هامش المناورة أمام ايران يَضْيَقُّ بسوء إدارة الأزمة وبفشلها بإيصال رسالة ردعية لإسرائيل.. إخراج أمريكا من المنطقة مرتبط بشروط موضوعية.. والتدخل السافر في بلادنا لا يخضع للقانون الدولي.. لماذا وما العمل؟

الوطن العربي متكاملٌ بالإستهداف، ودول الطوق وجاراتها مُتَمِمَة لبعضها بالإخضاع، والتدخلات الدولية في منطقتنا لم تعد تخضع لقواعد القانون الدولي بل لمصالح الأقوياء، ومن يُغيِّر هذه الحقيقة هو شعب ما زال يتلمس طريقه أمام نواطير إمَّعات يسكنون بسطار الأجنبي ويضربون بسيفه، وعندما نتكلم عن أيران وتركيا إنما نتكلم عن دول منا ولنا ونقدُنا او انتقادُنا هو لأنظمتهما لا لشعوبها، فلدينا نحن العرب انظمة هاماتها لا تُطاول حذاء أي من النظامين، فالعبيد لا يسمعون إلا من أسيادهم، لكن شعبنا العربي الممتد هو عنوان كرامة في التاريخ والسيف والقلم، يكبو وينهض ولا يموت ما لم تمت الحياة على الأرض فهو مُكرَّم برسالة من الله، وخروج العسكري الأجنبي من اراضي العرب وحده طلقة حلول العيد بتحرر العرب..
مسألة خروج امريكا وإيران من العراق ما زالت تعود الى أمريكا وايران، فنواطير العراق لهم خصوصية ازدواجية العمالة، والدولتان لهما التأثير بحُكْمِه وحُكّامه وسياستِه، وتفهمان حاجات بعضهما فيه ودوافعها. وليس منهما من يضع هدف إخراج الأخر من العراق في الظرف الراهن. وخصوصية الصراع بينهما هي أن ايران لا تريد أمريكا عقبة أمام مشروعها، وأمريكا تريد ايران موجودة وصديقة وقوية بالمنطقة، فالمسألة ليست معقدة وستُحل بالمحصلة، ونحن خارج أي لعبة وأي حل، لأننا في كبوتنا غير موجودين.
أمريكا لا تتطلع للخروج العسكري من العراق. فاحتمالية خروجها من مناطق في العالم في سياق رؤية ترامب بتقليص التكاليف لا ينطبق على منطقتنا استراتيجيا لارتباط ذلك بأهداف حيوية لها وأهَمُّ لإسرائيل، ولكن إذا كان لخروجها من العراق حسابات أخرى وبديل بدرجة الأصيل يقيها لعبة قد تكون مكلفة أو مزعجة فستلجأ اليه، وهذا موجود لها في الأردن. وما طريقة استجابتها المشروطة للطلب العراقي بدفع كلفة قواعدها إلّا من قبيل ابتزاز حكام العراق بأرصدتهم. فهي ليست آبهة بالتعاطي مع الطلب العراقي ولا مع تهديد ايران غير المستند لشيء ملموس وغير المتزامن مع ضغوطات عسكرية إيرانية إيرانية، مما يجعلنا أمام مناقشة نوايا الطرفين وحدود قدرتهما وفعلهما. لعل في هذا ما يحفز العرب أو شعب العرب والعراقيين بالأخص للنظر لأنفسهم مما يجري. فوطننا أحق وقضيتنا هدف الأهداف.
فأي خروج من العراق لا يكون إلا في سياق إعادة التموضع للأفضل أو في ضوء احتمالية استخدام ايران لميليشياتها العراقية ورغبة أمريكا في تحاشي حرب استنزاف تُستخدم فيها هذه الميليشيات، وإذا حصل خروجها في هذا السياق لمكان أخر فهو إلى الأردن الأكثر أمناً لتحقيق الأهداف. وبحيث يُشكِل المكان الجديد مع كردستان والقاعدة الأمريكية فيها كامِرة كمّاشة تغطي الحدود العراقية السورية لمنع التواصل الايراني البري مع سوريا وحزب الله.
أما رفع أيران لشعار إخراج أمريكا من العراق فجاء في إطارين تكتيكين، الأول، هو الانتفاضة الشعبية العراقية عندما طالبت باخراج ايران من العراق وركبت موجتها أمريكا وتطور الأمر الى نطحات ايرانية تحذيرية في العراق قابلها امريكية ثقيلة.. والثاني فيتمثل باستبدالها الرد المكافئ لمستوى التهديدات لاغتيال سليماني والذي كان سيقود لحرب مواجهة مفتوحة بالخطأ لا يريدها الطرفان، اقول استبداله بهدف تكتيكي شعبوي يبدو للوهلة الأولى بأنه استراتيجي تمثل باخراج امريكا من المنطقة، فلو كانت النية معقودة على هذا الهدف الخالي من شروطه لجاء في حالة معزولة عن الإنتقام وعن الأحداث المشار اليها، وضمن سياسة جديدة لها في العراق وفي المنطقة وفي وقت تكون فيه قادرة على الإسهام به وكان آمناً لها.
