كنت أعرف الملك عبدالله بحكم عملي وهو أمير وكذلك وهو ملك. والصورة التي كونتها عنه هي أنه اجتماعي دبلوماسي ودود من واقع ذكاء، وصاحب قرار وحازم لا يرضخ لأحد من واقع ملاحظاتي، أما السياسة فقد كان يتجنبها وربما بحكم كونه عسكريا . إلا أن سنين حكمه وما وصلت اليه البلاد جعلتني أعتقد بأني كنت مخطئا، إلا إذا جاءته قوة بالضرورة خارجية وأكبر منه . فلم تتوقف مسيرة الأردن للخلف في عهده حتى في هدنه، ولم يدس على الكابح سوى فترة الربيع الأردني ثم عادت الدولة تهرول للوراء . واتسمت سياسة الملك بالتركيز على الادارة والإقتصاد وكلها تقريبا شملت إجراءات وقرارات نتائجها عكسية وكان أولها منطقة العقبه الاقتصادية التي قَننت وأسست لدسامة الفساد الاداري والمالي والتهريب والتهرب الضريبي وأسهمت بشكل أساسي في ضرب خزينة الدولة والقطاع الخاص .
لقد كانت مطالب الشعب المدجن على ترك السياسة للملك لا تتعدى بالمقابل العيش بكرامة وتحقيق حاجاتهم الأساسية في درء الجوع والخوف . ورغم أن هذا حق دستوري له وواجب على الحكم الراشد والأمين إلا أنه لم يتحقق بعد أن كان متحققا في العهود السابقه . فالأطراف العميقة تحالفت على إدارة الدولة ومقدراتها على نسق لم يكن موجودا في العهود السابقة، وأستهدفتها بالافلاس والتصفيه واستهدفت شعبها بالأرنبة والإذلال والاخضاع بوسيلة الافقار، طبقا للمنظور الوظيفي للدولة في مرحلته الأخيرة .
صحا الشعب متأخرا بعد طول عويل بتساؤلات وببطئ شديد وصحا الملك على هذه الصحوة وليس بيده حيلة ولا جواب . فالاصلاح لم يعد ممكنا ولا منقذا . والثورة البيضاء التي تبدأ من النفس وإرادة الملك السياسية بالتغيير ليست في البال، فكان هروبه من وجه الشعب حلا له . أما عندما يضطر للجلوس مع نخب كرؤساء الوزارات السابقين مسقطا معايير الإنتقائية، فهذا بهدف المشاغلة وامتصاص حركة البعض منهم من جهة، ورفع العتب والظهور أمام الشعب بمظهر مشاركة علية القوم بالرأي من جهة أخرى . فهؤلاء بالمحصلة مجرد رموز اجتماعية صنعها النظام، أو وطنية بفعل الفروق الفردية ولا يَطرح الملك أمامهم شأنا سياسيا للنقاش . بل من يكون منهم على رأس عمله ويُعطي رأيا مخالفا بشأن داخلي كرأي الدكتورالروابده في منطقة العقبة الاقتصادية يفقد مركزه فورا .
والملك في تلك اللقاءات يقول أي كلام، واللازمة في كلامه هي جلب المال والاستثمار ولا يجد بهذا صعوبة بصرف أغرب الكلام المعزول عن الواقع والمنطق ليسمعه العامة . وتساءل الكثيرون عن حديثه الأخير قائلين بأي منطق يتحدث عن مؤتمرات في امريكا وبريطانيا لجلب استثمارات للأردن بينما البيئة في الاردن خَرِبة وطاردة، والاستثمارات القائمة من اردنية وأجنبيه كلها تهرب، والقوة الشرائية للشعب تُصَفر والاستقرار مفقود والفساد سائد . أليس الحديث عن الحفاظ على الموجود من الاستثمارات أولى، أليس رأس المال جبان ؟ أليست الاستثمارات تُجذَب ولا تُطلب، هكذا يتساءلون .
الشعب لا يستطيع المواجهة بالوسائل التقليدية لسيطرة النظام المُحْكمة وتمكنه من منع تشكيل أي تنظيم سياسي أو اجتماعي حر، فجاءت صحوته في الحراك مع كل خميس . ويوم في الاسبوع فيه رسائل ناعمه تعبر عن وجود أمل عند الشعب بتفهم صاحب القرار وفعله لشئ، وتُعبر بنفس الوقت عن صراع الشعب مع ضيقه المالي ومسئولياته اتجاه أسره . لكن جشع المسئولين وغباءهم السياسي جعلهم يتعاملون مع هذا الحراك بسطحية وكأنها جمع مشمشية . بينما هي في الواقع قضية عامة وحية على مدار الساعة تتطور تبعا لطبيعة تطور قرار الدولة ايجابيا أو سلبيا .
