مفتاح لطريق مسدود.. لماذا لا تمتلك ديكتاتورية النظام إرادتها؟ ولماذا الملكية الدستورية هي الخيار السياسي السلمي الوحيد للأردنيين

دأب الاردنيون على المطالبة بالأصلاح الحقيقي، بينما الدولة لا تستطيع عليه لعدم توفر شروطه في النظام نفسه. فكان التوجه للفساد واقتناص الفرص وضربات “المقفي). مما يفرض على الجميع التعامل مع هذه الشروط أولاً. فالإصلاح الحقيقي في الاردن مرتبط تحقيقه بعاملين خاصين بالحالة الأردنية موضوعياً، شكلهما موجود في كل الدول الديكتاتوريات الطبيعة، أما مضمونهما فلا. وهذان العاملان اللذان لا يتعايشان مع الاصلاح بل مع الهدم، على عامة الشعب أن يكون واعيا عليهما وعلى خصوصيتهما والتعامل معهما ومعالجتهما.
العامل الأول \ الطبيعة غير العادية لدكتاتورية نظامنا. فهي تتجاوز فهمنا بأنه مجرد نظام لا يفهم الاصلاح إلا كإجراءات لتعزيز الديكتاتورية، إلى ضرورة فهمنا بأنه ذات طبيعة غير حره، كان له شريك، وتطور الأمر ليصبح ليس له شأن بالإصلاح وغيره. فنحن على سبيل المثال عندما نطالب في ظل مثل هذه الديكتاتورية بقوانين انتخاب عصريه ومجالس نواب حره، وقوانين أحزاب حقيقية وقادره على أن تحشد جمهورا وتحقيق فكرتها والوصول للحكم، وإلى تعديلات دستورية وتفعيل بعض المواد التي ولدت وولد معها الانقلاب عليها بالممارسة كالمادة الأولى التي تقول بأن النظام نيابي ملكي، فإنما نكون في مواجهة ضغط أو إقناع ليس مع النظام وحده، بل مع من هو أبعد من ذلك.
العامل الثاني، هو طبيعة النهج السياسي الفريدة للنظام وارتباطاته. فهذه الطبيعة ليست مرتبطة بالأنظمة الديكتاتورية تاريخيا. بل مرتبطة بالدول المستعمرة. ومع ذلك فإن النهج في الحالة الأردنية مرتبط بتاريخ وفلسفة انشاء الدولة في بداية عشرينيات القرن الماضي. فكل ما تشكو منه الدولة الاردنية ويشكو منه الشعب من اختلالات سياسية واقتصادية ومالية واداريه واجتماعيه وفقدان القرار الوطني ومفهوم المواطنة والهوية الوطنية هو نتيجة مباشره لسياسات داخليه ما كان لها أن تكون مرتبطة بالضرورة بنهج الطبيعة الدكتاتورية. بل بالنهج السياسي المرتبط بالدور الوظيفي لديكتاتوريتنا غير الطبيعية، الذي فُرِض على القيادة. وهذا ينقلنا الأن الى طبيعة وخصوصية الدكتاتورية الأردنية.
فعندما تكون السياسة الداخلية في نظام دكتاتوري كالأردن في خدمة السياسة الخارجية غير الوطنية ومرتبطة بسياسة تعاون مع العدو ومطامعه، فالدولة عندها تصبح هلامية الشكل والمضمون، والنظام الدكتاتوري فيها يدخل في خانة ” الدكتاتوريات غير الوطنية ” التي لا تحتمل ولا تسمح بهامش إصلاحي مهما صغر، وإن سمحت، فلا تسمح لها الجهة الراعية للسلطة (كحالة استعمارية ). بينما الدكتاتوريات الوطنية قرارها بيدها وقادره على أن تسمح بهامش للإصلاحات الداخلية التي تعزز المكانة الدكتاتورية والدولة معا، وقد تصنع أدوات الردع الوطني وتحقق للوطن الحماية وللشعب الكرامة الوطنية. إلا أنها في النهاية لا تقوى على الارتقاء بالدولة وشعبها وقد تنهار ما لم تتفكك هذه الدكتاتورية وتتحول نحو الديمقراطية باحتياطات مسبقة تكفل نجاحها وليس استبدالها بمثلها. ويصبح المجال عندها مفتوحا على الاصلاح الذي يُكَرس كله للدولة وشعبها دون محددات الدكتاتور الذي تحل محله الارادة الشعبية ومخزونها الفكري والسياسي الجمعي.