فقدرة ايران على اخراج أمريكا من العراق مرتبطة بتوفر أسباب موضوعية ليست بيد إيران وهي تعلم ذلك. وتعلم بأن العراق ليس أرضاً إيرانية لتتبنى مسألة طلب اخراج دولة أخرى منها. ثم إن العراق الذي منه وحده يأتي الطلب القانوني بخروج أمريكا، قرارُه بيد وجوه سياسية رسمية ارتباطاتها ليست وطنية ولا قومية مما يجعل من الطلب زائفاً ومجرد امتصاص ضغط الشارع المنتفض. وتعلم أن هناك تياراً سياسياً من العراقيين يرى في الوجود الأمريكي ضابطاً على الاستفراد الإيراني والعكس صحيح عند أخر، فهَمُّ حكام العراق هو استقرار وأمن بيئة الفساد والنهب. وهناك فاسدون وأعوان لكلا الطرفين.
أما في حالة القرار الأمريكي بعدم الخروج، فإن المقاومة الشعبية أو حرب العصابات ضدها بالتأكيد قادرة على إخراجها وإخراج غيرها مثلا، ولكن على أن تكون هذه المقاومة حرة ووطنية وصاحبةَ قرارِ نفسِها. وحيث أن التأثير الإيراني المباشر بمفاصل العراق كبير ومستحكِم، وأن المليشيات العراقية وأحزابها المسلحة هي ايرانية القرار والسلاح، وهي المزمع استخدامها أو التهديد بها (باستثناء جماعة الصدر ربما)، وأن أمريكا تعلم ذلك وتعلم إن تمت فعلاً مهاجمتها، بأنها ستكون حينها في مواجهة حرب ايرانية ساخنة بالوكالة وعليها مواجهتة. وحيث أن هذا من المحذورات للطرفين وخاصة لإيران، فسيصار إلى إعادة التفاهم الأمريكي الإيراني في وضع غير مريح لإيران..
وبهذا، قيل بأن الاقتصاد عصب الحياة وهذا صحيح، فأمريكا دولة هي الأعظم عسكريا والأعظم تأثيرا اقتصادياً على الأخرين والأقل خُلُقأ انسانيا. وغيرها من الدول تحصل على امنها الوطني والاقتصادي وعلى مصالحها وسلامة اراضيها بوسيلة الردع التي حُرم منها العرب. وما أود قوله أن الدول الأوروبية تقايض بالمبادئ والأخلاق رخاءَها الإقتصادي ومصالحها، وهذا من وجوه السياسة ولزومياتها ودنسها ومما جعل المسلمين عبر التاريخ أن لا يتخذوا من مكة أو القدس عاصمة لهم وهم في عز قوتهم. لكن الدولة التي تَمنع أمريكا وغير أمريكا من احتلال شبر من أرضها بسلاح الردع وحرية القرار، تعوضُها الدول الضعيفة المكشوفة بوسيلة التحرير التي لا تقاوم وهي المقاومة التي جُعلت أيضاً عندنا بين مفقودة ومأزومة..
ومن هنا فإن الدول الأوروبية قد تتراجع عن حياديتها أو دعمها للموقف الايراني من الملف النووي. بل بدأت تتراجع بفعل عاملين أمريكي وايراني. الأمريكي بالضغوطات الاقتصادية الأمريكية والتهديد بها.أما الايراني فبفعل فشل ايران بموقف حازم ازاء امريكا يساعد تلك الدول بالوقوف لجانبها. بل كشفت بالمقابل عن ضعف وقصور سياسي في ادارة الأزمة عندما لم تتمكن من استغلال اغتيال سليماني استغلالاً سياسيا استراتيجيا كان متاحا لها وكانت أمريكا جاهزا للمقايضة. وفشلت وهو الأهم في ايصال رسالة ردعية بتهديد اسرائيل وهو أكبر رادع لأمريكا والاحتلال ولأوروبا تمتلكه إيران من خلال حزب الله، ولربما لو تركت أو شاركت (نصر الله )بإدارة الأزمة لكان انجع بكثير ولكانت النتائج مختلفة،. ثم أخطأت عندما تراجعت عن التزامها بجزئيات من الاتفاق النووي وأعطت للأوروبيين ذريعة تنتظرها لادانة ايران والاصطفاف مع امريكا. فايران اليوم تعاني من الضغوطات من كل الجهات، ونحن اليوم أمام عملية سياسية تنال من المشروع النووي الايراني ومن الموقع المتقدم التي كانت تقف فيه ايران.
وفي الختام،إن ما يقلب المعادلة الجاثمة على العراق هو الشعب العراقي الذي أثبت بمواصلته لانتفاضته الأخيرة قناعته بوصوله الى نقطة الحقيقة وأن لا حياة كريمة له ولا حرية لوطنه إلا بالتحرر من هيمنة القوتين ووكلائهم معاً، وهذه مهمة مكلفة وصعبة ولكنها ليست مستحيلة. وإن ما يقلب المعادلة الجاثمة على الاقطار العربية واستباحتها وعلى الاحتلال الصهيوني هو إدراك شعوب دول الطوق على الواقع بأنها مستعمرة وليست فلسطين وحدها مستعمرة أو محتلة،وأنها تعيش الحالة الاستعمارية ولا تنطبق عليها ولا تُطبق فيها قواعد القانون الدولي للدول الحرة. وعضويتها في الأمم المتحدة مزيفة ولا يُطبق ميثاقها عليها. وليس لنا إلا النهضة وتحرير أقطارنا من حكم العدو أولاً، والباقي يصبح متاحا.