئا. فمن التجربة الميدانية والنظرية الموثقة التي لا يُخطِّئها الواقع كسيرورة، أقول لكم أن القضية الفلسطينية ليست مجرد قضية قوميه للأردن والأردنيين كما قيل لكم، فهذا تضليل وملعوب أدخلنا في متاهات وأوصلنا لما نحن فيه من معاناة. إنها قضية وطنية أردنية وبامتياز. فشرق الأردن أرضا وشعبا ابتدأ وما زال جزءا من وعد بلفور وضمن فلسطين في هذا. وهذا موثق في صك الانتداب الذي يحدد فلسطين ومسرح الوعد من البحر عبورا للنهر والى عمق الصحراء ويمكن العودة في هذا للصك المكرس كله لوعد بلفور، وللمادة 25 منه. وما كان انشاء الامارة إلا لدور في خدمة تنفيذ الوعد على مراحل بدءاً بفلسطين على مرحلتين وانتهاءً بالأردن. فأرضنا أو مساقط رؤوسنا وديعه كما كانت الضفة الغربية وديعه. والقضية التي نسميها الفلسطينية هي أردنية بالتمام والكمال. واستُخدمنا لخدمة المشروع الصهيوني ضد أنفسنا. وعندما انتهى او قارب الاستخدام على الانتها بدأ هدم الاردن دولة ونظاما وشعبا، ونحن اليوم نعيش هذه الحالة.
نحن اليوم في وضع مِشية الغراب، يظللنا الفقر والتهميش وسلب الحقوق وغموض المستقبل. نقبع في مدن وقرى وجهويات ومضارب ليس الوطن قاسمها المشترك ولا الهوية المفقودة. مهدَّدين بسيادتنا عليها وعلى أنفسنا. بجبهة داخلية مفككة ومتلاطمة. نشعر بالحاجة للرغيف ولا نشعر بالحاجة للوطن. نحن في أشد الحاجة لفهم واقعنا الكسيح الهادف الذي وضعونا فيه، ولفهم المستقبل الذي رسموه لنا ولوطننا، فهذا شرط لكي تتشكل لنا ارادة الفعل لحماية أنفسنا ووطننا. ولن ننجح بأي فعل أو مشروع في هذا إذا لم تكن غايتة في هذا الظرف الاستثنائي اللَّانمطي هي إقناع ناس الوطن من المكونين الرئيسيين بالخروج للشارع لمواجهة أمريكا والمشروع الصهيوني بإسقاط النهج السياسي المسئول عن كل معاناة أو خطر قادم. وهذا بدوره لا يمكن أن ينجح ما لم نتحرر من عبودية الحالة الاستعمارية من داخل نفوسنا ونتوحد مع شقيقنا المكون الأردني الفلسطيني رفيق الهم الواحد وصاحب الثقل في العاصمة والمدن والمخيمات، في شعب أردني عربي واحد وجبهة داخلية متماسكة برعاية وطنية حره نظيفة وموثوقة، وبرؤيا سياسية مستقبلية واضحة في دولة مواطنه. وهذا هو مشروعنا الأساس الذي يمكن البناء عليه.
علينا أن لا نخطط لحياتنا ودولتنا لعمر يساوي عمر النظام أو عمر الملك، بل لعمرنا كشعب له أجيال. نحن نخدع أنفسنا ونخدع الملك عندما نحابيه أو ندافع عنه زلفى أو عندما نبرئه أو نستعيض الكلمة الحرة له بالغمز وتحريك الجفون، فالمسألة ليست عابره، إنها مسألة حياه أو موت لشعب ووطن، فلا نعطي انطباعا خادعا عن حقيقة ما بنفوسنا ولا رسالة خاطئة له، وأن لا يعتمد الملك بدوره ولا يركن للنفاق والمنافقين والمسحجين والملكيين أكثر من الملك، ولا على سكوت الشعب، فلن يسكت بالمحصله، وسيسبق بفعله المنظم بإذن الله ثورة الجياع المدمرة للصالح والطالح وكل من أمامها.
إضراب المعلمين يجب أن يؤخذ مثالا للدرس. فليس وحدهم من يعانون من سلب الحقوق ولكنهم وحدهم من توفرت لهم قيادة وثقوا بها وتجاوبوا معها. إلا أنهم اكتشفوا الحقيقة السياسية واصطدموا مع حكم الفساد. فالمسألة ليست مسألة توفير المال لهذه الفئة أو تلك في دولة يقودها اصحاب المال خارجيا وداخليا، وإنما هدم المؤسسات وتوفير الضغوطات المعيشية على الشعب بكل فئاته وتطويعه للمشروع. ولا خطاب مؤثر لانتزاع الحقوق الا الخطاب السياسي. إلا أن قدرة النقابة على الحشد الجماهيري بهذه الصلابة يلتقطه النظام كجرس خطير له ولنهجه ويضع النقابة أمام خيارات الصمود. والأهم أن نلتقط بدورنا أن شعبنا لا يمتنع جبنا عن الفعل والمواجهة من أجل حق، وإنما لعدم الثقة بقياداته يردفها في حالة الوطن عدم وضوح الرؤية الوطنية والسياسية المستقبلية.
نتطلع لتحقيق ذلك على مستوى الوطن ولحساب الوطن وأهله جميعا من خلال صنع جسم سياسي صلب نقي بأجندة صهر مكونات الاردنيين في شعب واحد، ويحظى بالثقة الجماهيرية للتجاوب مع نداء الفعل والمواجهة السلمية لإسقاط النهج السياسي والمشروع الصهيوني وتحقيق دولة المواطنة. فمرجعية قضايانا سياسية.