ففي الحالة الطبيعية، يكون النهج الدكتاتوري خياررً للدكتاتور، بينما في الحالة الأردنية فإن الدكتاتورية ضرورة للدكتاتور اقتضاها النهج السياسي والدور الوظيفي. فمشكلتنا الأساسية هي في النهج السياسي الوظيفي المحمي الذي أعطى ديكتاتوريتنا خصوصيتها كدكتاتورية غير وطنية.
وعليه فإن الإصلاح في الأردن لا يكون الا بتحويل أو بتغيير الطبيعة الدكتاتورية الخاصة بالنظام أولاً الى طبيعة ديمقراطية تسمح بادئ ذي بدء بتغيير النهج السياسي وتحالفاته المعادية التي تقوم على حماية النظام وتعزيزه لسلامة الدور الوظيفي الخاص بالمشروع الصهيوني المتكامل في فلسطين والأردن انطلاقا للمنطقة. وهذا التغيير المطلوب في الأردن نحو الحالة الديمقراطية هو الذي إن تم سيعني “التحرر ” وسيصنع البيئة التي تتعايش مع الاصلاح القائم على التغيير الذي يؤدي لنجاة الدولة وشعبها بالتخلص من دور الطعم الذي يُبتلع لابتلاع فلسطين معه، وعندها فقط تتهيأ الفرصة لتعزيز وجود هذه الدولة وتنميتها ومنعتها..
الأن كيف يكون التحول الديمقراطي هذا في نظام ملكي نريد الحفاظ عليه بمكونينا الرئيسيين؟ هذا لا يكون إطلاقا في هذه الملكة وغيرها من الممالك إلا بالملكية الدستورية التي أرست قاعدتها المادة الأولى من الدستور وما زالت موجودة.. فنحن أمام مطلب تغيير نظام ملكي شمولي ذي نهج سياسي مرتبط وغير حر، الى نظام ملكي ذي نهج ديمقراطي لا سبيل إليه سوى بمفهوم بالملكية الدستورية. إنها الخيار الذي يحقق للملك المُلك وللأردنيين هويتهم السياسية الوطنية والمواطنية وامتلاكهم السلطة والقرار السياسي لمواجهة المشروع الصهيوني التكاملي في الأردن وفلسطين. فهذا ما أراه خطابنا ومشروعنا السياسي
ما هي العقبات أمام الملكية الدستورية في الأردن وسبل إزالتها، أو توضيحها؟. وأرجو التأكيد هنا بأن طرحي في هذه المسألة ليس بمثابة طرح حاسم ولا مكتمل، وأن خيار تطبيقها لا يمكن أن يكون إلا مدروسا وحاصلا على توافق اردني شعبي بكل مكوناته السكانية. فالمسألة لم تأخذ حقها في البحث والتشاور والدراسة، وما طرحي إلا وجهة نظر تحريكيه تهدف إلى استنهاض جلسات عصف فكري وحوارات لبلورة تصور أمثل. ليكون خطابنا السياسي بالمناداة بالملكية الدستورية مبرِّراً الشعب وتوافقيا بين مكوناته.
