الاختراق الاستخباري بكل أشكاله كان تاريخيا وما زال هو العامل الحاسم في الانتصارات والانكسارات للدول لا يردفه سوى الطوابير الخامسة، وقد استخدمت الدول الغربية المعنية والصهيونية هذا السلاح كسلاح رئيسي في حملتها الاستعمارية على دول الوطن العربي مبكرا وفي مختلف حروب الصهيونية العسكرية ضد الأمة، لكنها في ضوء انحلال الوضع العربي طورت الشبكات الاستخبارية الارهابية الى تنظيمات بمهمات تنفيذية متشعبة في سابقة تاريخية.
أتكلم هنا على هامش الخوذ السوداء وليس عنها . فوجودها لا يقتصر على سوريا بل هي موجودة في كل ساحة عربية ساخنة في هذه الحقبة بأغطية وأقنعة مختلفة، لكن وجودها في سوريا اتخذ غطاء دوليا رسميا معلنا يُمَكنها من الانتشار مكانا وزمانا للقيام بدورها على صعيد كل الأضداد للتتمكن من صنع الحدث المطلوب باتجاه الهدف المطلوب، وكتب الكثيرون عنها في الأونة الأخيرة وقيل الكثير، ولكن ذلك كله تحت عنوان مضلل هو “أزمة انسانية لمنظمة إنسانية ” تمثلت في كيفية خروجه من سوريا خروجا آمنا.
وعلى هامش هذا العنوان جاءت تساؤلات مشروعة لتكشف عن تورط هذه المنظمة في تأجيج الحرب على سوريا وصنعها الأحداث المأساوية، والتي توسعت لتشمل علاقة هذه المنظمة مع التنظيمات الارهابية وتواصلها الجغرافي معها بما يؤكد أنها جزءا وظيفيا منها، ولكن ما أضيفه هنا هو تساؤلات أساسية وخطيرة لم أسمعها وذلك في سياق ارتباط هذا التنظيم الرسمي مع المعسكر الغازي لسوريا والمنطقه، وخروجه الغامض الملتبس في حقيقته وهدفه.
وتتعلق هذه التساؤلات التي لم أسمعها بالدور السياسي لهذا التنظيم في سوريا وربط هذا الدور بالصراع الروسي مع الغرب وأمريكا في سوريا لصياغة التسوية النهائية . وهذا هو ما يوصلنا للسؤال الكبير اليوم وهو ، هل انتهى فعلا دور هذا التنظيم السياسي الاستخباري التنفيذي في سوريا وعلى أي أساس، وهل هو مؤشر على انتهاء الأزمة السورية واستقرار حل سياسي لا نعلم تفاصيله؟ إن مفاتيح الإجابة عليه بالنسبة لنا كعرب هو عند روسيا التي اصبحت في موقع الطرف العربي في سوريا والمنسق الدولي العام على صعيد أزمتها، وهو موضوع أكبر من إمكانياتي للحديث فيه بموضوعية .إلا أن الأزمة السورية لا تحل إلا في إطار إعادة ترتيب الأوضاع السياسية والجغرافية في كل بلاد الشام بما فيه فلسطين وقضيتها بقبول من دولة الإحتلال
لذلك أترك الحديث الموضوعي عن دور التنظيم في سوريا وما ينطوي عليه خروجه منها دون أن أجزم بأنه سيكون خروجا حقيقيا وكاملا، وأتكلم عن الموضوع اللوجستي المرتبط بهذا الخروج واللغط الذي دار حوله . ففي ذلك ما يوضح الوجهة الجغرافية السياسية لأزمة المنطقة وليس انتهائها . وبوتين في هذا عملاق سياسي في مواجهة الغرب وخونة العرب ويفتقد لحليف أو شريك عربي وازن الثقل والثقة مما يوسع الضبابية أمامنا.
لا يمكن النظر بأي معيار الى خروج الخوذ من سوريا على أنه خروج بريء، ولو كان خروجا بريئا لما كانت هناك مشكلة لوجستية عند امريكا والدول الغربية التي جعلت من ذلك حدثا ومعضلة في الوقت الذي فيه كل الأطراف الدولية والإقليمية المتواجدة على الأرض السورية بما فيه الحكومة السوريه متفقة على خروجه وليس لأحد منها اعتراض . فالأجواء والحدود متاحة وأمنة لهذه الغاية من كل الجهات المحيطة بسوريا ولدى الدول المعنية القدرة في هذه الحالة على نقل وإخلاء جيوش بكل معداتها بأمن وهدوء .
فالمشكلة اللوجستية هي بالتأكيد مفتعلة وهادفة . حيث يمكن نقلهم مباشرة من سوريا الى الدول التي رحبت باستقبالهم دون التذرع بصعوبات جغرافية أو أمنية غير موجودة، ولا باجراءات ادارية وبيروقراطية هي تحت سيطرتها، وإن اختيار الأردن واقحامه باستقبالهم بهذا الكم والوقت عن دون دول الجوار مع وضعه الذي يعرفه الجميع غير مبرر، بل كان مرسوما وعليه علامة استفهام ومصدر قلق كبيرين.
