صدق الصوفي النفري حين قال “عندما تتضح الرؤيا تضيق العباره”، لا أتكلم هنا للإدانة ولا الإتهام، ولكن للتوضيح والتعبير عن الرأي . صفقة القرن قائمه، وأنجزت اسرائيل منها ما تحت سيطرتها بقرارات أيدتها ووقفت لجانبها أمريكا، بيمنا دول الغرب والشرق كانت ردات فعلها لا تخرج عن تصريحات تجتر فيها مواقفها الملتزمة بلعبة قرارات الشرعية الدولية دون أدنى إجراء عملي أو سياسي يؤكد على اهتمامها أو نيتها بفعل شيء، وهذا أمر طبيعي ومنسجم مع التزام دول المعسكرين الرئيسية باسرائل ومشروعها في فلسطين . وما يجب أن لا يخفى علينا هو أنها جميعها تعلم بأن الأردن منطقة نفوذ لهذا المشروع ، ومخصص لاستيعاب مكونات القضية السكانية والسياسية ، ونظامه محكوم بمحددات أجنبية ولدت مع ولادة الدولة . فعلاقة الأردن بالقضية الفلسطينية عميقة وعضوية تجعل من صراع الأردنيين مع اسرائيل صراع وجود مباشر، تماما كصراع الفلسطينيين مع هذا الكيان ، مما يجعل من تعاطينا السياسي مع أمريكا والغرب ومع الحلول السياسية عبثا مميتا .ومن خيار المقاومة حتميا .
إن ما تبقى من صفقة القرن كمصطلح إعلامي لسيرورة “تصفية القضية الفلسطينية بالوطن البديل ” في إطار مقنن ، لا يقع تحت سيطرة أو ارادة امريكا واسرائيل ، بل هو تحت سيطرة وارادة الجانب العربي وبالذات الفلسطيني والأردني . وإن مسألة التباطؤ في طرح امريكا لإطار هذه الصفقه يعود لعدم اكتمال ارضيتها الشعبية على الساحة الاردنية -الفلسطينية . وإن من يعطي الاشارة لاستكمالها افتراضا منطقيا بصرف النظر عن الواقع هما النظامان المعنيان . لكني أزعم بأن قدرة السلطة الفلسطينية على تحقيق مهمتها هي فوق قدرتها وقدرة أي جهة فلسطينية لأسباب موضوعية تفرضها ثقافة شعب ، ومقاومة راسخة في نفس كل فلسطيني ، تمثلان محذورا ومحظوراً لا يستطيع مسئول فلسطيني تجاوزه . وأزعم أيضا بأن الأنظمة العربية كالسعودية والخليج ومصر لا يمكن لها أيضا منطقيا وشعبيا أن تعلن استعدادها لتأييد الصفقة علنا قبل نضوج أرضيتها السياسية لدى الجانب الأردني على الأقل.
الشمس لا يغطيها غربال والمنطق لا يفسده كلام من خارج معادلته ، والرفض العربي لصفقة القرن مع بقاء حالهم على حاله دون تغيير هو رفض مبرمج ، خادع وفاسد، يُترجم العجز والاستسلام وانتظار الواقعة . إن ما تبقى من الصفقة هو الأهم شكلا وموضوعا ، وهو الذي يسبغ النجاح أو الفشل على ما حققته اسرائيل وأمريكا من اجراءات أساسية لتصفية القضية. إنه العامل السكاني المرتبط بشعب فلسطين وهويته السياسية الوطنية وحقه الأصيل القانوني والأخلاقي بعودته لأرضه وتفعيله لتقرير مصيره على تراب وطنه . وإن أي شكل من أشكال التوطين والتلاعب السياسي لتمرير هذا المفهوم أمر مطلوب اليوم من النظام الأردني ممثلا بشخص الملك . وهو المعول عليه أمريكيا للإنقلاب على الارضية السياسية الشعبية غير المواتية في الأردن وفلسطين . فهل هذا العمل وهذه الجهود الأمريكية منتجة ؟ وما طبيعة تفاعل الملك معها.
لقد اصطف الملك مع الشعب في رفضه وأصبح يقود هذا الرفض من خلال مسيرات شعبية محشودة وغير واعية ، تُستخدم لترسيخ سياسة عربية ، وأردنية بامتياز ، وهي سياسة تُكرس ثقافة تتساوي فيها الكلمة والشعارات مع الفعل والتنفيذ ، وتحل محلهما . والعقلية الأمنية تقرر هذه المسيرات وتتبناها في الشارع كلما كان ذلك ضروريا من باب الشد العكسي . كما قام الملك بحركات سياسية داخلية وخارجية توحي بالتغيير لكنها في الواقع ممارسة ليست جديدة على النظام ، ولا تعدو أن تكون أكثر من رسائل استخدامية ، هي للشعب إيهامية للتهدئة ، ولجهات أخرى هي مجرد استفزاز لأهداف كانت دائما مالية . فالتغير الاستراتيجي لا يبدأ بهذه الطريقة .