. واقول ابتداءً، من المُسَلَّمات أن بريطانيا وأمريكا والكيان الصهيوني يقاومون الملكية الدستورية في الاردن بشكل خاص ومنفصل عن مقاومتهم ومقاومة انظمة عربية كالسعودية لعدوى الديمقراطية. يقاومونها لأن تصفية القضية الفلسطينية وطوي ملفها كهدف لهم، لا يتم في المحصلة إلا من خلال التوطين والوطن البديل، وإن مفهومهم للتوطين والوطن البديل وتحقيقه يقوم على ممارسة الشعب الفلسطيني حقه في تقرير المصير في الأردن بصفتها جزء من فلسطين، وهو ما نسميه بالوطن البديل بينما يسمونه الوطن الأصيل. إلا أنهم لا يستطيعون تحقيق هدفهم هذا في الأردن عندما يكون دولة ديمقراطية يمتلك فيها الشعب القرار السياسي وفيها المكون الفلسطيني بالطبع عصيا عليهم. ونحن كأردنيين بكل مكوناتنا إن كنا متمسكين بالنظام الملكي وإدامته والحفاظ عليه، فإن الطريقة الوحيدة هي دمقرطة المملكة الذي لا يكون إلا بالملكية الدستورية.
وأستطيع تلخيص العقبات أمام الملكية الدستورية في بلدنا باثنتين،
الأولى، أن هناك شريحتين من الأردنيين إحداهما شعبية تتحفظ على الملكية الدستورية لأسباب كما سمعتها تتعلق بتخوف البعض من أن المكون الفلسطيني سيشكل في النظام الديمقراطي من خلال صناديق الاقتراع أغلبية تنتقص من الحقوق السياسية للمكون الشرق أردني كمكون تاريخي في ارتباطه بالأرض، ويكرس انعزال المكون الفلسطيني عن فلسطين والقضية.
أما الشريحة الثانية فإنها ترفض الملكية الدستورية، وتتمثل برموز المستفيدين في الدولة من الفساد المالي والإداري والسياسي من أعوان وأدوات صمود الدكتاتورية. وذلك حفاظا على مصالحها ومكتسباتها وهروبا من المسئولية والمحاسبة. ولا تطرح هذه الشريحة سببا وطنياً أو عفلانيا لرفضها. ولست ولا غيري معنيا بها فهذا شيء وجوده طبيعي سياسياً وطبقياً في طبيعة نظامنا، التي نسعى لتغييرها، فنحن معنيين بالحذر من تلك الشريحة ومقاومتها كقوة شد عكسي.
بالنسبة للشريحة الشعبية الأولى، فإن قلقها له ما يبرره وطنيا وعلى صعيد القضية، إلا أنه اعتقاد افتراضي مسبق وتحوطي. ورغم أن المكون الفلسطيني هو مكون من مواطنين أردنيين بالقانون لا يصح ولا يمكن تجاهله ولا تجاهل صفته هذه، بل إني لم أسمع أو أعرف من يتجاهله بعد فك الإرتباط والرقم الوطني. إلا أنه مكون ليس من مصلحته ولا يتطلع الى تذويب هويته السياسية الوطنية الفلسطينية، ولا الى ممارسة حقوقه السياسية “الجماعية ” (ليس كأفراد مواطنين اردنيين لهم الحقوق الدستورية كاملة) في أي بقعة غير فلسطين. ولا أرى هذا المكون يتمنع عن التضحية ببعض الحقوق السياسية التمثيلية في الأردن لصالح تكريس الهوية الوطنية الفلسطينية والقضية وتعزيزها على الصعيد الدولي وصعيد المتربصين باستغلال ذلك على غير محمله. فمسألة الهوية والوطن والقضية لدى الشعب الفلسطيني مسألة خطيرة وليس من أولية عليها. ولا يجرؤ فلسطيني مهما كان لبوسه السياسي أن يخترقها. ولعلنا شاهدنا تمنع عباس عن ورشة البحرين التوطينية، وتفهم أمريكا لذلك.
وأبقى مع هاجس الشريحة الشعبية الذي لا بد من معالجته، وأقول، رغم أن أسبابها لا ترتقى ولا تصمد أمام هول تمرير المشروع الصهيوني على ظهر غياب الديمقراطية في الاردن، والذي يُفقد الاردنيين حضورهم وقرارهم السياسي، فإن هناك من الترتيبات التي يمكن الاتفاق عليها لتحقق التوازن المطلوب وإزالة هواجس المكونين وكل الاختلالات القائمة والمتوقعة. وذلك من خلال تفاهمات وأليات قانونية لا تمس حقوق المواطنة. ومنها على سبيل المثال والأهمية قانون انتخاب مدروس لغرفتي البرلمان الاردني، مع ترتيبات أخرى محدودة في الحكومة المنبثقة عن الأحزاب في البرلمان. على أن لا يفهم من مقصد في كل ذلك سوى الحفاظ على الهوية السياسية الوطنية الفلسطينية الجماعية، وحضورها الدائم على الصعيد الدولي. وبحيث تكون هذه الترتيبات نتيجة حوار مقنع بين المكونين إنقاذا للقضية الفلسطينية من التصفية، وللأردن من المشروع الصهيوني الذي إن نجح فلن تكون هناك حقوق وطنية ولا سيادة وطنية لأي اردني، ولا حياة آمنة ولا حظوة لأي من المكونين.
