هزيمتنا الحقيقية كانت في معركة الوعي عندما صدّقنا كشعب عربي بأن فلسطين تخص الفلسطينيين ولا تخصنا.. فحَرفنا اتجاه بوصلتنا نحو الجحيم الذي نعيشه الآن.. رفع شعار “فلسطين أولا” وحده الذي يعيدنا للسكة ومواجهة الحالة القطرية والقومية

العنوان يذهب بنا مباشرة الى أهمية وحساسية العلاقة ما بين الفكر والفكرة وبين طريقة التفكير. وهذا ينسحب على الهدف وطريقة تحقيقه. فطريقة التفكير حاسمة. فإذا كانت صحيحة تحققت الفكرة وتحقق الهدف وسلامة الوصول. وإن كانت خاطئة دمرنا الفكرة وعمّقنا فشل الهدف وأسهمنا بصنع ضده. نحن العربَ أمة أكرمنا الله بكتابه الكريم بعربية لغته، وبحمل الرسالة، في ظرف كنا فيه نعيش الجاهلية من بعد أن كنا أصحاب أول وأعظم الحضارات وجعلنا من منطقتنا منارة العالم. فأعدنا التاريخ بحمل الرسالة، ثم عدنا لِأحط من الجاهلية بكثير. فاليوم حالتنا أصبح الحديث بها من مبتذل القول. إنها البوصلة، ووجهتها بيت الداء والدواء.
الحاجة والهدف والفكرة وطريقة التفكير حلقات لسلسة واحدة في مواجهة الحيثية الأساسية التي تهاجمنا وتفتك اليوم بنا. ونجح أصحابها الأعداء لتاريخه الى القدر الذي عليه الحالة العربية الآن، وبقدر بناء الأساس لسيرورة لنا نحو المستقر أو ال Destination التي يريدونها لنا. أحدد الحيثية الأساسية كما أراها بقناعة لا تتزعزع. أبطالها الغرب + الصهيونية التي كيانها في المنطقة “اسرائيل”. أما طبيعتها فأحددها بنظرة بطليها لنا كعرب وبالغاية النهائية التي يريدها لنا كل منهما، أي المستقر أو الDestination. فهذا المستقر مختلف عندهما في طبيعته، والاختلاف هذا هو الذي يحدد تناقضنا الأساسي ووجهة بوصلتنا، والذي يجعلنا نقبل التعاون مع أي جهة بالعالم تتقاطع مصالحنا معها في أية جزئية معادية لهذا التناقض الأساسي، ويجعلنا نسعى لحوار ولهدنة مع ما دونه من أعداء.
نستطيع تحديد أيهما من العدوين هو تناقضنا الأساسي من واقع طبيعة الاختلاف بينهما في المصير المطلوب لنا، ومن ثم تحديد وجهة بوصلتنا بالدقة لا بالعمومية. فما يريده الغرب بزعامة أمريكا من استهدافهم لنا كعرب هو استعمارنا والاستحواذ على مقدراتنا وعدم السماح لنا بالاستقلال والقرار السيادي والوحدة والنهوض، على أن هذا في سياق امتلاك العرب بالذات لمنطقة فيها خصائص جغرافية وثرواتية حاسمة في تأثيرها، وبأن هذه المقدرات التي يطمعون بها هي من وجهة نظرهم قوة بيد أمة متجانسة ومعادية لهم تاريخياً، إن استغلتها ونهضت وتوحدت فسيتجاوز الخطر حرمانهم منها إلى ملاحقتهم والانتصار عليهم وكبحهم. فهناك أطماع حيوية وهناك خوف على أنفسهم وحاضرهم ومستقبلهم وعلى مشروعهم الاستعماري. وهم في هذا مشدودين بالرعب من تكرار تجارب التاريخ الماضي مع العرب والمسلمين. فالإسلام وعودة الخلافة التي ابتدأت مع الخلفاء الراشدين وانتهت بالعثمانيين تجربة تلاحقهم بالكوابيس في أحلامهم بنومهم وبيقظتهم وللآن. (وفي هذا السياق، إن نمت وترسخت السياسة الأردوغانية نحو فكرة الخلافة فستكون حرب الغرب الكبرى والاستباقية على تركيا).
