ليس الاستعمار هو مَن صنع قدر الأردنيين والفلسطينين في أن يكونوا شعبا واحد حتى يستطيع تغييره، فتلك حقيقة تاريخية – جغرافية، ولكن الاستعمار استطاع أن يشيع وينمي ثقافة عند الكثيرين مغايرة لهذه الحقيقة ومستحقاتها، والتمادي في البناء عليها بناء فاسدا ليجعل من الطينة الواحدة طينتين مختلفتين بمصالح متناقضة. ونجح على مدى عقود بصنع وتراكم مختلف أسباب التشكيك والنيل من العلاقة الطبيعية المفترضة بينهم لأهداف تستهدف الجميع لصالح المشروع الصهيوني. وغاب عنا وعنا بأن الأردن والأردنيين لم يكونوا يوما إلا جزءا اساسيا من محل هذا المشروع تماما كفلسطين والفلسطينيين، وبأن الأردن وفلسطين كانتا في البداية موحدتان تحت استعمار إحلالي صهيو- بريطاني، وما إخراجه من وعد بلفور إلا لعبة في الشكل لخدمة المضمون. ويا ليتها لعبة ما كانت.
فعندما تشكلت هذه الدولة من قبل البريطانيين في عام 1921 لم تتشكل معها هوية سياسية أردنية مرتبطة بها ولم نكن نحن الاردنيين المنتمين لجغرافيا الدولة الجديدة في واجهة الحكم ولا مَن يُشكل الحكومات التي كانت برعاية استعمارية مباشرة. فالدولة أنشئت بقالب عربي لا بقالب اردني وما زالت هكذا للأن. ولم يُسمى الجيش فيها للأن باسم الجيش الأردني كبقية الدول العربية، ولا وضع لها نشيدا وطنيا وهذا كله ليس من منطلق الشعور القومي بل بهدف عدم تحديد أو كشف هوية الدولة سياسيا، وتأكيدا على حقيقة وحدة الوضع السياسي والمصير للفلسطينيين والأردنيين.
لقد أدت لعبة الانجليز باخراج الأردن الشكلي من وعد بلفور وتشكيل دولة، الى ما يتجاوز اهدافهم السياسية والأهداف العميقة والحيوية للمشروع الصهيوني بآن واحد. وذلك عندما سوقوا للعالم وللأردنيين كذبا بأن الأردن دولة مستقلة وجعلوا من ذلك أرضية لمفاهيم واهمة عند الأردنيين لتغيير الواقع والحقيقة بِدق الأسافين في علاقة الشعب الواحد قوامها أن” هذه دولتكم والحكم والسلطة لكم، وعليكم الانتباه الى أطماع الفلسطينيين فيها وسحقكم. ” وهذا ما جرى تكريسه على مدى عقود.
وهنا اختلق المستعمر الصهيوني وأعوانه في الداخل مفهوم “الاقليمية ” ولكنه فشل حيثما كان هناك وعي. واستمرت تغذيتها حتى لاقت صداها الطبيعي عند الكثيرين في الطرف الأخر الذي لا يملك سوى أن يأخذ موقفا دفاعيا. ومع أنها أصبحت ظاهرة لا يمكن انكارها بالطبطبه، إلا أنها ضخمت في الاعلام الخارجي وعند البعض بما يغاير الواقع. وحين لم ينفع قَسَم الفلسطينيين الأردنيين بأنهم لا ينظرون الا لتحرير فلسطين ولا يقبلون حتى قارة دولة بديلة عن فلسطين، اتجهوا للنأي بالنفس وعن الشأن العام وممارسات الحكومات الهدامة للدولة واكتفوا بالتعاطف مع الأحداث الفلسطينية والقضية في فلسطين والخارج. وتسبب هذا الانعزال في أفدح الضرر بمصالح الاردنيين السياسية الحقيقة وإضعاف موقفهم وتردي حالتهم واهمال الدولة لهم وخلا الجو لتمرير المشاريع الاستعمارية الاقتصادية والسياسية.
فالأردنيون وحدهم في مدنهم وقراهم وفي جهويتهم وعشائريتهم وربط هويتهم السياسية بالملك لا يشكلون ثقلا كافيا للتأثير في القرارات غير المواتية ولا لإسعاف انفسهم. فعمان هي مركز الحدث ومركز الثقل والتأثير. وإلى حد ما المدن التي اصبحت فيها العشائر جيوبا لا أكثر. وليس أمام كل من قال أنا أردني أن يتغيروا ويعيشوا الواقع كمنتوج للتطورات الطبيعية حتى يبقو ويتقدموا ويبنوا لأنفسهم واحفادهم دولة وحياة كريمة راقية وأمنه في وطن حر. هناك في الأردن تغييرات تاريخية وطبيعية وسكانية وثقافية ومفاهيمية وسياسية واقتصادية متصاعده ومتنامية لا متراجعه، وأردن عام 1921 ليس نفسه عام 2018. وهذه التغييرات عندما تفرض نفسها فإنما تفرض علينا التغيير أو الفشل.
