متى يصبح الديوان مختلفا ؟

إن الحديث هنا عن الديوان ، هو في سياق خصوصيات ودلالات واعتبارات مميزة فيه وله ، يترتب عليها خصوصيات والتزامات ومسؤوليات على الديوان نفسه ، لما لها من تأثير مباشر على حياة المواطن العامة والخاصة وعلى موظفي جهاز الدولة وسلوكه . ذلك أن الديوان الملكي في بلدنا تجاوز كونه مقر رسمي لجلالة الملك، ومقر للشرعية واتخاذ القرار في البلاد ليصبح مرجعا لكل مواطن حين تعز المراجع عليه في نظام عام لدولة تفتقد الديمقراطية وتعاني من غياب المؤسسية المهيمنة بقوة القانون على الجميع ، تحدد للمسئول مسئولياته وتوقفه عند حدوده وتضبط أفعاله ، وتفرض مبادئ العدالة والمساواة وتكافؤ الفرص وتشيع الأمن والاستقرار في النفوس ، ويعاني من غياب قضاء مستقل اداريا وماليا والقادر عندها فقط على تنفيذ العدالة في كل الظروف وعلى كل الناس. ومن هنا ولكون الملك خارج اللعبه تشكل لدى االمواطنين عرفا بمفهوم الديوان لدينا بأنه الطاقة التي قد يدخلون منها حين تغلق كل الأبواب ، وأنه الهوية التي يتمسك بها حين يجد الواحد نفسه بدونها ، والدار حين يشعر بالغربة في وطنه ، و الأمان والملاذ وفسحة الأمل حين يتملكه الخوف واليأس أو يحشر في الزاويه ، والمنصف حين لا يجده ، وحتى مسترد الأغنام حين يفقدها صاحبها ويترك وشأنه .
ولذلك فإن مواطننا يرسم صورة لهذا الديوان ويصر على اقناع نفسه بها ، عنوانها أنه ديوان لكل الأردنيين على الإطلاق لا يحتكره مسئول ولا شيخ ولا وجيه فهؤلاء على مساحة بلدنا ، ولا مقربين ولا فئة بعينها ، يخلو من الشللية والمحسوبية والجهوية والتمييز بين المواطنين وحقوقهم على أي أساس كان ، مفتوحا للسائل والمحروم والمستغيث لا مشرعا للواصل والمحسوب . خال تماما من مراكز القوة وأسلوب عمل الوزارات والمؤسسات وشلليتها وجهويتها ، لا يستغله أحد متسللا كان أو جاهلا أو محسوبا أو متطفلا، ولا يسيء لطبيعته مستغل لوظيفته ، فهو عنوان يهم الجميع خارج نطاق الوظائف العامة.
ومن هنا يفترض منطقيا بمن يعملون في الديوان الملكي أو يتداورون العمل فيه من رئيسه وأمينه الى مراسله ومأمور مقسم هواتفه أن يكونوا مستوعبين لهذه المفاهيم أو الحقائق المتعلقة به، وأن تكون منطلقا ومرجعية لسلوكهم وأن يتصرفوا دائما بوحي منها ومن ألأخلاق العامة للأردنيين وتواضعهم ومن شمولية تمثيل الملك لكل المواطنين . ومن هذا المنطلق فإن طبيعة موظفي الديوان يفترض أن تقوم اشتراطا على توخي ادراك واستيعاب المرشح للعمل فيه لتلك الحقائق والمعاني والمفاهيم التي يمثلها الديوان للمواطن كشرط حيوي ومطلوب، الى جانب الثقافة والدراية في التعامل الراشد والناجح مع مختلف المستويات.
ولأن الأمر هو كذلك فليس من المنطق والصواب بل ولا من الممكن الوصول الى هذه الغاية عن طريق اللجوء للطرق التقليدية في التعيين. ، وإذا ما استثنينا طريقة اختيار وظيفة أو اثنتين ممن تخضع أساسا للإختيار الراشد والسياسي للملك فلابد من مدونة قواعد سلوك ، ومن إنشاء نظام خاص للتعيين والإستخدام فيه لبقية العاملين تقوم على أسس مدروسة ومحسوبة وعلى تأهيل وتثقيف وتدريب المرشحين للعمل في جهازه على استحقاقات ومستلزمات العمل في الديوان الملكي في ضوء مفاهيمه ينسلخ فيها خلال ممارسته لعمله عن عشيرته ومعتقداته ومصالحه الخاصة بأنواعها ، وينظر لنفسه نظرة مختلفة مهما علت أو تدنت درجة وظيفته او مسماها ، تتماهى مع النظرة المختلفة التي يتوقعها الناس . . ولا يمنع أن يكون ذلك من خلال دورات أكاديمية وتثقيفية . وعلى أن يمتد النظام الخاص هذا ليشمل ايجاد آلية ممأسسه لمتابعة ومراقبة سلوك العاملين في الديوان من مختلف الرتب ،في داخله وفي خارج البلاد وداخلها . وبالتأكيد فإن ذلك لا يستقيم دون وجود الإرادة السياسية والمؤسسية المهيمنة وصرامة القانون في الديوان الملكي كضامن آلي وأساسي.
