النظام الرسمي الأردني بمَلكِه وحكومته يُطَلِّق السياسة بالثلاث، بينما الدولة هي كيان سياسي، والأردن يواجه تحدياً غير نمطي يطال الدولة كوطن وكشعب. ولم يعد للنظام أولوية تتقدم على أولوية اجبار الشعب للحذو حذوه بترك السياسة ونسيان الوطن والتهديد الوجودي. إنه يستخدم لهذه الغاية لعبة أمريكية صهيونية مكشوفة، هي لعبة “الموت والحياه ” التي تضع المواطن في حالة دفاع شخصي عن النفس أمام إرهاب الدولة المعيشي والأمني بضغوطات واستهدافات عبيطة وغير مبررة ليكون في ذلك حافز لتحريك مشاعر التحدي الشعبي والقلق بما يكفي لحرف وجهته كليا بخطابه وعمله وحراكه بعيدا عن الشأن السياسي والوطن،وسوقه باتجاه لا يلتقي مع اتجاه تمرير متطلبات صفقة التصفية في الأردن.
مهمة النظام في هذه اللعبة هي استبدال شعار “الأردن أولاً ” الذي انتهت مرحلته الى شعار فردي لكل مواطن بعنوان ” أنا أولاً ” لجعله متماهياً معه في طلاق السياسية والشأن العام، وإيصاله لمرحلة لا مجال فيها للسياسة والعمل الوطني، وإن كان فسيكون بمثابة الإنتحار المجاني. إنها السياسة الصهيونية المتبعة في الساحتين الفلسطينية والأردنية. وقد استطاع هذا النظام المتعامي عن كل ما يجري في الاردن وبالأردن أن يحقق لتاريخه هذا الهدف بفرض لعبة ” الموت والحياة ” وهي نفس اللعبة التي مهد لها وفرضها الصهيو أمريكي على هذا النظام نفسه أيضا.
يتساءل المرء كيف لهذا النظام الممثل بشخص واحد هو الملك، أن يستطيع بفترة وجيزة الاستحواذ على دولة وقرارها،وينجح في عزل شعبها تماما عن دولته ووطنه وهويته الوطنية وعن حقه بتقرير مصيره، وينجح في تنفيذ سياسة تَصنع وتَفرض للشعب أولوياته ويحددها بالغريزية ويجعلها بنفس الوقت سرابا كلما يركض نحوها مترا تبتعد مترا. ويصنع نخباً قابضة بأدبيات القن والديك، مستسلمة تمتهن التشخيص بكلام غير منقط تجتره وتتوقف عنده. ويستطيع هذا النظام بالمحصلة أن يضع وطناً وشعبا في فم الغول الصهيوني.
أقولها بكل قناعة أن وسيلة النظام المحلية للوصول لهذه النتيجة كانت العشائر والقبائل الاردنية التي نجح باستخدمها لتعزيز وجوده وبقائه أمام مستخدميه المستعمرين ولتمرير مراحل متقدمة من المشروع الصهيوني على ظهرها حتى وصل المشروع إلى الأردن وشعب الاردن وجاء استحقاق التخلص من هذه العشائر واستهدافها كغيرها. وكانت البداية أن رماها عظمة بلا لحم ولا وطن ولا بوصلة. والأهم أن هذه العشائر لا ترعوي ولا تراجع نفسها بل تستجيب للعبة الموت والحياة لتفقد وطنها ونفسها.