وعلى كل عربي أن يدرك بأن الفلسطينيين كونهم الشريحة العربية الوحيدة التي لم تتشكل دولة لهم في طبخة الحرب العلمية الأولى، فإنهم منطقيا لا يفهموا الإقليمية بل يفهموا الدفاع عن النفس. وإن فهموها لا يقبلوها لأنها ليست في صالحهم ولا في قاموسهم، وحيث أنهم لا يستوعبونها فقد اسموها مجازا “عنصرية ” وحاشا لله أن يتشكل هذا المضمون في عقل وقلب اردني أو فلسطيني ضد كائن من كان وليس فقط ضد بعضهم، ولا في عقل المفهوم العلمي للكلمة، فهناك تجانس عرقي وديني ولغوي وثقافي واجتماعي وهناك وطن واحد وتاريخ ومصير واحد وهناك روابط دم ومصالح.ولا يمكن القول بغير أن التأخي بين المكونين قد استُهدف وما زال الاستهداف قائما من سياسة خارجية ومن مستفيدين ومكلفين في الداخل من اصحاب الاجندات والضمير الميت مِن أية شريحة سكانية.
فشلت الدولة في مواجهة هذا الاستهداف للعلاقة الاردنية الفلسطينية الشعبية. وهذا الفشل هو بالتأكيد ليس من مصلحة الملك وتعظيم مُلكه واستقرار حكمه ولا هومن تخطيطه. فهو بالتأكيد لا يريده، بصرف النظر عن اضطراره في فترة سابقه شعر فيها بتهديد لحكمه لجأ فيها للإعتماد على طرف مما عمق الإقليمية. والواقع أن الفشل يعود لمخطط أجنبي صهيوني محكم، ثم استخدمت له جهات دولية ومحلية لصنع ثقافة التفرقه والاستعداء البيني. أما فشل الدولة فيتجلى بعدم استطاعتها اقران خطابها بعملها على الأرض. وبعدم نزعها لأسباب نشوء وترسيخ النظرة التفريقية والفتنه النائمه والتي يُعَبر عنها بوسائل مختلفة وفي مناسبات مختلفة. واليوم في هذه الظروف تقع المسئولية على الشعب وحده وعلى وعي وحكمة ووطنية كل من يسمي نفسه فلسطيني أو أردني.
السؤال الذي ينتظرنا كأردنيين وفلسطينيين قاتل ومن الكبائر إذا لم نكن متحدين ومتضامنين بقلوب خالصة وعقول واعية في هذه الظروف المحلية والدولية. المشروع الصهيوني يستهدف الجميع والهجمة الخليجية تستهدف كِلينا، والتفرقه بيننا تستهدف فلسطين والأردن. مطلوب منا أن نكون في الأردن أمة واحده ونسقط كل الهويات ووسالها المتعارضة مع وحدتنا وعلى اي مستوى شعبي حتى الرياضية كي لا تنقلب على الجميع. لقد اختصر الشيطان اسمه في الأردن بعبارة “فلسطيني اردني” وإن كنا مع انفسنا سنكون مع الله والعكس صحيح. وكل من يلعب على وتر الإقليمية أو ينقاد اليه خائن لنفسه ولأهله وللوطن وخادم للصهيونية. هذا هو الوقت للتأخي والتحالف العربي العربي والمسيحي الاسلامي داخل الأردن.
إن الحراك الأخير لم يُطح بحكومة الملقي بل أطاح بسياسة تمرير المرحلة، واستبدلوها بالأنكى، لكن الجديد الأهم والأعمق هو دخول واشتراك المكون الفلسطيني في الحراك، فقد كان حاسما ومرعبا للمتآمرين والمتحكمين بمسار الدولة. ودفَعَهم لتعزيز وتعديل مسارهم التآمري وإعادة التموضع والاستعجال بالتمهيد والتهيئة الثقافية للمرحلة القادمة من خلال ما نقراه في فلسفة الرزاز وفي تشكيلة حكومته المعززة لنفس النهج ولتهزيء الدولة وشعبها ومنصبها العام، وإن استبعاد أي من رموز حَمَلة القيم الوطنية والأخلاقية والدينية والثقافة المحلية ليس صدفة.
ومن هنا تأتي خطورة حكومة الرزاز. وأصبح من الصعب عزله عن عنوان سيرته الذاتية كربيب ومخطط في النظام الدولي الغربي السياسي- الاقتصادي المجرم بحق الشعوب المستهدفة. ويبدو أن الولاية التي جاء بها هي ولاية دولية مباشرة. وبعض الدلائل تؤشر على ان هامش تدخل الملك شخصيا في تشكيل الحكومة وولايتها محدود وإجرائي.
لا أولوية اليوم تتقدم اليوم على أولوية تعزيز اللحمة الوطنية والجبهة الداخلية وتشاركيتها، فالأردن بشعبه وقيادته في أزمة ومقبل على تحد بعمق تصفية القضية الفلسطينية، وسيطفو معه المضمون السياسي ويغرق الشكل الاقتصادي. ونحن كشعب واحد ليس لنا إلا الإعتماد على انفسنا، ولا يمكن لفلسطيني أن يعزل الهجمة على الاردن عن نفسه وعن القضية الفلسطينية. إنها مؤامرة واحدة وشأن واحد.
ولمليكنا نقول، هناك مؤشرات لدى الشعب على ان ارادتك السياسية تواجه صعوبة وتحديا في القرار، بينما الفرصه للإنتفاض والتغيير بجوانبها الدولية والاقليمية والمحليه لم تكن متاحه أمامك ولك كما هي اليوم. تقدم وانقلب على أعدائك وأعدائنا وتخلص من عملائهم وكل مراكز القوة في عمان. الأردن كله معك فكن مع كل الأردن واجعل من الشعب رهانك.
كاتب وباحث عربي