أما الصهيونية فصراعها ضدنا يتعدى الاستعمار والإخضاع والأطماع إلى الاحتلال الإحلالي لفلسطين والأردن كقاعدة انطلاق للمنطقة ومنها للسيطرة العالمية. إنها تعلم بأن فكرة الاحتلال لا تنجح ولا تستقيم دون استهداف الهوية الوطنية والسياسية للشعب المحتلة أرضه، واستهداف وجوده فيها. فالمشروع الاحتلالي الصهيوني يستهدف وجودنا أولا كفلسطينيين وأردنيين وبالضرورة كل العرب بالتبعية، لحماية الاحتلال من مُطالِب. فالصهيونية تعتبر وجودنا كعرب نقيضا لوجودها ولمشروعها، وتدعي بحق لها بالأرض وبأن احتلالها تحرير. وهنا علينا أن ندرك بأن مرحلة الرحلة التي يجرنا فيها الفريقان العَدوان باتجاه المستقر المرسوم لنا منهما هي مرحلة تقاطع مصالح استراتيجية، فرَضت بدورها تحالفاً استراتيجياً بينهما ستتغير أسسه عند نقطة النهاية محل الإختلاف، ويكون التفاهم فيها بينهما والشراكة ممكنة، كما يكون فك الارتباط والعداء ممكناً.
وبالمقارنة بين أهداف الفريقين والمحطة الأخيرة التي يريدها لنا كل منهما، نجد الغرب يُنكِر ويرفض حقنا بالحرية والاستقلال وسيطرتنا على مقدراتنا وقرارنا. بينما الصهيونية تنكر حقنا بوطننا وبوجودنا فيه وبحقنا في الحياة. وبدمج هذه المقاربة مع كون أن الإحتلال عامل مشترك بين الفريقين، ولا يستقيم معه ولا يتقبل بالحد الأدنى وجود قطر عربي واحد أو شعب عربي سالم مهما تعاون هذا القطر مع الصهيونية والغرب ومع الاحتلال نفسه ومهما رضخ هذا الشعب، تصبح الصهيونية اليهودية أو المتهودة ممثلة بالإحتلال هي تناقضنا الأساسي كعرب. ويصبح اتجاه بوصلتنا الصحيح في كل نفَس أو عمل سياسي أو عسكري هي فلسطين والاحتلال تحديداً. حيث أن إنهاء الإحتلال لا يعني مجرد اقتلاع الخطر الصهيوني الوجودي من منطقتنا، بل كنس أكبر قاعده عسكرية سياسية استعمارية في التاريخ زرعها الغرب لحسابه في قلب وطننا العربي وقلب عقيدتنا. وهو ما يتيح لنا كشعب عربي الأرضية الأساسية للتعامل مع واقعنا الداخلي للتحرر والنهوض من جديد. وأي انحراف لا تجاه بصولتنا هذا يكون بالضرورة خدمة للإحتلال والعدو ووبالاً على كل قطر عربي وشعبه.
المهم هنا أن المتحكم باتجاه البوصلة هو طبيعة الوعي فيما إذا كان وعياً على الحقيقة أو على زيفها. فعامة الشعب الفلسطيني والعربي يخضعون لحرب تضليل سياسي وفكري وتاريخي سلاحها الإعلام المخفي والمرئي والمسموع والمكتوب والمدسوس، تضطلع به شركات وأجهزة غربية وصهيونية متخصصة بيدها كل وسائل تكنولوجيا العولمة، لتشكيل مفاهيم خاطئة لدى شعبنا العربي تجعل من سلوكه عبئا عليه وعدواً على نفسه وقضيته. وعلى سبيل المثال فالكثيرون من شعبنا اعتقدوا وما زالوا بأن في الصفقة الخلاص والخير لهم دون الإتعاض بما سبقها من معاهدات، وبنوا صمتهم على ذلك. وإذا كانت الأنظمة العربية لها دور أساسي في صنع حالة شعوبنا، فإن الخلل يكمن في طبيعة العلاقة والتواصل ما بين النخب الوطنية السياسية والفكرية والثقافية وبين عامة الشعب. حيث فشلت هذه النخب في توعيته واستقطابه وحشده، وتركته أمام خيارات العدو في الداخل والخارج يسوقه في الاتجاه الخطأ. فنحن لا نستطيع أن نلوم من هو غير واع على سلوكه، ولا من لديه مفهوماً ما أن يعمل ضده. فالمسئولية فيما نحن فيه كشعب تتحملها النخب لحد كبير وهي اليوم في قفص الإدانة وليس الاتهام. وعليها أن تنسلخ عن الأنظمة وترتقي، وأن تسخر الفكرة لخدمة قضيتها وشعبها لا أن تصبح مسخرة لها، وأن تتغير من حيث سلوكها ومصداقيتها وتضحيتها وتجعل من توعية الشعب قضية أساسية لها.