ان غياب مثل هذا النهج وهذه المأسسة المتجردة والصارمة عن موظفي الديوان والركون الى الأساليب التقليدية والإرتجالية والحدسية في التعيين والإستخدام أو في إغفال المتابعة والمراقبة لهم، واستبدال ذلك بالركون الى ما يقال عن أخلاق وإستقامة هذا الشخص أو تزكيته أو نسبه أو واسطته ، أقول، فإن ذلك سيترتب عليه نتائج في الممارسة والهدف والمحصلة من شأنها أن تشكل خطورة بالغة على أهداف الديوان المفترضة وعلى جهاز الدولة والمواطنين وحقوقهم على السواء . وتنبع هذه الخطورة من كون ان الواقع الذي يمثله الديوان والحقائق المشار اليها يتولد عنها بعدان إثنان مترابطان .
البعد الأول يتمثل بأن الأمر بقدر ما يرتبط بتلك الحقائق والمفاهيم ، وبالملك ، وبالأمراء والأشراف أو بما يصدر على لسانهم صراحة أو بالإيحاء ، أو ينقل عنهم بصرف النظر عن صحته ، أو على لسان موظفيه باسم الديوان كديوان يصبح هذا الأمر بالنسبة للمواطنين أمرا يلتزمون به ولا يناقشون فيه ، فالديوان بنظرهم بيت الشرعية المعفي من المساءلة ، وإسم محاط في نفوس الأردنيين بشيء من الرهبه والخطوط الحمر وكثير من الإحترام الذي لا يخضع لشروط.
البعد الثاني يتولد عن الأول. ويتمثل في إعتقاد الكثيرين أن هناك دائما شرعية أو صوابية لحديث وسلوك وطلبات من يعمل في الديوان، ويعتقد الناس أنه يستمدها من هيبة وجلال ووقار المكان الذي يعمل فيه والمقامات التي يعمل بمعيتها أو في خدمتها . بل أن الكثيرين من الخاصة والعامة يعتقدون أو يفترضون أن موظف الديوان هو وحي يوحى . وكما يشمل هذا البعد على إعتقاد آخرين بأن من يصبح بإمكانه العمل في الديوان أو أختير للعمل فيه فلا بد أن يكون له وضع خاص ومميز وقدرة على الفعل سلبا وإيجابا وأنه عندما يتكلم أو يتصرف يكون بمقدوره فعل ذلك بمعزل عن القانون والأنظمة والمعايير التي تحكم سلوك وحديث باقي الناس أو باقي موظفي جهاز الدولة ، ويعتقدون أن هذا الموظف محاط بحصانه وحماية وقدرة تمكنه اذا ما أراد أن يؤثر في الآخرين بمعزل عن المساءلة .
وبإختصار إنك اذا ما وجدت في نفسك الرغبة في التحدي والمتابعة حين يتولد لديك شك في صحة الأمر الصادر من الديوان في مثل هذه الحالات فلن تجد الطريق في الغالب ولا حتى الممسك القانوني ضد أي من المتكلمين أو الذين يتصلون من الديوان وباسمه مع المسؤولين والدوائر الرسمية او الخاصة أو مع المواطنين ، إذ ليس من الضرورة أن يكون هناك طلب بالمعنى الصريح، وخاصة عندما يكون الأمر مجرد إستغلال لوضع أو لمركز فإنه يسهل جدا إجادته وتمريره من قبل عامل في الديوان مهما كان مؤشر ذكاءه متدنيا،. ان المتكلم معه أو المخاطب يفهم الرسالة بالطريقة التي أرادها مرسلها، وهو ليس أصلا مستعدا للمغامرة بالتردد في تنفيذ المرغوب فيه أو الموحى به من طلبات ، فلعله أمر صحيح وإن لم يكن كذلك فهي رغبة لمتنفذ في الديوان ومن الأسلم تنفيذها .
ما أريد أن أقوله هنا أن تمرير مسائل الإستغلال والإبتزاز والإفساد والفساد اذا كانت أو أريد لها أن تكون من قبل أي انسان في غياب المأسسة والرقابة والمساءلة فسيحصل ذلك ، لكن حصوله في الديوان سهل جدا تمريره ، ويصيب هدفه ، وخطره أكبر جدا والظرف المحلي والاقليمي صعب ولا يتحمل.