الشرخ عميق بين أنظمة الحكام العرب وبين شعوبهم وقضاياها الأساسية. كرَّسوا القطرنة وسلخوا ألاقطار عن القضية الفلسطينية وجعلوها دولا فاشلة، واستعبدوا شعوبهم بالوكالة والإستقواء بالأجنبي وأشغلوها ببطونها وبالبحث عن فرصة عمل، يقدمون أنفسهم للعدو لا لشعوبهم. هؤلاء بلا شرعية ورثوها أو استحقوها. إلا أن القيادتان الفلسطينية والأردنية ورثتا شرعية الحكم بالبيعة. فالسلطة الفلسطينية وريثة شرعية ثورة تحرير ومقاومة شعبية، إلا أنها انقلبت على إرثها هذا، ولست بصددها بهذا المقال.
أما عن الشرعية في الأردن، فبعد أن فقدت العائلة الهاشمية مُلكها في الحجاز خرجت تبحث عن مُلك جديد بالبعدين القومي والإسلامي. وبما يخص الأردن فقد بنت شرعيتها على مسارين تختلف أسسهما. واحد بين الإنجليز والأمير تضمن أسس إنشاء الإمارة وأهدافها وشروطها كون الانجليز كانوا واضعين أيديهم على فلسطين والأردن كوحده جغرافية وسكانية تركتها سايكس بيكو لتكون دولة لليهود. والمسار الثاني بين الأمير والأردنيين الذين لم يكونوا على علم بمداولات إنشاء الامارة وشروطها وتفاصيلها بين الأمير والإنجليز الذين بدورهم كانوا يعلمون بأن نجاح إقامة الإمارة مرهون برضاء الأردنيين، ولكنهم يعلمون بنفس الوقت أن الأردنيين قوميون ومسلمون ومحبون لآل البيت، والطيبة من خصالهم.
رحب الأردنيون بمسعى الأمير الهاشمي في إقامة الإمارة على الأسس الوطنية والقومية وعلى أردن مصان شعباً وكرامة ووطناً، ومناهضاً للأطماع الصهيونية في فلسطين والأردن. وهي الأسس التي تختلف عن التي كانت بين الأمير والإنجليز. وقامت الدولة واستقرت ونمت على خلفية موازنة القيادة الهاشمية بين التزاماتها لبريطانيا ووريثتها أمريكا، وبين التزامها مع الأردنيين والأردن كوطن ودوله. وأبدع الملك حسين في هذه الموازنة على نية النجاة بمُلك الأردن بعيداْ عن وعد بلفور. وباستثناء احتكاره للسياسة الخارجية، كان يسعى لمأسسة الدولة من واقع رفضه للإستبداد بالسلطة الداخلية، والوفاء للعقد مع الأردنيين. وحقق الكثير ولم يسعفه الزمن لاستكمال مهمته.
ومن بعده، أَخرَج الملك عبدالله الثاني الشعب وأصحاب الرأي الأخر من المعادله واستبد بالسلطة بالوكالة. عشرون عاما والدولة بمواطنيها تتدحرج للهاوية بمقوَد لئيم بلا كوابح، تتآكل من الداخل وتحتفظ بشكلها الخارجي. إنه النهج السياسي الذي استطاعت أمريكا فرضه على الملك عبدالله الثاني بالنسخة البريطانية الأصلية لإنشاء الإمارة. واستبدَّ هذا النهج السياسي بكل النهوج وأدار قطاعات الدولة ومفاصلها ودمرها بالفساد، ورَهن الدولة بعد بيع مقدراتها، وأفقر شعبها وورط قيادتها وأخضعها للإبتزاز الأمريكي. فبالغ الملك باستبداده وتعامل مع الشعب كقطيع للخدمة والحلب، ومع الدولة كشركة تصفي أصولها برؤساء حكومات عبيد للفساد والمال، رقابهم تنجس أحبال المشانق، والحالي منهم هو الأخطر والمتذاكي، لأن مهمته مرتبطة بأجندة الفساد السياسي بوسيلتي الإدارة والإقتصاد. فالأردن اليوم هو ديكور أمريكي كرتوني وما نراه برأيي أشبه بخداع البصر.
أسأل الملك عبدالله الثاني، هل الشرعية الهاشمية تغيرت أسسها ؟، أم أن الأردنيين لم يعودوا أصحاب وطن ودولة وحقوق وأصبحت تراهم بنظارات صهيونية ؟. لا أعتقد بأن الظروف المتنامية بقسوتها التي يعيشها الأردنيون بلا هدنة تؤهلم لمزيد من التهميش والصبر والرضوخ والصمت عن الفظائع التي ترتكب بحقهم وحق دولتهم ومقدراتها ومستقبلها. إنهم كانوا وما زالوا أوفياء لمؤسسة العرش الهاشمي وخوّافين عليها لا خائفين. العائلة الهاشمية وأنت سيدي سليلها لم تأتنا من الحجاز على ظهر دبابة لتتملك علينا رغماً عنا وتحكمنا على هواها، بل جاءتنا على ظهر جمل وديع جيئة الأخ لإخيه، ومن ارض العرب لأرض العرب، وكان فخرٌ لنا أن نستقبل الهاشميين ونتشارك معهم الهم الوطني الأردني والعربي على خلفية الهجمة الصهيونية الغربية على فلسطين وبلاد العرب. أنت سيدي أخطأت بوصلة الأردنيين وبوصلة أبيك وسلوكه ونظرته للأردن وشعبه.