يتوارى متخموها وفاسدوها عن المشهد ويطلبون الرضاء من النظام حفاظاً على حصتهم من ثمن الوطن، بينما يعرض خونٌ أخرون خدماتهم لقبض شيئاً من ” دِيَّة الوطن ” وينزل أشقياؤها ومهمشوها بمجموعات للشارع بحراك يطالبون بالخبز والوظيفة، لتقتضي عندها لعبة الموت والحياة سجن بعضهم، فيتغير خطاب الرغيف في الحراك إلى خطاب اطلاق سراح المعتقلين. وينجحون بإطلاق سراحهم ليدخل السجن أخرين في إطار استئناف حراك الهتافات المذلة والجاهلة بالواقع السياسي الذي يمرون به من وزن ( ما خلقنا لنعيش بذل، الموت ولا المذلة، يا ألله ما لنا غيرك يا ألله،وغيرها مما أستحي من ذكره ) إنها هتافات تعبر عن الذل نفسه. فالمذلة والكرامة عند هذه الطبقة المتسيدة لخطاب الشارع مفهوم يتعلق بالجوع والشبع والدرهم، وليس الدوس على رؤوسهم أو حرمانهم من حقوق الانسان والمواطنة ولا استعمارهم أو نزع وطنهم منهم فيه مذلة. إلا أن هذه الثقافة ليست موروثة…إنها المستوى التوعوي والسياسي والثقافي الذي اكتسبوه من النظام. فتاريخ الأباء محكاة وطنية وكرامة في حقب المجاعات..
لم تكن العشائر شرقي النهر معزولة عن الوطن قبل أن تتشكل الدولة وبعيد تشكيلها، فقد تفاعلت مبكراً مع القضية الفلسطينية كقضية وطنية وأسهمت في نضالها. وبعد تشكيل الدولة لم يخلو خطابها من الهم الوطني الأردني ولا من الهم الفلسطيني. وهذا بعينه الذي فرض على النظام والمستعمر احترامها واحترام مواطنيّتها وقيمتها وقِيمها، إنه تمسكها والتصاقها وانتمائها للوطن أولا وأخيراً وبما تقدمه للوطن، فاعتبارية العشائر الوطنية وقوتها كمجموعات اجتماعية وكأفراد هي من قيمة علاقتها بالوطن ونكران نفسها أمامه. فلا مواطن ولا مواطنية ولا عشيرة أو قبيلة بدون الوطن، بل “نور أو غجر”. والمجموعات الحراكية باسم العشائر والمناطق وليس باسم الوطن هي طعنة في صدرها قبل أن تكون طعنة في صدر الوطن وطعنة في الهوية الاردنية الوطنية الجامعة وفي وحدة الشعب، وهذا ما يريده المستعمر ونظامه.
ومن هنا فإن أل التعريف الذي يبتدئ بها اسم العشيرة الاردنية أصبح يُعرِّف “الطز”، وتاء الجمع التي تنتهي بها مربوطة كانت أو مفتوحة تُعرف اليوم “ألف طز”. ليمت نظام العشائر ومرحلته وقانونه أمام دولة الوطن وترابه، وليمت الإنتساب اليها على حساب الانتماء للوطن، وسحقا لشيخة النظام ومشايخه المأجورين لبيع الوطن. وليصعد أبناء العشائر كأبناء وطن وشعب وأمة، وليتقدم مثقفوها ومفكروها وسياسيّوها ووطنيوها الصفوف لوضع أبنائها على خط العقيدة والقيم والوطن، فالعشائرية والقبلية ردة في هذا العصر. لقد أصبحت بعزلتها عن الوطن وقيم الدولة والواقع السياسي والدولي المذبح الذي نُنْحَرُ عليه ويُنحر الوطن، نعم إنها نتنة وتجر للكفر وفقدان الوطن والكرامة.إنها سلاح القتل الذاتي. وكلما انطوت من ديارنا بحكم التطور يعيدها الينا المستعمر. نحن نعيش مرحلة تنفيذ وعد بلفور بصمت. انها المرحلة التي لا تتقبل جاهلا يقود، ولا يتقدم فيها خطاب على خطاب الوطن السياسي والنضالي، ولا انشودة على انشودة الوطن. ولتكن الملايين الثمانية هي عشيرة الوطن فليس هناك من هو مقطوع من شجرة..