الشعب لم يلمس تغييرا عمليا داخليا أو خارجيا ، ولا إجراءً رسميا واحدا ولو رمزيا يصنع فرقا ما بين رفض الشعب المنطوي على طلب الفعل من الملك ، وبين موقف الملك المتمنع عن الفعل المترتب عليه ،والمتساوي رفضه مع رفض أي دولة أخرى بما فيه الدول الغربية نفسها ، فلجأ هذا الشعب الى الأمل والتأمل بحدوث تغيير وهو منشغلا بالاستفسار عن استراتيجية الملك ، الى أن التقط أخيرا الجواب منه ، وتبين بأن الأسس التي يعتمدها لتحقيق ثوابته وحماية لاءاته محصورة في مساعيه السياسية مع الدول الأوروبية على وجه الخصوص . ولكن هل من المنطق لصاحب مسئولية أو سياسي بسيط أن يُسقط اعتباطاً على دول الغرب بالذات ما ليس عندها ولا فيها بل أن ما فيها هو العكس تماما؟ وهل اللجوء لنفس الغرب لنصرتنا على امريكا واسرائيل هو الطريق الذي يراه الملك ؟ إذا كان الأمر كذلك فإننا في سياق استغفال للبسطاء ، وقمع لغير البسطاء أكثر منه تجاهل . لكن المعنى الأهم والمستفاد هنا هو أن المحددات الأجنبية على النظام وسياسته الخارجية ما زالت قائمه.
فنحن نعلم أن النهج السياسي للقيادة الهاشمية في الأردن محكوم بمحددات أجنبية نشأت على أساسها الدولة لتجسد الدور الوظيفي للأردن. عمودها الفقري هو خدمة المشروع الصهيوني في فلسطين، وانتزع شرق الأردن من وعد بلفور لهذه الغاية، أما جناحيها فهما وأد الهويتين السياسيتين للشعبين الفلسطيني والأردني بدمجهما في الهوية السياسية للملك كمتطب للوطن البديل، والأخر إبقاء الدولة في حالة حصار مالي واقتصادي لتبقى مرتبطة بالغرب وحتى لا تقوم دولة راسخة في الأردن . وإن القيادة الهاشمية قد قبلت هذه المحددات لتنقلب عليها وتظفر في النجاة بالدولة والملك والاستقلال مراهنة في ذلك على الوقت، ولم يكن قبولها لتلك المحددات للإستسلام المجاني، ولا نريد لفشلها في هذا أن يتحول للإستسلام.
ومع أن هذه المحددات قد جعلت الترابط بين السياسة الخارجية الأردنية والقيادة الهاشمية ترابطا وجوديا تؤدي الاطاحة بأحدهما إلى الاطاحة بالأخر، إلا أن هذه المعادلة لا يجب أن تبقى مع وصول السكين لنحر أو لرقبة الوطن وكل فلسطين والمقدسات لا سيما بوجود شعب قادر على حماية المُلك الهاشمي على رأس الدولة، فالهدف السياسي الأساسي للقيادة الهاشمية كان وما زال هو الحفاظ على الملك والسلطة معا على رأس الدولة، وحان الوقت لترشيد هذا الهدف، ففي ذلك خروج من المأزق وحياة للجميع.
النظام الأردني هو من تقع عليه مسئولية تمرير الصفقة وهو أيضا من تقع عليه المسئولية الرئيسة في إفشالها، ولكن ضمن أسس مواتية . فنحن اليوم نواجه هذا التحدي بتحالف استراتيجي من طرف واحد مع الغرب الصهيوني ونحتفظ بعلاقات تعاون وتنسيق مع اسرائيل، ونطوع سياستنا الداخلية لخدمة السياسة الخارجية، ونحارب أي توجه حقيقي للتحول الديمقراطي ونمنع وجود حكومات بولابة عامة وبرلمانات واحزاب حرة ونقمع الرأي الأخر، وبمسئولين إما رويبضات أو خبراء فاقدين للحس الوطني والضمير يتولون إدارة مفاصل الدولة، فصنعوا الفساد وجعلوه ظاهرة ثم نهج حكم، وأصبحنا في دولة فاشلة بكل المعايير وبجبهة داخلية مفككة وشعب أجبر على هجر الولاء والثقة بالدولة والمؤسسه تحت ضغوطات العيش وسحق القانون، دولة منتهية ومختزلة اليوم بالكامل بالديوان الملكي الذي لا وجود له ولا ذكر بنصوص الدستور والقانون .هذا الشعب على رأسه ملك هاشمي منفتح على حضارة العصر وخطابه ، ومع ذلك شعبه يُحكم بعقلية أدنى بكثير عن عقلية القرون الوسطى.
بكل أمانة أقول، إن النهج السياسي للنظام هو المسئول عن كل مفسدة وضعف وإذلال، وعن وضع الدولة بكل قطاعتها على مسار متراجع يودي بها للهاوية وكل ذلك لحساب تصفية القضية الفلسطينية والسلطة المطلقه . وإن عدم تمكن الملك من تغيير هذا النهج يعود للأسباب الموضوعية المتمثلة بالمحددات الأجنبية وبالأهداف التي اختطتها القيادة الهاشمية لنفسها بمتطلباتها ومستلزماتها الداخلية والخارجية، إلا أنه يمكن التغلب على ذلك من خلال تولد إرادة سياسية لدى الملك في جزئية واحدة أمنة وأساسية ، وهي بتقديمه أولوية بقاء الدولة الأردنية وصمودها والحفاظ على الثوابت السياسية وتفعيل اللاءات ، على أولوية بقاء سلطته المطلقة ، ولا أقول سلطته . وذلك بتحالفه مع الشعب والإعلان في هذا الوقت بالذات عن تحول ديمقراطي نحو ملكية دستورية تفضي لنهج سياسي مؤهل لاستعادة الدولة والارتقاء بها وفرض القرار السيادي وبناء علاقات خارجية سليمة وتحالفات منتجة .
وبغير ذلك فلا تغيير إلا بالشارع وفي الشارع الاردني كله لا في سجن الرابع الأمني فقط ، والمراهنة هي على تحمل الشعب الاردني بكل مكوناته للمسئولية في هذا بفرض نفسه على أمريكا والعالم كصاحب للقضية والقرار . فالرطل الأمريكي الضاغط على الملك لا يُفقده وزنه الا رطلان.