مسيرات طالبي الوظائف من المحافظات بطريقة المشي على الأقدام نحو الديوان الملكي هي فكرة خرجت من رحم حراك الخميس عندما أهملته الدوله، كما خرجت هذه المسيرات على الحراك نفسه في تطور طبيعي يصعب وقفه ووقف تطوراته لإهمال الدولة للحراك . وستستمر مسيرات العاطلين لتصبح من حيث لا يدري أحد واحدة من مؤشرات ثورة الجياع، فالدولة فقدت الفرصة ولم تعد قادرة بخزينة منكوبة وقطاع خاص ذبيح على تلبية مطلب الشعب الدستوري وفيه نسبة البطالة الحقيقية تتجاوز ال 40 % ، ورضوخ النظام لسياسة التجويع الصهيونية عملا حربيا، وهذه السياسة ترتد بالمحصلة على أصحابها وعلى الدولة . إنها تمهد للتغيير بطريقة الارض المحروقة التي لا يريدها أحد. ويحضرني هنا الثورة الفرنسية عام 1789 التي أسماها البعض بثورة الجياع حيث كانت فرنسا ترزح تحت ضغط الديون وتهديدات خارجية وتعيش في تخبط ضريبي وغضب شعبي وفساد رجال الدين والارستقراطيين، ولا شك أن حديثي هذا يسري على معظم الدول العربية.
لقد استُخدِم القطاع العام ووظائفه في الأردن مكانا للاسترزاق والمرتزقة والسطوة والسطو، وبينما كان يفترض به رعاية القانون العام والتأطير لتحقيق نمو اقتصاد الدولة والتنمية المستدامة وتوفير البيئات الفنية والاجرائية والقانونية اللازمة لذلك من خلال صنع قطاع خاص سليم معافى ومحمي ومدعوم كقطاع هو المعني والقادر على حل مشكلة البطالة والحفاظ على استقرار الدولة، فإن ما جرى هو استهداف هذا القطاع، واستهدافه هو الذي سيهدم الدولة واقتصادها ومواطنيها.
من الضروري أن يكون معلوما بأن فلسفة ثورة الجياع موجود في أحد شعارات الحراك الأردني وهو (ليش نموت وإنت تعيش) وليس هذا الهتاف موجها للملك وحده أبدا بل إلى أي انسان يمتلك شيئا بصرف النظر عن كونه مسئول أو غير مسئول فاسد أو غير فاسد وذلك بدافع غريزة الحياه والحشر في الزاويه وعندما تصبح الحياة هي والموت سيان، فهي ثوره مجنونه، ثورة المجتمع على المجتمع والمؤسسية، ولا ينجو منها أحد ولا مال يحمي صاحبه، فكل القيم والحدود والعواطف فيها تسقط، والاصلاح حينها لا يعني للناس شيئا، إنها صورة تذكر بالإنفجار العظيم الذي يتمخض عنه نظام دون قصد.
ونحن في الأردن وفي معظم الدول العربية إذا ساوينا بعلم الجبر عبارة ثورة الجياع بكلمة المطر مثلا فنحن نعيش في جو الغيوم الماطره، فثورة الجياع ردة فعل طبيعيه على وضع غير طبيعي في ضغوطاته، وانتحار شخص بسبب عدم قدرته على تزويد أبنائه بأساسيات الحياة مظهر إذا لم يهز كيان الحاكم فسيهز عرشه وكل ما في أمامه، ولا شك بأن الدولة التي تراهن على صبر الناس وعلى جبروت أدواتها القمعية رهانها هو مغامرة خطيرة وغير مدروس، فثورة الجياع لا يوقفها شيء لأنها انفجار داخلي في النفوس بوجه المجمل ولا يحتاج لأكثر من شراره طائشه.
ما يجري في الأردن من مسيرات شعبية عابرة للمحافظات باتجاه الديوان الملكي لا باتجاه رئاسة الحكومه وبشعارات خالية من السياسية بهدف عدم إعاقتها، وبمطالب يستحيل تحقيقها أمر يجب التوقف عنده وليس المرور عنه، إنه محل تقارير السفارات الأجنبية في عمان لعواصمها، فالعواصم الأجنبية تعلم بما يجري لدولة حليفة لها وتصمت، والمعنية منها بالتخطيط لما يجري والمشاركة به تعلم الدور المطلوب حاليا من الأردن ومن الملك وتقوم بالتغطية عليه بمؤتمرات دعم خادعة وبلا أساس، وعلى الملك أن ينتبه جيدا لما يحاك لهذا البلد على مذبح المشروع الصهيوني وبالمطلوب من الأردن، الوضع لا مخرج منه إلا بتموضع سياسي وتحالفي جديد يتفق مع ضرورات مواجهة التحدي الكبير، والشعب واع تماما وعلى أتم استعداد للتضحية إذا تحققت الارادة السياسية عند الملك، أمريكا والصهيونية على باطل والباطل كاذب وغادر.