فهل يعتقد الملك أن الثمن هو حماية مُلكه؟ إن كان كذلك فالتاريخ يبرهن على أن المستعمرين وأخص أمريكا خذلوا كل رئيس دولة تعاون معهم وأعطى لنفسه الأولوية على وطنه وشعبه وقضاياه، لأنهم يقومون بأدوار مرحلية يجب أن ينتهوا أو يُستبدلوا بعدها. أم هل يعتقد الملك أو يُصدق بأن تصفية القضية الفلسطينية ضمانة له لحماية مُلكه بينما النظرية والمنطق والميدان والوثائق تصرخ أن الأردن وفلسطين تحت استهداف واحد صمد لا يتجزأ. وليس من سيناريوهات العدو للمرحلة القادمة ما يتضمن سلطة للملك. وإن كان يعتقد بالوطن البديل فالوطن البديل يعني ممارسة الفلسطينيين والأردنيين حقهم في تقرير المصير في الأردن بدولة مستقلة وهذا ضرب من الخيال بالنسبة لاسرائيل،وإن حصل افتراضاً خاطئاً فلا سلطة للملك فيها.فنحن في مرحلة تقنين الضم في الضفة والتوطين والتهجير للمستعمرة الأردنية. فخر لك سيدي ونجاة للجميع أن تستقوي بشعبك فهو من يعطيك الشرعية ويحمي مُلكك، فوحده بعد الله وبإذنه، القادر على تركيع القوة الغاشمه.
سيدي الملك، يُجافي المنطق والتاريخ وحقيقة القضية الفلسطينية من لا يعتقد بأن عِداء أمريكا الصهيونية للأردن هو عداء يتطابق ويتكامل مع طبيعة العداء والإستهداف لفلسطين وشعبها ويطال وجودنا، ولا تعني تصفية القضية الفلسطينية بأقل من ولادة القضية الأردنية من مرحلة متقدمة واتحادها مع القضية الفلسطينية من أوسع الأبواب. أمّا وقد أسقطت أمريكا وبالعلن كل الذرائع التي تبنتها القيادة الأردنية لتبرير تحالفها معها، فإن الإستمرار بذات النهج وبصداقتنا وتعاوننا مع أمريكا يصبح لغزا رهيبا بما ينطوي عليه، وإن نسيتم العبرة فلن ينساها الأردنيون حين قدم النظام الأردني لكيان الاحتلال وأمريكا من الخدمات المجانية على مدى قرن ما لا يُقَدر بثمن مادي سوى الدم الصهيوني الذي كان سيسفح حلالاً ومجاناً على ثرى فلسطين، وإللّا لخُصصت مطبعة دولارات للأردن، ومع ذلك حافظت أمريكا على محاصرتنا اقتصاديا في غرفة الإنعاش دون أن تحل للأردن مشكلة واحدة حتى أوصلته اليوم لمرحلة التنفس الإصطناعي، أليس في هذا عبرة لمن يعتبر.
وليكن معلوماً، بأنه إذا تكلمنا عن دولة مستقلة أو مستعمرة، فلم تُظلم دولة أو تُنهب أو تُستباح بشعبها ومقدراتها وقرارها أكثر من الأردن، وكله تجبر استعماري تأمري باطل ولا أثر قانوني له. وإن مجرد رفضنا التزامات المديونية والبيوعات لوطنية لا يكفي. بل من العدل المطالبة بالتعويضات العادلة مقابل ما ارتكبته امريكا بحق الأردن وشعبه على مدى قرن، فهي المدينة لنا وليس العكس، ولا يُسَوي المعادلة هذه إلا الحكم الوطني بسلطة الشعب.
يا صاحب القرار اقول بالمحصلة، كورونا فيروس سياسي بامتياز لا يعرف الفصول الأربعة. ومحصلته التغيير، والحكمة في التعامل الاستشرافي مع تداعياته التي قد تتفعل نتائجها قبل انتهائه. إنها فرصة الشعوب المضطهدة والأنظمة المتورطة للتتحلل من القيود الطاغية،على أن يؤخذ بالإعتبار بأنها ستكون فرصة متاحة أيضاً للطغبان لا سيما الصهيو أمريكي، ولكن على حساب من لا يجنح للتغيير. فهذا وقت الفرائس السهلة، واسرائيل ماضية. والفيصل هو حُسن أو سوء التعامل مع ملف كورونا السياسي وبيدكم أن تكون تداعيات هذا الوباء الفوضى والموت أو الفرج، وإلا فثورة المظلومين والمحرومين والجياع ستكون هي الفيصل.
فأمريكا يا صاحب القرار مقبلة على اهتمامات وتحديات خارجية وداخلية مفصلية قد تنذر بانهيار منظومتها الداخلية وتراجع أولوية التزاماتها الصهيونية. مما يعني وجود فرصة تاريخية أمامك لانعتاقك وعتق دولتنا من السطوة الأمريكية. فالأردن بوضع دولته وشعبه هو المرشح العربي الأول لمخاض الفوضى والدم وعدم الاستقرار.بينما كشفت الجائحه عن عدم النية بتغيير النهج المُجرم في بلدنا بل يتم استغلالها للربح. لا أملك ككاتب إلا أن أتمسك بأمل التغيير الآمن. هذا الشعب قدريٌ لا يخاف الموت، وعلمته قسوة الطبيعة الصبرَ، وإن وصلَ حدوده فسينتزع لقمته من فم الطير وحريته وحقوقه من بين أنياب الغول، وسترى هشاشة الكيان الصهيوني.