كيف لا يكون الأمر كذلك وقد أصبح مكشوفا بأن تنظيم الخوذ كهيكل جماعي وكأفراد مرتبط وجوده وانتماءه وعمله بأجهزة الغرب الاستعمارية وبأنه لا يختلف عن تنظيم داعش والنصرة الا في الأدوار والاختصاصات وطريقة الإخراج، وهذا المفهوم حاضر عند روسيا وكل الأنظمة العربية، وبالضرورة فأن الملك وأجهزة الاستخبارات في الأردن يعلمون ذلك أيضا، فهامش الحرية في اتخاذ القرار السياسي في الأردن المرتبط بالإرادة الأمريكية فيما يتعلق بالأزمة السورية، من المفترض أن يشمل رفضنا لدخول الارهاب الهادف سياسيا الى الأردن لأن فيه انتحار
نعلم بأن إن أي قرار أردني داخلي أو خارجي بمسألة لها مساس في السياسة الخارجية والشأن الدولي السياسي، هو قرار لا يكون من صنع أردني بل من صنع خارجي، وإنه ومنذ سلمت بريطانيا وديعة الأردن لأمريكا أصبح قرارا أمريكيا باستثناء بعض القرارات الوطنية التي اتخذها الملك الحسين رحمه الله بعبقريته السياسية وخرج منها سالما بنفس العبقرية .لكن ملوك الأردن لا يتفقون مع امريكا أو الغرب في حالة أن يطلب منهم الإنتحار بمفاهيمه المختلفة . وعلى سبيل المثال المرتبط بما سأقوله ، فإن الأردن عندما قرر رفض إدخال السورين الهاربين من معركة تحرير الجنوب السوري من الارهابيين الى الأردن ، لم يكن قراره هذا بمعزل عن الارادة الأمريكية بصرف النظر هنا عن الأسباب فقد سبق وأدخل ما يزيد عن الملونين من سوريا بظروف متشابهة وبلا شروط.
واليوم لا أدري عن الصورة والتفصيلات التي وُضِعت أمام الملك من أجل قبول إدخال عناصر هذا التنظيم وهو يَعرف دوره في سورية وهويته وارتباطه وانتمائه بالمعسكر الغربي – الصهيوني وبمنظمات الإرهاب، وأن يكون دخولهم تدريجيا لا دفعة واحدة ، فهل من دخل الأردن هو حصته في توزيعة مرسومة لهذه الخوذ .وإن لم يكن كذلك فلماذا لم يطبق عليهم في هذه الحالة شروط الترانزيت المستقرة مفهومها دوليا.
وهنا أقول ليس سرا بأن أمريكا لا تحتاج الى رجال استخبارات في الأردن ولا إلى أي شكل من أشكال الإختراق السياسي، وعليه فإننا نستطيع معرفة ما يحدد طبيعة واختصاصات ومهمة المجموعة التي اختيرت من تنظيم الخوذ السوداء لتستقر في الأردن ، فهل اختصاصاتها أصبحت مطلبا للمرحلة، وما هي هذه المرحلة التي يمر فيها الأردن.
لا نستطيع القول إلا أن مخطط إدخال الخوذ السوداء للأردن يشكل إضافة نوعية لكل ما يجري في هذا البلد على كل الأصعدة الرسمية والشعبية شمل كل مفصل في الدولة وغيب البوصلة عن الجميع في سابقة ليست من صفات الدول، إلا أن هذا كله في كفة ، وانعزال الملك عن هذا الواقع في الكفة الثانية ولا يمكن علميا ونظريا نفي الصلة والارتباط الوثيق بين الكفتين، ولا يمكن تفسير ذلك إلا أن الأردن يمر بمرحلة الدولة الإنتقالية.
وخلط الأوراق الرهيب أصبح سيد الموقف في الأردن حاليا قوامه انفلات على المستوى الرسمي الداخلي وانفلات على المستوى الشعبي تجمعهم لعبة أو ملهاة واحدة هي الفساد، وما هي الا جانب في لعبة سياسية كبيرة أسبابها خارجية وحلولها خارجية فليست أجهزة الاستخبارات الأمريكية بعيدة عن الفساد الادارى والمالي في الأردن لأسباب سياسية وما الخلاف بين الحكام وأجهزتهم إلا في إطار توزيع الأدوار .ومراكز القوة متعددة قد طورت مصالح لها وشكلت لنفسها شبكة أمان، وبأن الحكومات لا تستطيع فعل شيء دون ولاية وحماية سواء كان يترأسها نظيفين ومخلصين أو فاسدين ومفسدين.
ما كان الشأن الأردني السياسي يوما أكثر ارتباطا بالشأن السياسي السوري ومآلاته من هذه الفترة على خلفية القضية الفلسطينية والتصور الصهيوني لسيناريو تصفيتها . وما كانت قيادتي البلدين والأوضاع الداخلية في البلدين أسوأ من هذه الفترة وأضعف . المؤسسات الأردنية الحكومية حاليا والشعب معها يسيرون بقوة التسارع أو الدفع التي ستوصل الدولة لمستقرها المرسوم طالما لا تجد هذه القوة مؤثرا يغير اتجاهها . ولا نعلم إن كان الإنتقال الى المستقر الجديد سيكون سلسا وأمنا أم من خلال نسخ السيناريو السوري وباقي الدول العربية، نحن لا نسأل رد القدر ولكن اللطف به.
كاتب وباحث عربي