عودة للنظام، فصورة الحكم القائمة في الأردن كدولة ليست طبيعية بكل مقاييس الحقب التاريخية. صورة فيها يَنظر الملك للشعب كقطيع أغنام، وهو الذي عاش ثقافة الديمقراطية الغربية وحقوق الإنسان، ويُمارس اليوم دور حاكم لم يصله ملك في العصور الوسطى بفارق تاريخي استثنائي هو أن الدور الذي يُمارسه يُمارَس عليه من قبل نفس العنوان، والعنوان هو عدوه وعدو الوطن والدولة. صورة يتكلم فيها الملك ما يشاء أو ما يُقال له أو يُكتب، ويمارِس ما يشاء مختزلا بسيف العدو شعبا بأكمله ووطناً بكليته لحساب وعد بلفور وتكامليته على أرضي فلسطين والأردن.لا لسان يسأل أو يحاور أو يعترض فكل مسئول على طاولته طرش. الملك مخطئ بنظرته للشعب وباعتماده على العدو،لأن الكائن الجمعي لا يرحم والشعب كائن جمعي لا يموت فهو يتناسل نفسه ليوم الدين ولا رابط مشتركا له عبر الزمن غير الوطن ولا عدوأ مشتركاً باق له غير عدو الوطن.
وبهذا اقول ببساطة. الملك ليس فرعون. وإن اعتقد بأنه فرعون أقول له انت سيدي ليس كذلك، ولا تمتلك أدنى الأسباب التي يمتلكها فراعنة الأنظة العربية، فالحكم في الأردن هو الأكثر هشاشة وراعيه الأمريكي ليس له أصدقاء، بل يعتبرهم عملاء مرشحون للتصفية. ومقومات الدولة كأجزاء دمية أطفال جاهزة للتسليم مفروشة، والمصير يا صاحب القرار مرتبط بكحّة من أمريكا أو كحَّة من الشعب. ولكن إن كَحَّ الشعب أم لم يكُح فإن الوطن لا يُستملك ولا يباع ولا يُسلّم لعدو أو صديق والفعل من هذا النوع باطل ومردود. ومن يملك الحكم لا يملك الوطن حتى لو أفرغت الأرض من شعبها فالشعب لا يموت. لكني بالمقابل أقول بأنه لوبقيت الأمور تسير في الأردن على هذا النحو المودي بالوطن فإن أحبال المشانق تصبح استحقاقاً وطنياً وشرعياً على رقاب كل كل النخب و الساسة وكل جسم سياسي وكل مواطن لا يتغير نحو المواجهة التي ترقى لإنقاذ وطن، فسلوكها السلبي أو التقليدي ليس إلّا أداة تعاون غير مباشرة في تسليم الوطن. ولا حيادية لأردني تحت أية ذريعة.
الجديد الذي استفزني لكتابة هذا المقال هو أننا كشعب أردني يواجه أكبر محنة وطنية، ننتظر الملك ليخرج علينا بخطاب سياسي يجلي شيئا من ظلام وظلامية المشهد، ونُفاجأ بخروجه علينا مبشراً بعزمه على تنفيذ ما أسماه “استحقاق دستوري ” بإجراء انتخابات نيابية وبموجب نفس القانون اللعين أيضا. يا صاحب القرار، أي استحقاق هذا الذي تتكلم عنه ؟ وأي استحقاق دستوري يمكن له أن يسمو أو يتقدم على استحقاق حماية الدولة والوطن والشعب عندما يكون هذا المجمل في خطر ؟. سيدي كل جاهل أردني قبل العالِم يعلم بصفرية تأثير كل مسئول وكل سلطة وكل مجلس في هذا البلد سوى التأثير السلبي في إطار هذا النهج المجرم. وكل استحقاق دستوري لا يصب في خانة مواجهة صفقة القرن والمخطط الصهيوني وحماية الأردن وإيقاف الغزو الاسرائيلي هو استحقاق صهيوني وليس دستوري. وكل من يتعاون معه من هذا الشعب في هذا الوطن هو بحكم الشريك في ذبح الأردن والأردنيين وفلسطين والفلسطينيين.