انهزام شعبنا العربي في معركة الوعي هو المسؤول والمسهم الأول في صنع حالته وحالة أقطاره، وعن صنع واستجلاب حكام منفذين لأجندات العدو أو راضخين لها، أو لا مسؤولين. وهذه الهزيمة قامت وتمثلت في تصديق واقتناع المواطن العربي في أقطاره بأن فلسطين وقضيتها تخص صراعاً بين الفلسطينيين والصهيونية، ولا تخصه. وقننت الأنظة العربية هذا في شعار ( القطر أولاً ). وبهذا أقول، ما دامت هذه الكذبة القائمة على الفصل بين الشعوب العربية وبين فلسطين وقضيتها سارية، فلن تكون وعلى وجه اليقين أية نهاية حميدة لعربي في قطره ولا حرية ولا وطن ولا خلاص، ولا وقف للسيرورة المتدهورة لأي قطر عربي، ولا مستقبل غير مستقبل الذل والعبودية والجوع وفقدان الهوية. ولا يمكن بتاتاً أن نتدارك ذلك ما لم ننقلب في عقولنا وضمائرنا على تلك الكذبة الخطيرة، وأن يكون من عندها منطلقنا في عملنا السياسي والتوعوي وفي كل نفَس يخرج من صدورنا وكلمة من أفوهنا تحت شعار” فلسطين أولاً “. به نُكَوِّن رأيا عاما شعبيا يجمعنا داخل أقطارنا. وبه نواجه حكامنا وكل عدو بالحقيقة، وبه نقدم أنفسنا لأصدقائنا ولكل دولة إسلامية أو صديقه. فهو الشعار الذي يجسد أيضاً رأياً عاماً ً قوميا واسلامياً، ويحمي كل عربي وقطر عربي وبه ننتصر ونصنع التغيير. فشعار “قطري أولاً” كان أداة سياسية هدامة وحربا على الإتجاه الصحيح لبوصلتنا، وها نحن أقطاراً وشعوباً نعيش نتائجه الأن، وهي أهدافه الحقيقية التي لم تنته بعد.
وفي السياق أختم بالقول، لن يكون لنا كشعب احترام أو قيمة أو اعتبار أو هوية عند الأمم ولا وطن مصان عندها إلا بانتمائنا وتبعيتنا لأنفسنا وقرارنا المستقل وفيه قضيتنا مرجعيتنا. ولا مشروع لنا يمكن أن يكون أو يسبق مشروع التحرير والاستقلال. ولا يعقل مع الوعي على الحقيقة وخصوصية حالتنا أن يكون لنا أكثر من بوصلة، ولا أن تكون هذه البوصلة باتجاه يخطئ التناقض الأساسي أو يحرفه أو يُضعفه. اصطفافنا الواهم على سبيل المثال ضد ايران لصالح تركيا أو ضد تركيا لصالح ايران يُعبر عن تيهنا وعن تكريس التبعية لغير أنفسنا وعن حرف للبوصلة عن فلسطين، وتأدية خدمة للصهيونية والإحتلال، وفيه استعداء لشعوب إسلامية وفتنة بين دولتين اسلاميتين، وكلاهما أكثر حرصا ورأفة وارتباطاً بنا وبوطننا وبفلسطين من حكامنا الحاليين، وأقل خيانة منهم لأوطاننا. ولكنا نقبل التعامل مع حكامنا الذين هم من مواطنينا، كمحاورين أو مواجهين لهم. ولا نقبل الإستعانة أو الاعتماد على أجنبي ولا الإنتماء إليه ولا التنسيق معه بشأن داخلي فهذ نوع من العمالة.