هل يخذل اردوغان شعبه وشعبنا، وهل لديه استراتيجية تخليص تركيا من المعسكر الصهيوني، أم هاجسه إعادة هيكله إرث أتاتورك.
لا يمكن تسمية أي دولة اسلامية أو عربية تعترف بالكيان الصهيوني او تقيم علاقات معه ككيان غريب يحتل أرضا عربية اسلامية، إلا بدولة غير مستقلة بقرارها أو دولة عميلة . وهناك فرق بالدرجتين، وتركيا كانت منذ عهد أتاتورك محكومة بعسكر الدونمه الصهاينه، فكانت لذلك دولة غير مستقلة بقرارها لغاية عهد اردوغان الذي لم يأت بثورة شعبية كما حدث في ايران بل جاء متسللا عن طريق اللعبة الديمقراطية.
مفهومنا المتفائل بنقل تركيا من المستنقع الصهيوني تدريجيا التقطناه من خلال مواقف أردوغانية من الكيان الصهيوني ودعمه السياسي أو الاعلامي للقضية الفلسطينية بما يختلف عن عهود غيره . وكان علينا أن نأخذ تلك المواقف بإيجابياتها المفترضة على أنها في سياق التحول التدريجي عن المعسكر الصهيوني، وأن نفترضه تحولا تدريجيا حقييقيا لا سيما عندما قطع أردوغان مرحلة مفصلية بتمكنه من التخلص من حكم عسكر الدونمه الصهاينة، وأتبعه بتمتين قبضته من خلال نقل تركيا للنظام الرئاسي الديمقراطي كوسيلة فسرناها على أنها تمكنه من مواجهة المراكز والبؤر الصهيونية والمعارضة وتنظيف تركيا .
لكن ما انتهى اليه الموقف التركي من قضية الخاشقجي في خطاب أردوغان الذي وعد به العالم كان محبطا للكثيرين ممن كانوا يتوقعون منه أن يكشف الحقيقة ويوجه الاتهام بها مباشرة لرأس النظام السعودي ومعسكره . وإذا افترضنا صحة رأي هؤلاء وبأنه موقف أردوغاني قائم على ترتيب ما، فإن موقف الرجل عندها يلامس التواطؤ، ويصبح بإمكاننا القول, بانه لا يكفي أن نقيم هذا الموقف على أنه مجرد تضحية بمصداقية تركيا وبمبادئ القيم والأخلاق لحساب مصالح اقتصادية تتصل بعقوبات ترمب على تركيا أو بالوضع السوري ,. بل لا بد من ربطه بعدم مصداقية التحول التركي عن المعسكر الصهيوني .
لقد كان مفترضا ومتوقعا أن تكون مسألة الخاشقجي كمسألة استهدفت تركيا واخترقت أمنها وسيادتها، فرصة لأردوغان للتقدم خطوة أخرى على طريق تخليص تركيا من القيود الأمريكية – الصهيونية، وفرصة لبناء موقف منسجم مع مواقف الدول المصرة على سلامة استقلاليتها واحترامها لقيم القانون الدولي وحقوق الانسان، ومناسبة مفصلية لترسيخ حسن نواياها ونوايا سياساتها للعالمين العربي والإسلامي . فالشعب العربي لا يهمه تصفية حسابات السعودية مع شخص كان شريكا لها واعتبرته خانها حين انشق عنها بما يحمله مثلا ـ بل ما يهمها هو أين تتوجه الاستراتيجية التركية
فتركيا اردوغان التي كانت على موعد مع العالم ليقرأها في مسألة تعدت مسألة اغتيال سياسي الى مسألة رأي عام عالمي، كانت كما عتقد البعض على موعد مع المعسكر الصهيوني بنفس الوقت، وكأنها خذلت شعبها والعالم . لكن الأهم هنا فيما إذا صح ذلك وكانت مدفوعة برغبات أمريكية من خارج المصلحة التركية . حيث سيشكل هذا طعنا ماديا ونكسة لطموحاتنا وتفاؤلنا بجدية انتقالها الى مرحلة الانفكاك عن المعسكر الصهيوني . بل ربما علينا أن نفهم حينها بأن تبنيها للمعارضة السورية كان استخداما وجزءا من السياسة الصهيونة على حساب المصلحة العربية .
لقد كان مفهوما لبعضنا بأن الخلاف التركي السعودي قائما على تزعم العالم الاسلامي وعلى إخوانية الحزب التركي الحاكم وعلاقته بقطر، أو لأسباب أخرى تخص المصلحة التركية الصرفه، وكان مفهوما لبعضنا الأخر بأنه في سياق انفكاك تركيا عن المعسكر الصهيوني الذي فيه السعودية ركنا عربيا مؤثرا . إلا أن ذلك يتآكل مع كثير من المحكات، وربما سقط أمام امتحان الموازنة بين المبادئ والتوجهات التركية التي سمعناها وشاهدناها وبين قوة جذب ثقافة قرن من الارتماء بحضن المعسكر الصهيوني، وقرن من الإحساس الشعبي العربي السلبي اتجاهها .
فخلاصات سياسات وممارسات أردوغان الميدانية تصب في شعار تركيا أولا وأخيرا بصرف النظر عن الوسيلة، وهذا الشعار يندرج في سياسة هي أقرب للتصحيحية لسياسة اتاتورك التي فصلت تركيا عن الشرق العربي والاسلامي علنا وأذلت الثقافة التركية والاسلامية، وليس أبعد من ذلك
من الضروري هنا في تقييمنا أن لا نكون أسرى لمواقف مسبقه، وأن لا يركبنا التشاؤم من مصداقية التحول التركي الجذري، وأن لا نستثني وضع خطاب أردوغان الأخير في سياق سياسي بريء ومدروس لتجريم المعسكر الصهيوني بطريقة محكمة وآمنه، وأن ننتظر للوقوف على الحقيقة من خواتمها التي لن تطول، ولكن هذا يجب أن لا يمنعنا من نقد مواقف اردوغان التي نراها متناقضة كي تصل للشعب التركي كوننا لا نراهن على النوايا، فالشعب التركي هو القادر على مواجهة وتعديل مسار أردوغان المتناقض والراضخ في أحيان كثيرة، والقادر على تمييزها فيما إذا كانت في سياق العجز السياسي البريء النية، أم في سياق نوايا غير مختمرة بانفكاك تركيا عن المعسكر الصهيوني .
كاتب وباحث عربي