ومع ذلك أتساءل قائلا، لو افترضنا هواجس تلك الشريحة الشعبية واقعية على سبيل النقاش، وبأن المكون الفلسطيني سيأخذ بأغلبيته حصة الأسد، فهل يقبل الاردنيون أن يكون البديل الوحيد مقابل هذا التخوف هو التضحية بالديمقراطية التي لا تكون في حالتنا الا بالملكية الدستورية، والتي وحدها تحافظ على حرية وسلامة وطنهم الاردني ووجودهم وحقوقهم وكرامتهم الوطنية الاردنية، ووحدها التي تعزل القرار الصهيوني وتفشل فكرة التوطين والوطن البديل وضياع فلسطين، ووحدها التي تؤمن الاستقرار للملِك ومُلْكِه؟ أين الحكمة والرؤية السياسية والوطنية من ذلك؟ أم أننا ما زلنا نعتقد بأن الأردن ليس جزءا أصيلا من المشروع الصهيوني دولة وشعبا؟
قليل من التاريخ والسياسة ومن ما يجري، كاف للتأكد بأن المشروع الصهيوني في فلسطين ولد مرتبطا وجودا ونجاحا بالأردن. فهو مشروع واحد في القطرين لا يمكن أن يتجزأ. وإن إفشاله في الأردن يعني افشاله في فلسطين، وإفشاله في فلسطين يعني إفشاله في الأردن، فالقضية واحده أخذت اسم الفلسطينية لأنها ابتدأت هناك وطمست الأردنية كي تصلنا بسلاسة وهي اليوم قد وصلتنا. إنها القضية الفلسطينية الأردنيه.
أما العقبة الثانية، فتتمثل في غياب الإرادة عن الملك لاسيما في الظرف الحالي. وهو غياب لا تكون نتيجته إلا لحساب القائمين على المشروع الصهيوني. فبدون الملك لا ملكية دستورية، ولا نظام أخر ديمقراطي، ولا سنغافوره ولا بيئة أمنة. بل دماء وفوضى واستكمال للمشروع الصهيوني في الأردن ليُطبِق على مشروعه في فلسطين، كمنطلق جديد للمشروع في المنطقة. ومن المفترض بالملك إن كان راغبا بالمُلك ومتمسكا به، كمَلك مصان من كل مسئولية وتبعية، ومقتنعا بضرورة نجاة القطرين والشعبين من المشروع الصهيوني، أن يقتنع بأنه قادر على ذلك بشعبه وسلطة شعبه الدستورية.
وسيكون هذا الشعب عندها مستعدا بنداء صحوة بسيط من الملك، أن يخرج كله أمام العالم، مساندا وحاميا للملك ومضحيا ومتحديا أمريكا ومشروعها الصهيوني. وبخلاف ذلك، وحيث أن الأمل ضعيف في هذا، فلا مندوحة عندها من تحرك سياسي نخبوي موحد لاستنهاض هذا الشعب في الضفتين لمواجهة مع المشروع الصهيوني والطغيان الأمريكي وأدواته في عمان ورام الله. وفي كلا الحالتين لن يصنع الفرق الحاسم سوى المقاومة ضد سلطة الاحتلال تناقضنا الأساسي ـ والتي يجب أن تكون قائمة (وأعني المقاومة) في كل الحالات، وعلى قاعدة لا محظورات سياسية أو أيدولوجية إطلاقا أمام إسنادها وتعزيزها